هذه المقالة هي الفصل الرابع من كراسة «إقامة الجسور بين الضفتين»، وهي قراءة في نتائج دراسة مسحية أجراها مشروع حوار المتوسط للحقوق والمساواة الممول من الاتحاد الأوروبي، لمراجعة نشاط المجتمع المدني في منطقة المتوسط.

تختلف منظمات المجتمع المدني المشمولة في الدراسة المسحية التي أجراها حوار المتوسط باختلاف الحجم والاختصاص والصفة القانونية ونموذج العمل مكونة بذلك مجموعة غير متجانسة. تتضمن العينة منظمات غير حكومية ومؤسسات ومراكز أبحاث ومؤسسات وغيرها من الكيانات.

بعض المنظمات منظمات متينة لديها موازنة سنوية كبيرة[1] في حين أن الأخرى عبارة عن هياكل متوسطة الحجم أو جمعيات صغيرة الحجم. تعمل المنظمات على أولويات مواضيعية مختلفة مثل الشؤون البيئية والتنمية الاقتصادية والتعاون التربوي والثقافي أو حقوق الإنسان.

حوار المتوسط الموازنة السوية للشبكات
الموازنة السوية للشبكات

تدّعي غالبية المنظمات التي شاركت في المسح بأنها تتمتع بطموح إقليمي. وبالفعل يغطي بعض المنظمات المنطقة كاملة أو مجموعة من الدول، في حين يركز جزء مهم نطاق اهتمامه الأساسي على بلد واحد. وعلى الرغم من هذا التنوع، تواجه هذه الشبكات الإقليمية تحديات مشتركة سيما درجة عدم الاستقرار الشديدة التي تسود الجوار الأوروبي الجنوبي الذي تعصف به الأزمات السياسية والاقتصادية.

عقبات متعددة الأوجه تقيد عمل منظمات المجتمع المدني على الصعيدين المحلي والإقليمي

تعرضت ضقة المتوسط الجنوبية لتقلب في ظروفها ظهر في حالة انعدام الاستقرار السياسي التي تؤثر في دول كثيرة من دول المنطقة، والتي غالبا ما تترجم إلى تدابير قمعية بحق منظمات المجتمع المدني المستقلة والناشطين[3]. يصف مرصد سيفيسكوس Civiscus عام 2019 المساحات المدنية في منطقة الشرق الأوسط بأنها أسيرة المعوقات والقمع والإغلاق[4]. إن الوضع حساس إلى حد بعيد في المناطق التي تعاني القمع وتمزقها الحروب الأهلية. مارست السلطات المحلية على الفاعلين من المجتمع المدني ضغوطا متعددة الأوجه أبرزها الملاحقة القضائية والقيود القانونية والقيود على السفر ومنع التمويل الأجنبي وإقفال الحسابات المصرفية[5].

يحد هذا الظرف من قدرة منظمات المجتمع المدني هذه على العمل محليا. وعليه، قررت منظمات كثيرة، في استراتيجية لكسر القيود، الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو الانتقال إلى أوروبا، لكن من الصعوبة بمكان بالنسبة إلى الشبكات الإقليمية عقد نشاطات في بيئة قمعية تتمزقها الحروب بفعل السياق الأمني المحلي و/أو القيود المفروضة على العمل. وفي الوقت نفسه، باتت مشاركة الفاعلين في المبادرات الإقليمية التي تعقد في الخارج أمرًا بغاية الصعوبة نتيجة القيود المفروضة كذلك.

هذا وتؤثر هذه التحديات في إمكانية تمتين القدرات المؤسسية لهذه المجموعات من ناحية عدد الموظفين والوصول إلى بناء القدرات والحوكمة الداخلية… الخ. ومن غير المفاجئ أن تحتل هذه المنظمات المدنية مرتبة دنيا في مؤشر USAID لاستدامة منظمات المجتمع المدني[6] مما يعكس حالة ضعف عامة. ويصح ذلك بالدرجة الأولى بالنسبة إلى المنظمات الجزائرية والليبية.

 يبدو أن الاضطرابات السياسية في المنطقة تؤثر في إنشاء الشبكات لاسيما الكبيرة منها في المنطقة، وباستثناء الأردن وتونس ولبنان، قليلة هي الشبكات الفاعلة في أكثرمن بلد التي اتخذت من دول الجوار الجنوبي (المقصود منطقة الشرق المتوسط باعتبارها المجاورة لأوروبا من جنوبها) مقرا لها، وكثيرة هي المنظمات التي قررت أن تستقر في أوروبا.

