تأملات في ذهنية القتلة المحترفين
الجميع مهووس بشيء ما. البعض مهووس بالشهرة والمال، مشاهدة مُباريات كرة القدم، الجنس. والبعض الآخر مهووس بعالم الحيوانات أو النباتات، النظافة الشخصية، أو حتى تَصَفُّح مواقع التواصل الاجتماعي لساعات طويلة يوميًّا.
إذا كان لكل مِنَّا هَوَس ما، فهل هُناك ما يمنع أن يكون شخص مهووسًا بالقتل ومُتعطشًا للدماء؟!
في شهر فبراير/شباط عام 1993، أُذيع لقاء تلفزيوني للسَفَّاح الأمريكي المعروف «جيفري دامر»، حيث سألته المُحاورة «نانسي جلاس» إذا كان قد أتى عليه وقت نظر فيه إلى أشلاء الجثث البشرية التي كان يحتفظ بها في شقته وحدَّث نفسه مُعترفًا ببشاعة ما ارتكبه، فردَّ عليها قائلًا:
أعلن جيفري من خلال ذلك الرد البسيط والموجز أنه – إلى حد كبير – لم يرتكب تلك الجرائم البشعة إلا بسبب هوس قد نال منه، ثم استحوذ عليه في نهاية المطاف. في بداية الأمر كان مهووسًا بالاطلاع على المجلات الإباحية والتردد على الحانات الخاصة بالمثليين جنسيًّا، وأخيرًا وصل به الهوس إلى الافتنان بقتل الشباب وتقطيعهم لأجزاء ثم الاحتفاظ بأشلائهم أو حتى طبخها وتناولها كطعام. كذلك، اعترف أن الأفكار والهواجس الجنسية بدأت تزوره حينما كان في عُمر الخامسة أو السادسة عشرة، ثم ظلت بعدها «تزداد توحشًا» على حد تعبيره. والمُثير حقًّا أنه لم يقتل هؤلاء الشباب لأنه كان حانقًا عليهم أو حتى لأنه يكرههم، وإنما قتلهم فقط لأنه كان يريد الاحتفاظ بهم وإبقاءهم في صحبته حتى وإن كانوا أشلاءً بشرية.
غريزة الإيذاء والتدمير
انتشرت مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي لقطات مُصوَّرة لعبوات زجاجية يُلقى بها على درجات السلم، لنراها وهي تتهشم إلى أجزاء صغيرة، فتنزلق منها المادة السائلة وتَصنع بحرًا ملونًا بلون المشروب الأسود أو الأحمر أو الأخضر. لاقت تلك الفيديوهات رواجًا واسعًا بين الناس بفضل ما أثارته من شعور بالاستمتاع والارتياح النفسي لدى المُتَلَقي.
على ما يبدو أن هُناك حشدًا غير قليل من الناس يُصاب بنشوة غريبة عندما يرى الأشياء وهي تتحطم. وهذا ليس أمرًا غريبًا؛ فكثير مِنَّا يشعر بإثارة لا تفسير لها حينما يغرس السكين داخل قطعة اللحم والدجاج أثناء إعداد الطعام، أو حينما يدهس بيديه حشرة حتى يراها تلفظ أنفاسها الأخيرة.
هناك نظرية تُسمى «إيروس وثاناتوس – Eros and Thanatos» أو نظرية «الحياة والموت»، لسيجموند فرويد. طبقًا لهذه النظرية التي ظهرت في مقالته «ما وراء مذهب المُتعة» (1920)، يطرح فرويد فرضية مفادها أن جميع الغرائز البشرية تتلخص في غريزتين أساسيتين مُتصارعتين وهما: غريزة الحياة أو البقاء (إيروس: إله الحُب والخصوبة في اليونان القديمة)، وغريزة الموت والتدمير (ثاناتوس: إله الموت في اليونان القديمة).
تُشير غريزة الحياة إلى كل الغرائز الحسية والشعورية التي تدفعنا للتشبث بالحياة وضمان البقاء على الأرض، كالجوع والعطش وممارسة الجنس أو البحث عن حبيب. مما يعني أن هذه غريزة تجعلنا نتشبث بالحياة. وبينما تُلقي بنا غرائز الحياة في قلب الحياة وتدفعنا باتجاهها، فإن غرائز الموت ترمي بنا في أحضان الهلاك.