يسهّل العمل من أوروبا الإجراءات الإدارية، ولكنه يصعّب على الشركاء من الشاطئ الجنوبي المشاركة في النشاطات بأشخاصهم. واجهت شتى فئات الشبكات مشاكل متصلة بالقيود المفروضة على التأشيرة سيما بالنسبة إلى الشباب والشركاء من الدول المتضررة نتيجة النزاعات.

كيف يمول المجتمع المدني العمل الإقليمي؟

إن القدرة على تطبيق نشاطات إقليمية لا يرتبط فقط بالبيئة القانونية والسياسية التمكينية، بل يتعداها إلى الوصول إلى الموارد الضرورية. يعوّل معظم الشبكات الإقليمية على تمويل الجهات المانحة. وحيث أن الاتحاد الأوروبي هو الذي بادر إلى الشراكة الأورومتوسطية، فهو يضطلع بدور أساسي في هذا الصدد وقد أعلن نسبة %56 من المجيبين أنها تلقت دعم الاتحاد الأوروبي.

تمويل نشاطات شبكات المجتمع المدني
تمويل نشاطات شبكات المجتمع المدني

احتل الدعم الحكومي من الدول أو السلطات المحلية (بالدرجة الأولى من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا) المرتبة الثالثة لنسبة %30 تقريبا من المجيبين.بالمقارنة، يبدو التمويل القادم من دول جنوب المتوسط أو المؤسسات المحلية محدوًدا حتى بالنسبة إلى المنظمات المسجلة رسميا في تلك الدول[7]. وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن الشبكات العاملة على النطاق الأورومتوسطي والقائمة في دولة أوروبية قد حبّذت الاعتماد على التمويل المحلي من الحكومات الإقليمية والمؤسسات المحلية في تلك الدول الأوروبية[8].

وبصورة إجمالية، يعتبر استثمار الجهات المانحة العامة (مثل المنظمات الدولية) وغيرها من أصحاب المصلحة (المؤسسات والقطاع الخاص والمؤسسات الخيرية… الخ) في دعم المجتمع المدني في المنطقة شأنًا مهمًا[9]. ولكن الأموال والبرامج المخصصة حصرا للنشاطات عبر-الوطنية والتبادلات بين منظمات المجتمع المدني في البلدان المختلفة أو التشبيك بينها، نادرة. وعليه، تشتد المنافسة عليها. وهي مؤلفة من برامج كبيرة لا يمكن إدارتها إلا من خلال هياكل متينة. تم تعزيز هذا الميل بعدما فرضت الجهات المانحة المؤسسية إنشاء تحالفات بين أكثر من منظمة كشرط للحصول على هذه المنح. ركز المجيبون على العبء الإداري الذي تسببه محاولات تنسيق تلك التحالفات، مما صعّب الوصول إلى تلك المنح وإدارتها.

كيف تمول شبكات المجتمع المدني في الفضاء الأورومتوسطي نشاطاتها؟

 يرى المجيبون أن النقص في البرامج الإقليمية المتاحة في المتوسط إنما يعكس تراجع اهتمام الجهات المانحة حيال مبادرات التشبيك العابر للحدود. بدأ بعض المجموعات يعاني نتيجة هذا الظرف. يواجه ثلاث منظمات من أصل تسعة شملتها المقابلة نقصًا في التمويل انعكس سلبا على نشاطها. ولا يخص ذلك المؤسسات القائمة حديثا أو مجموعات صغيرة، بل يتعدّاها إلى مبادرات كانت في السابق تحظى بتمويل لائق.

التغير في أولويات الجهات المانحة يتجلى أيضًا في المواضيع المشمولة بالمنح، فعدد وحتى حجم المنظمات الإقليمية التي تتطرق إلى مواضيع رائجة عالميا مثل البيئة أو التنمية الاقتصادية تتلقى منحا أكثر من البرامج وفرص التمويل المخصصة للبحث السياسي والتبادلات الثقافية التي يبدو أنها تراجعت[10]. المانحون أيضا يفضلون في عروضهم التمويلية النماذج العملياتية مثل جهود الرسملة[11]، وذلك على حساب الحوار وتشارك الخبرات.

ترى الجهات المشمولة في المسح أن عزوف الجهات المانحة عن الشبكات الإقليمية قد يعزا إلى عدم التماس الأثر الملموس والفوري والمرئي لهذا العمل، وهو ما تبحث عنه الجهات الداعمة لتبرير ما تنفقه من منح.

أما النقص في البرامج ذات التوجه الإقليمي فقد جرى التعويض عنه من خلال المنح المخصصة للدول. وفي حين ينجح بعض المنظمات في تضمين البعد الإقليمي في المنح، إلا أن ذلك ليس ممكنا دوما. وعلى سبيل المقارنة، تحتل فرص الدعم المخصص للدولة حصة أكبر، ولكن ذلك يختلف باختلاف الدول بحسب أولويات المانح الجغرافية أو القيود المفروضة والتي غالبا ما تعزى إلى اعتبارات سياسية إجمالية. إن الفرص المتاحة لمنظمات مجتمع مدني العاملة في دول حساسة[12] غالبا ما تكون أقل وسبب للتفاوت في إجمالي التغطية الجغرافية.

بالإضافة إلى ذلك، تولي آليات تمويل المجتمع المدني التي تركز على المنطقة الأورومتوسطية اهتماما أكبر للجهات المستفيدة من الضفة الجنوبية للمتوسط. يعاني العديد من الشبكات من أجل تغطية كلفة مشاركة الأعضاء الأوروبيين في نشاطاته.

ومن التحديات الأخرى، سيما بالنسبة إلى المنظمات متوسطة الحجم، تعدد المنح الصغرى التي تغطي جزءًا من نشاطاتها. وبصورة عامة، لا تكفي هذه المنح سوى لتسديد نسبة ضئيلة من التكاليف التشغيلية، بينما تتطلب الأعمال التي تحصل من خلالها على تلك المنح الصغرى تعبئة موارد بشرية كبيرة لإدارتها.

إن المنح قصيرة المدى، بما في ذلك تلك كبيرة الحجم والتي تغطي الجانب البشري والتي يديرها بعض المنظمات في الدول التي تعاني نزاعات، قد تشوه الحالة التمويل لهذه المنظمات وسير عملها على المستوى الدولي، حيث إن الموازنة الإجمالية لهذه المنظمات يكون متضخمًا، لكن ذلك لا يكفي لاحقا للتكاليف التشغيلية ولا يسمح للمنظمة بالاحتفاظ بالموظفين.

تأمين التمويل الأساسي وتنويع الجهات المانحة: عنصر أساسي من عناصر استدامة الشبكة

بالنظر إلى التحديات أعلاه، يمكن أن يكون الوصول إلى التمويل الأساسي ضروريا لعمل الشبكات، سيما بالنسبة إلى حياتها المؤسسية التي تستوجب تفاعلا متواصلا مع الأعضاء. ولهذه الغاية، تحتاج الشبكات إلى تعبئة الموارد البشرية وتغطية التكاليف التشغيلية الأساسية بما يتضمن تكاليف التواصل والمدافعة advocacy التي لا تتم تغطيتها عادة في المنح. ويجب الانتباه إلى أن تنامي الرقمنة على ضوء جائحة كورونا أحدث تأثيرا أعظم على تخفيض التكاليف التشغيلية.

بينما تستفيد أقلية من المجيبين من رسوم الاشتراك (نسبة %6.1 فقط من المنظمات التي خضعت للمسح) أو من موارد ذاتية (نسبة %4.1 فقط)، يعتبر التمويل الأساسي المخصص للجهات المانحة الخيار المفضل. رغم ذلك، ليست المنظمات كلها على قدم المساواة فيما يخص الوصول إلى التمويل الأساسي، مما يفضي إلى ولادة علاقة طويلة نسبيا مبنية على بناء الثقة بين الجهة المانحة والجهة التي حصلت على المنحة مما يقصي حكما المنظمات البرعمية. في الواقع، عادة ما تكون الجهات المانحة الخاصة والجمعيات الخيرية أكثر ميلا إلى توفير تمويل أساسي ثابت بالمقارنة مع الجهات المانحة العامة، وإن كانت بعض مؤسسات الدول تقوم بذلك أيضا أحيانا.