تتجلى غريزة الموت في رغبتنا الدفينة في إيذاء الآخر. ليس هذا فقط، وإنما تدفعنا غريزة الموت بشكل لا واعٍِ إلى التدمير الذاتي؛ أي تدمير أنفسنا. نحن نُحاول إيذاء أنفسنا بصور مُختلفة وبدرجات مُتفاوتة: بدايةً من القيام بحركات لا إرادية بسيطة كالعض على الأنامل، تقطيع خصلات الشعر، ووصولًا إلى الجرح المُتعمَّد لليد أو الذراع باستخدام السكين أو المقص، وفي كثير من الأحيان يصل الحال بكثيرين إلى الانتحار.
يميل الإنسان في الغالب – بصورة لا إرادية – إلى استدعاء اللحظات المؤلمة التي مرت عليه، كما وكأنه يود أن يشعر بالألم من جديد وبلا توقف. أعاد فرويد تلك الرغبة الدفينة إلى أثر الصدمات النفسية التي يتعرض لها الإنسان.
هُناك نوع من الناس يقوم بإعادة تجسيد التجارب المؤلمة التي عاصرها على نفسه أو على الآخر. هذا يُفسِّر كثيرًا من الحالات التي يصير فيها الطفل الذي تعرض للتحرش الجنسي مُتحرشًا جنسيًّا فيما بعد، أو تلك التي ينتهي فيها الحال بالطفل الذي تعرض للضرب في صغره إلى أبٍ عنيف يتعدى جسديًّا على أطفاله. وإذا نظرنا لأنفسنا، فسنجد أنه عندما نتعرض لألم ما، فإن معظمنا يُسرِع بإلحاق نفس الألم على من حوله.
رُبما تتوحش غريزة الإيذاء عند السفاحين بطريقة جنونية مما يدفعهم إلى الاستمرار في إيذاء الآخر بصورة قهرية. إن ارتكاب فعل القتل على فترات مُنتظمة يجعل هذا الفعل البشع يتحول – في وجهة نظر القاتل – إلى مُجرَّد عادة يواظب عليها وليست جريمة؛ كما قال السفاح الأمريكي «تيد باندي»:
في كل مرة يرتكب القاتل جريمة جديدة يظن أنها ستكون الأخيرة التي ستشبع رغبته الدموية أخيرًا. لكن هذا لا يحدث أبدًا؛ لأن بعد كل جريمة قتل، تزداد رغبة القاتل جموحًا. ومع مرور الوقت، يتحول القتل بالنسبة للقاتل إلى فعل إبداعي يواظب عليه وينهمك فيه كنوع من التنفيس عن آلامه ومُعاناته الدفينة. بالضبط كما هو الحال بالنسبة للفنانين الذين يلجئون للفن كمحاولة للتَّخلص من كل ما يثقل كاهلهم من إحباطات ومخاوف وعذابات. ولكن الفارق بين الفنان والقاتل أن الأول يستخدم وسيلة إيجابية وراقية للتنفيس. أما الأخير، فإنه يلجأ إلى تنفيس عنيف مُدَمِّر وخالٍ من الرحمة. إن ارتكاب الجرائم غالبًا ما يكون بمثابة صرخة غضب يُطلقها المُجرِم في وجه اليأس، الوحدة، الفشل، والتعاسة.