يعتبر تنويع الجهات المانحة شكل من أشكال الحماية من انعدام الاستقرار المالي، وهو قد يحد أيضا من خطر التدخل في شؤون متلقي المنحة. جدير بالتنويه أن %20 من أكثر المنظمات التي خضعت للمسح ثراء، تصف نفسها بتنوع مصادر التمويل سواء من ناحية عدد المانحين أو نوعيتهم (مؤسسات الأمم المتحدة، قطاع خاص وجهات مانحة، مؤسسات خيرية… الخ). إن القدرة على تأمين التمويل المناسب من مصادر متعددة يبدو وكأنه متأثر بطبيعة صاحب الطلب وباختصاص عمله. وتبدو المنظمات التي لديها شراكات نظامية مع المؤسسات العامة قادرة على الوصول بصورة أسهل إلى التمويل المؤسسي وتمويل القطاع الخاص[14]. ويبدو أن مجالات عمل المنظمة يؤثر كذلك في الوصول إلى التمويل. يتطرق أكثر من نصف الشبكات المتينة إلى مواضيع غير حساسة من الناحية السياسية، كالتعاون الأكاديمي والعلمي والثقافي، ولاسيما المجالات التي تعتبر ذات أولوية بالنسبة إلى الجهات المانحة المؤسسية، مثل التعاون الاقتصادي والتنمية والبيئة.

إن القدرة على التعويل على جهات مانحة عديدة من خلال خليط من التدابير والمنح الأساسية يعتبر إنجازا في الاستراتيجية التي تتبعها منظمات عديدة على مستوى الاستدامة. وبالفعل يقتصر دعم القطاع الخاص على هيكليات ومواضيع محددة في حين لا تتوفر لهذه الفعاليات نشاطات توليد الدخل.

هذا ويخفف تنويع الجهات المانحة من تأثير التطورات غير المتوقعة مثل خفض الموازنة أو تغيير الأولويات. من المتوقع أن تحصل هذه التطورات بوتيرة أسرع في فترة ما بعد جائحة كورونا (أو أزمات أخرى).

المحافظة على الاستقلالية ومواجهة المحاولات المتنامية للتدخل

إن تنويع الجهات المانحة إلى جانب آليات الحوكمة الداخلية يحتل مرتبة عالية على سلم التدابير التي تعتمدها الشبكات من أجل ضمان استقلالها. في حين تبدو نسبة %75 من الشبكات المشمولة بالمسح على درجة مقبولة من الاستقلالية وتؤكد بأنها لا تخضع لأي ضغط أو تتعرض لضغط محدود من الجهات الخارجية، إلا أن نسبة %23 منها تعلن عن مواجهتها تحديات في العمل بصورة مستقلة وهي بالتالي تتعرض بوتيرة متواترة أو دائمة لخطر التدخل في عملها أو الحد منه. وترد الحكومات والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية من بين مصادر الضغط الخارجي التي تم ذكرها.

حوار المتوسط ضغط الفاعلين الخارجيين بنظر الشبكات
ضغط الفاعلين الخارجيين بنظر الشبكات

يمكن أن يتخذ هذا الضغط أشكالا عديدة لعل أبرزها التهديدات والتدابير التقييدية المذكورة أعلاه، ولكن تدخل السلطات العامة قد يكون أقل وضوحا. أفاد أحد المشاركين في الدراسة أن تدخل المؤسسات الحكومية في عمل منظمات المجتمع المدني تمثل مثلا في رفض المنح المخصصة لمبادرات باعتبارها غير ذات أولوية. وفي هذه الحالات، دعت الحكومة الجهة المانحة أو منظمة المجتمع المدني إلى توجيه تمويلها ونشاطاتها لتلبية «حاجات الدولة الفورية».

تذمر العديد من المشاركين في المقابلات بشأن تنامي محاولات الجهات المانحة التدخل في عملها من خلال طلب التدخل في جدول أعمال النشاطات أو محتواها متوقعين مشاركة كاملة في النشاطات، أو بطلب تسجيلات كاملة للنشاطات[15]. وفي حين لا ينفي أي من الجهات أهمية إعداد تقارير مناسبة، إلا أنه يشدد على أهمية ضمان درجة من السرية والاستقلالية للأعضاء والمشاركين. وفي معظم الحالات التي شملها التقرير، تمت معالجة الخلاف من خلال الحوار بين الطرفين.

وعلى النحو نفسه، لفت المشاركون إلى محاولة متنامية للتدخل في عملهم اليومي ونوهوا بعدم اهتمام الجهات المانحة المؤسسية بالتوصيات المتعلقة ببرامجهم وبالسياسة الاستراتيجية وبغيرها من مخرجات نشاطات المجتمع المدني الإقليمية التي يدعمونها.

لجميع هذه الأسباب، فإن المنظمات التي لا تعول على عدد محدود من الجهات المانحة والتي لديها هيكلية حوكمة داخلية متينة واستراتيجية واضحة هي أفضل موقفا لرفض محاولات التدخل من دون تهديد عملها.

ملكية الأعضاء: درب إلى الاستدامة؟

ليست الاستدامة المالية الشرط الوحيد لاستدامة الشبكة. إن جوهر الشبكة يتمثل بربط الأعضاء وحملهم على التفاعل والتعبئة تحقيقًا لهدف مشترك. إن المشاركة في الشبكة يمكن أن يتعدى مجرد المشاركة، بل أن يعني بعض أشكال الملكية بالنسبة إلى الأعضاء. كثيرة هي الأمثلة لمنظمات تسعى، بل تنجح، في إشراك أفرادها في الحياة الداخلية للمنظمة من خلال إشراكهم في تصميم الاستراتيجية وحوكمة المبادرة على سبيل المثال. في هذه المقاربة الأفقية، لا ينظر إلى الأعضاء على أنهم مستفيدون وحسب، بل أيضًا على أنهم جهات فاعلة ومعنية باتخاذ القرارات. إن مشاركة الأعضاء تولد دينامية من شأنها المساهمة في استدامة المبادرة.

التبعات المحتملة لجائحة كورونا بالنسبة على التشبيك بين منظمات المجتمع المدني

كما ورد أعلاه، إن استدامة منظمات المجتمع المدني رهن بالعديد من العوامل من بينها عوامل يمكن توقعها مسبقا. ولكن هذا لا ينفي وجود تطورات غير متوقعة ترخي بظلالها على هذا القطاع كما على سواه من القطاعات. إن جائحة كورونا التي عطلت النظام العالمي لمدة أشهر، سوف تؤثر لا محال في استدامة منظمات المجتمع المدني بشكل عام.

اضطرت المؤسسات الخاصة والجهات المانحة المؤسسية إلى خفض برامج التمويل عام 2020 من أجل الاستجابة لحاجات الجائحة. يمكن أن تؤثر الأزمة العالمية الناشئة عن الجائحة بشكل كبير على توفر موارد للجهات المانحة المالية على المديين القصير والبعيد.

وفي الوقت نفسه، يقوم عمل الشبكات بالأساس على اجتماعات شخصية، وقد عطلت الجائحة مثل تلك النشاطات وتحولت غالبية المؤسسات إلى العمل الرقمي، وهي مرحلة انتقالية كان بعض المؤسسات قد بدأها أصلا.

من الناحية الإيجابية، يرى كثيرون في القوة القاهرة فرصة لإعادة النظر في استراتيجية المنظمات من خلال تعزيز وجودها الالكتروني وعملها الرقمي. وقد قدم بعض الجهات المانحة دعما متخصصا في هذا الصدد.

لا يتوقع أحد أن تُستأنف الاجتماعات الفردية بالوتيرة نفسها. من حسنات الاستخدام المتنامي للأدوات الرقمية اعتباره تطورا إيجابيا لجهة الأثر البيئي والفعالية من حيث الكلفة، سيّما أن أحد المشاركين اعتبر أن السفر كان يستحوذ على نسبة %30 تقريبًا من إجمالي موازنة الشبكات.

ولكن ينوّه جميع المشاركين بأهمية إيجاد توازن بين العمل الالكتروني والتبادلات الشخصية مستقبلا، مع الإشارة إلى أن اللقاءات الافتراضية لا تستطيع أن تحل محل التفاعل المباشر واكتشاف سياقات الآخرين. على نحو إضافي، يعني التحول الكامل إلى العمليات الالكترونية وجود تحديات أمنية رقمية لا يمكن معالجتها دوما وهي قد تعرض بعض المشاركين للخطر.