إذا عُرِف السبب .. بَطل العَجب
لخَّص الشاعر الكبير الراحل «أحمد فؤاد نجم» فكرة «على الأصل دوَّر» بهذه الكلمات الموجزة الرائعة لتتر مسلسل ريا وسكينة (2005). ولكن، هل حقًّا لا يزال يُمكننا تطبيق فكرة «على الأصل دور»؟ هل لا يزال من المُمكن إرجاع الدوافع التي ارتُكبت بسببها أبشع الجرائم إلى مُجرَّد طفولة بائسة أو حالة اقتصادية واجتماعية متدهورة أو حتى اضطرابات عقلية؟ أم أن المسألة في حقيقة الأمر ليست بتلك البساطة؟ هل يولد الإنسان مصبوغًا بالخير ثم يصير شريرًا؟ أم أنه يُولد والشر داخله ومن ثَمَّ تصير مُهمته الأساسية هي تهذيب نفسه على مدى حياته؟
هُناك آراء فلسفية ونفسية تُفيد بأن الإنسان طيب الأصل، بينما يتسرَّب له الشر عن طريق البيئة المُحيطة وما تحمل من ظروف. على جانب آخر، يرى فرويد أن الإنسان في أصله كائن عنيف وعدواني أرغمته الحضارة على ارتداء قناع التحضر واللطف. ولكن حينما تسنح له الفرصة، فستسقط على الفور جميع القناعات لنراه يعود لأصله الشرير القاسي. لا نعلم حتى الآن على وجه اليقين إلى أي عالم ينتمي أصل الإنسان: إلى عالم الخير أم الشر! أم أن الإنسان عبارة عن خليط من الخير والشر معًا مثلما قال «نجيب محفوظ» مُخاطبًا الإنسان على لسان إحدى شخصيات روايته الرائعة قلب الليل (1975):
في تسجيل صوتي له، تطرَّق السفاح الأمريكي «ريتشارد راميرز» – الذي امتلك بالمُناسبة قدرًا معقولًا من الآراء الفلسفية الدموية ومفهومًا خاصًّا عن الشيطان – إلى تلك النقطة الشائكة، حينما ناجى نفسه مُتسائلًا في لقاء له:
في تصريح آخر له، أعلن راميرز في لقاء تليفزيوني عام 1993 قائلًا:
لم يكن لدى السفاح الأمريكي الشهير «تيد باندي» نفس القدر من الحيرة التي امتلكها ريتشارد، بل بدا باندي في أحد التسجيلات الصوتية التي ظهرت في الجزء الخاص به من السلسلة الوثائقية: «حوارات مع قاتل» وهو يسخر بكل ثقة من الفكرة الرائجة التي تزعم أن التاريخ الطفولي المُضطرب يُساهم في خَلق المجرم:
بعدما انكشفت جرائمه وتم القبض عليه وبدأت جلسات مُحاكمته، رأى باندي أن الناس يرفضون اعتباره شخصًا طبيعيًّا وأنهم لا يفهمونه حقًّا. كما أنه أضاف قائلًا:
تُرى ما هذا الشيء الذي يرى باندي أن جميع الأشخاص حوله قد غفلوا عنه أو لم يضعوه في حسبانهم حينما وصفوه بالمُجرم؟ هل كان حديثه حينها حديثًا عقلانيًّا؟ أم أنها مُجرَّد تخاريف يُلقيها شخص على مشارف الموت؟ ولكن، من المؤكد أن باندي وغيره من القتلة يرون أنفسهم بصورة غير التي يراهم الجميع عليها.
يُقال إن باندي اكتشف وهو في الرابعة عشرة حقيقة أنه طفل غير شرعي لأب مجهول الهوية. وبالرغم من أن حقيقة كهذه بوسعها أن تُسبِّب صدمة لطفل في مثل عمره وقتها، إلا أنه رفض الاعتراف بأن لهذه المسألة دورًا في تكوين شخصيته القاتلة.
في آخر لقاء تليفزيوني له في سجن ولاية فلوريدا عام 1989 قبل إعدامه أثنى باندي على عائلته وأعلن بشكل قاطع أنه لم يتعرَّض لأي صورة من صور العنف الجسدي، أو الجنسي، أو حتى الابتزاز العاطفي. من ناحية أخرى، لم تستطع والدة باندي تصديق حقيقة أن ولدها قام بقتل واغتصاب عدد كبير من الفتيات؛ حيث قامت هي الأخرى بالثناء عليه وعلى صفاته الحميدة التي يتميز بها منذ طفولته لدرجة جعلتها تُعلن بصوت مُرتجِف قائلة: «إن ابننا هو أفضل ابن في العالم».
من السهل أن ننسب جرائم القتل إلى أسباب محددة وملموسة. تميل العقول البشرية إلى إعطاء التبريرات والتفسيرات المناسبة للظواهر الغريبة والشاذة، حتى وإن لم يكن لها أسباب منطقية؛ وذلك لكي تتمكن من تَقبلها والتعايش معها، وبالتالي النجاح في التخفيف من أثر وقعِها المُفزع على الإنسان.