خلاصات وتوصيات

في ظل تنامي حالات انعدام الاستقرار والشكوك، يبدو الحوار والتعاون على قدر من الأهمية سيما في منطقة متداخلة الأوصال وتتشارك التحديات ناهيك عن المصالح والطموحات. ليست المحافظة على التعاون على صعيد المجتمع المدني أو تعزيزه عبر منطقة المتوسط عملية سهلة وباستطاعة الشبكات الإقليمية أن تواجه التحديات المتنامية الناشئة عن الأزمات طويلة الأمد والناشئة والتي من شأنها أن تؤثر في استقرار المنطقة وأن تولد بيئة متقلبة على مستوى قدرات المجتمع المدني. يتعين على الشبكات الإقليمية التكيف والابتكار المتواصل. ولهذه الغاية، هي بحاجة إلى الالتزام المتواصل من جانب أصحاب المصلحة الأساسيين.

لا سيما منها الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء من أجل إقامة بيئة مجتمع مدني تمكينية عن طريق الدعم المالي والسياسي المتين. يقع الفضاء الأورومتوسطي في قلب سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية سيما من خلال سياسة الجوار الأوروبية[16]. عادة ما يتجدد التزام الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة في خلال فترة الأزمات[17]. شكل دعم المجتمع المدنية[18] عنصرًا أساسيًا لسياسة الجوار الأوروبية ولأولويات التمويل الموجودة.

بالاستناد إلى تعليقات المنظمات التي شملها الإحصاء، يجب على جميع الفعاليات المعنية بدعم المجتمع الا المدني في المنطقة الأور متوسطية إشراك بعض العناصر الحاسمة لدى تطوير برامجها الإقليمية. إن تقديم فرص تمويل أكبر للمبادرات الإقليمية الأصغر نطاقا ناهيك عن الأولويات المواضيعية التي ينظر إليها اليوم بدرجة أقل من شأنه أن يضمن تنوعا أكبر للفعاليات المعنية بالتعاون والحوار المتوسطي. لا يجب استثناء شركاء المجتمع المدني العاملين في بيئة قمعية من هذه التبادلات ولا بد من إيلاء اهتمام شديد التمكين الشبكات الإقليمية ومواصلة العمل مع الشركاء.

إن التشبيك من حيث طبيعته يعني تعزيز الحوار وتشارك التجربة والتعاون بين الأعضاء وتعزيزه. لا يترجم ذلك حصرا بنشاطات ثابتة. يستوجب الحفاظ على حياة الشبكة المؤسسية تعبئة متواصلة للموارد البشرية ودعما ماليا. إن زيادة الحصص المخصصة للتكاليف التشغيلية أو الإدارية في منح العمل ناهيك عن التمويل الأساسي هما السبيل الأفضل لمعالجة هذه الحاجات. يسمح التمويل الأساسي أيضا بوضع وتطبيق رؤيا استراتيجية. وهو يسهم في تحقيق استدامة أكبر. وعلى النحو نفسه، أن الحصول على المنح عمل لسنوات عديدة، التي تستفيد منها العديد من الشبكات الراسخة، يوفر بعض الاستقرار من خلال خفض الضغط المتعلق بجمع الأموال.

لا تنتظر منظمات المجتمع المدني مجرد دعم مالي من الجهات المانحة المؤسسية، بل هي تثمن البعد السياسي في دعمها جدا. وعلى نحو ملموس، من المتوقع أن تقوم الجهات المانحة المؤسسية بربط الالتزام السياسي والمالي حيال المجتمع المدني سيما حين يكون تعزيز الفضاء المجتمعي على المحك. وفي الوقت نفسه، يدعو المجتمع المدني في المنطقة إلى دمج التوصيات الخاصة بدعم المبادرات الإقليمية في عملية وضع البرامج والاستراتيجيات. وفي الوقت نفسه، نادت أصوات عديدة مطالبة الجهات المانحة بالمحافظة على مسافة آمنة مع المنتفعين من المنح وذلك بناء على اعتبارات بناء الثقة المشفوعة بتقديم تقارير منتظمة وعلى مراحل متفق عليها سابقا ناهيك عن مشاركة الجهات المانحة في النشاطات.

في الوقت نفسه، تلقى منظمات المجتمع المدني والشبكات الإقليمية التشجيع للتفكير بشأن بعض مواطن القصور في عملها. وبالنظر إلى الصعوبات التي تواجهها المجموعات والجهات الناشطة العاملة في ظروف مقيدة، تلقى الشبكات الإقليمية التشجيع لتحديد سبل بديلة تسمح بإشراك هؤلاء الفاعلين والتعاون معهم. يتيح التحول الذي حصل مؤخرا إلى النشاطات الرقمية مزيدا من الفرص في هذا الصدد؛ بشرط ضمان الأمن الرقمي وفي بعض الأحيان الخصوصية. يجب على الشبكات الإقليمية أن تواصل تشجيع الجهات المانحة وعدم استبعاد هذه الفعاليات الرقمية من خطط المنح.

وعلى نحو عام، قد يكون من المفيد بالنسبة إلى بعض الشبكات التماس سبل لتعزيز الاستدامة المؤسسية. تم رصد بعض الممارسات الحميدة مثل تعزيز ملكية المستفيدين والأفراد في تصميم الاستراتيجية و/أو النشاطات وتطبيقها. وأخيرا، وحيث يطالب بعض الجهات المانحة باتباع مقاربة أكثر توجها نحو النتيجة،سيكون من المفيد رصد وتطبيق أدوات تبرهن على نتائج المبادرات الإقليمية وتأثيرها[19].

المراجع
  1. تمثل هذه المنظمات نسبة %10 من إجمالي منظمات المجتمع المدني التي شملها المسح، وقع عليها الاختيار بالاستناد إلى التركيز الشديد في المنطقة على الشبكات المحددة، تعكس العينة تنوعا على مستوى الموقع ومدة الحياة والحجم والموقع /النوع والأهداف ومجالات العمل.
  2. وصول إلى ملايين اليوروهات في بعض الحالات.
  3. تنامت القيود المفروضة على الحريات العامة ولاسيما منها حرية التجمع في الدول الأوروبية ولكن لم يرصد هذا البحث أي تأثير واضح لهذه القيود على عمليات الشبكة الإقليمية.
  4. لیست فعاليات المجتمع المدني من الدول التي تعاني نزاعات فعاليات على درجة عالية من المخاطر في دولها، فلقد مارست سلطات الدول المجاورة التي انتقلت إليها.
  5. تعاني هذه المنظمات ضغوطا وقيودا، هذا يصح في حالة منظمات المجتمع المدني السورية حيث تؤثر العقوبات الدولية سلبًا على انخراطها في البرامج الإقليمية.
  6. CSO Sustainability Index Explorer.
  7. تفيد البينات الالكترونية بأن أربع منظمات إقليمية فقط حصلت على تمويل من السلطات المحلية من الدول التي سجلت فيها الأردن ولبنان وبدرجة أقل تونس.
  8. يسجل الدعم من المناطق الإدارية والهيكليات المماثلة في كل من فرنسا وإيطاليا وبدرجة أقل في بلجيكا وأسبانيا.
  9. تختلف درجة الدعم اختلافا شديدا بحسب البلد الهدف کما سيرد نقاشه أدناه.
  10. تفيد الجهات التي أجريت معھا مقابلات عن تناقص فرص التمويل للبحوث السياسية وخزانات الفكر كما بالنسبة إلى التبادلات الثقافية.
  11. الرسملة هى عملية ترمي إلى تحسين تصميم وتطبيق السياسات أو التدابير وتحديد الدروس المستخلصة من تدخلات سابقة تجعل الوصول إلى المعلومات ممكنا وتولد أطرًا مرجعية.
  12. تعرب الدول التي تتمزقها الحروب عن قلق نتيجة السياق الأمني ومخاطر التدخلات السياسية، هذا وينشط بعض الدول في ممارسة الضغوط على الجهات المانحة لا سيما المؤسسية من أجل الحيلولة دون مبادرتها إلى دعم المنظمات غير الحكومية المحلية لهذه الدول.
  13. هي تمثل 19 شبكة لديها موازنة سنوية قدرها مليون يورو، وكانت قيمة الموازنة السنوية لستة منها غير موجودة في المسح وبالتالي تم تجميعها في خلال البحث الذي أجراه الكاتب.
  14. لدى 13 منظمة من أصل 19 موازنة سنوية بأكثر من مليون يورو.
  15. European Neighbourhood Policy (ENP).
  16. لأبوستولوس تزيقزيكوستاس، رئيس اللجنة الأوروبية للمناطق، 8 تشرين الأول/أكتوبر 2020.
  17. Better future for the Euro-Mediterranean region continues to inspire
  18. المرجع السابق.
  19. تسهم عمليات التقييم على شكل مقابلات مع المستفيدين الأعضاء والأهداف أو التقارير البصرية القصيرة التي انجزت في خلال المبادرة في وضع الأمور في نصابها وتحقيق نتائح وآثار عملتة وملموسة بدرجة أكبر.