على سبيل المثال، من النادر أن نرى عملًا سينمائيًّا أو تلفزيونيًّا يسرد حياة أحد القتلة المُحترفين دون الرجوع لمرحلة طفولته، وتسليط الضوء على ما واجهه من صعوبات أدت به إلى طريق الإجرام. لكن مؤخرًا، استنكر قطاع كبير من المُشاهدين ذلك النهج السردي الذي بات مُبتذلًا وسخيفًا؛ ذلك لأنه في نظر البعض أمر لا يصدقه عقل. فإذا كانت الطفولة البائسة أو ظروف الحياة الشاقة يخلقان قاتلًا مُحترفًا، فلماذا لم ينتهِ الحال بجميع الأشخاص الذين تَعرَّضوا لمثل هذه الظروف إلى نفس النهاية المأساوية؟ وهل من الجائز القول إن بعض الأشخاص يقتلون ببساطة لأنهم قتلة وأشرار؟ هل من الممكن تبسيط الأمر إلى هذه الدرجة؟
إذا افترضنا أنه ليس كل من يَكذب في معظم الأوقات يمتلك مُبررًا كافيًا يدفعه لإطلاق الأكاذيب، فليس من الغريب إذن ألَّا يكون هُناك مُبررات للقتل في كثير من الأحيان. وإذا سلَّمنا بصحة هذه النظرية، فهذا يعني أن الدافع الرئيسي الذي يُحرِّك القاتل هو افتقاره للقدرة على التعاطف مع الآخر أو النظر له بعين الرحمة. فالقاتل، طبقًا لهذا التفسير، ينظر للإنسان كشيء مادي أو كوسيلة لتحقيق غرض ما حتى وإن كان ذلك الغرض هو الشعور بالإثارة والتَّخلُّص من الملل.
تعرَّفت «آن رول» على «تيد باندي» في جامعة واشنطن أثناء فترة دراسته لعلم النفس، حيث كانا يعملان معًا في مركز الطوارئ. قالت «آن رول» في كتابها «غريب بالقرب مني» The Stranger Beside Me (1980)، الذي يحكي عن «تيد باندي» وعلاقة الصداقة التي جمعت بينهما:
يصف «جيفري دامر» عملية القتل من خلال منظور مُشابِه، حينما قال إن عملية القتل في أساسها تعني أن يَسلُب القاتل إنسانية القتيل، ويَنظر له باعتباره شيئًا ماديًّا يجلب المتعة وليس إنسانًا.
اقرأ أيضًا: قصة تيد بندي: أو كيف أحبت أمريكا السفاح الأبيض
شاركني الشاي والليل والرغي بدون أهداف
عانى «فان جوخ» من الوحدة وغياب الحب طوال حياته. لم يلقَ حناناً من أمه، كما أنه لم يعثر على امرأة تُحبه حُبًّا حقيقيًّا وتعيش معه حياة هانئة. لم يتزوج «فان جوخ» ولم يُنجِب أطفالًا، وحينما رحل لم يحزن عليه سوى أفراد قليلين على رأسهم أخوه وزوجة أخيه. فهل غياب الحُب هو ما جعل فان جوخ رجلًا غريب الأطوار؟ أم أن أطواره الغريبة هي التي جعلته شخصًا منبوذًا؟
حسبما أعلن العديد من الخُبراء والمؤرخين، لقد قطع جوخ أذنه اليُسرى ثم أرسلها لواحدة من بنات الهوى التي كان على علاقة بها، بعدما تشاجر مع صديقه الفنان الفرنسي «بول جوجان»، وذلك حينما أخبره الأخير أنه سيترك مدينة آرل التي كانا يعيشان فيها معًا في ذلك الوقت. وإذا تأملنا هذه الرواية، فإنه من اليسير علينا أن نتصوَّر الألم النفسي الشديد الذي شعر به جوخ حينما عَلِم أن صديقه الذي اعتاد وجوده ومُشاركته أيامه وفنَّه يود أن يتركه ويرحل. وبعد حادثة قطعه لأذنه، تم احتجاز جوخ في مستشفى للأمراض العقلية، وظلت حالته العقلية تسوء إلى أن فارق الحياة بعدها بعام تقريبًا.
تُفيد غالبية المصادر التي استندت على آراء المُقربين منه أنه مات مُنتحرًا، فيما عدا رواية وحيدة ضعيفة ظهرت عام 2011 على يد كاتبين أمريكيين، والتي تزعم أنه مات مقتولًا على يد شاب صغير. ومما شك لا فيه أن فان جوخ لم يكن سعيدًا أبدًا في حياته؛ ومن المؤكد أيضًا أن للآخرين عاملًا كبيرًا في حرمانه من السعادة وراحة البال.
إن الشعور بالوحدة وغياب القَدْر الطبيعي والكافي من الحُب والحنان، يقودان المرء إلى الانزواء داخل ظُلمات قلبه وعقله، مما يُسهل استيقاظ الوحوش الكامنة داخله. ساعد العصر الحديث على تفشي داء الوحدة بصورة جنونية. لقد تفاقمت الأزمات الوجودية والنفسية في العصر الحديث، فانفصل الإنسان عمَّن حوله لدرجة جعلت لا مفر له سوى الانغماس في أعماقه. ومن المُؤسِف أنه حينما يصطدم الإنسان بأعماقه، فإنه في الغالب يجد ما لا يَسُرُّه.
إن القدرة على التواصل مع الآخرين بصورة صحية واستقبال محبتهم واهتمامهم لا يُعد رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل هو أساس متين لضمان استقرار الصحة العقلية والنفسية. لكن مَنْح أي نوع من المحبة أو استقبالها بات مُستحيلًا في العصر الحديث وعصر ما بعد الحداثة، لأن الحياة صارت أقسى من أن تترك لنا مجالًا للحب والتفاهم.
إننا نعيش حاليًّا في عالم يُحدِّثُنا كثيرًا عن المشاعر، يُصنِّف لنا احتياجاتنا العاطفية والجسدية، ويُعطي لها مُسميات، لكنه لا يمنحنا أبدًا فرصة حقيقية أو وقتًا كافيًا للسعي وراء تلك الاحتياجات وإشباعها. إن الإنسان المعاصر ليس لديه القدرة على الاندماج في العلاقات العاطفية أو مؤسسات الزواج كما كان الحال في العصور السابقة؛ لأن شعار الوقت الحالي هو الاستقلالية والمحاولة قدر الإمكان لتَجَنُّب الألم العاطفي الذي من الممكن أن يسببه الحب. ولهذا السبب، تفشل حاليًّا معظم قصص الحب وينهار العديد من الزيجات بعد سنوات قليلة.
لا عجب إذن أن نشهد العديد من الظواهر الغريبة التي بدأت في الانتشار مؤخرًا. فعلى سبيل المثال، هُناك ظاهرة تسمى «سولوجمي» Sologamy أو (أن يتزوج المرء نفسه). يَعتبر البعض هذه الظاهرة مثالًا للنرجسية، والبعض الآخر يراها مثالًا لحب الذات وتقديرها، لكني في النهاية أرى أنها ظاهرة ترمز لما يُعانيه الإنسان الحالي من جفاء عاطفي وعدم قدرة على التواصل مع الآخر؛ لأنه لا يلجأ الإنسان إلى الوسائل الذي يؤكد من خلالها مرارًا وتكرارًا على حبه لذاته إلا إذا كان لا يجد شخصًا آخر يبادله الحُب.
عندما فشل الأمريكي «إليوت رودجر» في الارتباط بأي فتاة، قام بقتل ستة أشخاص ثم قرَّر الانتحار بعدها. أعلن إليوت في آخر ظهور له أنه فعل ذلك بسبب رغبته في الانتقام: «لقد حان اليوم الذي سأنتقم فيه من الإنسانية جمعاء».
اتضح فيما بعد أن إليوت كان عضوًا في مجموعة على الإنترنت تسمي «إنسلز» Incels، أو ما يُمكن أن يُطلق عليهم: «العُزَّاب دون رغبة منهم». إنهم مجموعة من الشباب الذين يضعون اللوم على الجنس الآخر بسبب رفضهن المتواصل لهم، حتى صاروا غير قادرين على الدخول في علاقات عاطفية وحميمة؛ ولقد قام كثيرون منهم بارتكاب جرائم عنف وقتل انتقامية.
هل كان «جيفري دامر» وحيدًا لدرجة جعلته يُفكر في طريقة لاستدراج الشباب لشقته ثم قتلهم كوسيلة لضمان بقاء جثثهم معه طالما أنهم يرفضون البقاء معه وهم أحياء؟ هل كان يتناول ضحاياه كوجبة طعام شهية لرغبته في ملء الفراغ الداخلي الذي كان يشعر به؟
رُبما، لا أحد يعلم. وفي الختام، يحضرني قول الشاعر السوري الراحل «رياض الصالح الحسين» عن الوحدة وقسوة مكابدتها: