تأملات بإيعاز من الحزن
في مشهد من فيلم the sea of trees يجلس البطل ليلا مع الشخصية الغريبة التي قابلها في ساعته الأولى من دخول الغابة محلقين حول النار يتلمسون الدفء بعد يوم حافل من التيه ومصارعة البرد وظروف الطبيعة القاسية لا يجدان طريق العودة في تلك الغابة الغريبة التي تعج بالأشجار الشاهقة فتحيلها متاهة يشبه بعضها بعضا والداخل فيها مفقود، وقد لاح لهما شبح الموت مصيرا محتوما، فيبادره الرجل بأسئلة عن سبب قدومه للغابة رغبة في إنهاء حياته.
فيحكي البطل في جملة إجاباته عن زوجته التي قد مضى على وفاتها أسبوعين، وأنه ما جاء هنا حزنا على الخسارة وإنما قد أثقل الذنب كاهله يود لو يخبرها: «كم هو آسف»، ولكن كيف وقد نفدت الأسباب وحال بينهما الموت وبقي الذنب ملازما له، ولم يستطع التعايش معه فيفكر في الموت راحة منه ثم ينفجر في البكاء.
أعاود مشاهدة هذا المشهد تحديدا مرارا وتكرارا لأنه يلخص لي جزءا كبيرا من معاناتنا البشرية وحصة كبيرة من أسباب حزننا: أننا ندرك التقصير بعد فوات الأوان، وأننا نأخذ الأشياء على أنها مسلمات باقية ثم فجأة ننتبه حين يحين وقت الخسارة حين يدق ناقوس الفراق، لا بل أحيانا بعد تجرع الخسارة وتكبد الفراق عند تلك اللحظة تصعقنا الحقيقة تسطع في عيون قلوبنا شمسا تكشف غفلتنا عما كان يهمنا أكثر فنلتاع، لحظتها يتغير كل شيء فلا ما خسرناه بعائد ولا ما سعينا خلفه نلاحقه غافلين به عما في أيدينا صار كما كان في عيوننا.
حين أرى إنسانا يتحدث نادما عن خطأ قد ولغه أو ذنب قد اقترفه والمرارة قد تسارعت لإجفاف حلقه تتجسد لي صورة من عمق إنسانيتنا في وقت تطهرها.
حين أتجرع الألم، حين أكابد خسارة، حين أرتعد من الموت أو الفراق، حين يجهشني بكاء وتتهدج أنفاسي كأن قلبي ينفث عنه لهيب الحزن المعتصر، حين أقبع في الركن المظلم من حجرتي خاشعا للحزن مستسلما للسكون تتجسد في نفسي صور أخرى.
أستطيع بيسر أن ألمس صورة حية من إنسانيتي وقت الحزن والألم إذ تنسلخ نفسي عن رداء التصنع والتجلد.
حتى مشاعر الحب العميقة الطاهرة التي تخلو من التزلف ينعكس بريقها فوق صفحات الدموع.
والدموع آلية ركبها الله فينا حين تعجز الحواس عن التعبير حين ينوء عن القلب حمله وتشتعل في الجوانح نيران لا يطفئها غير فيضان الدموع، هي بوق تثور به الإنسانية المكبلة المعذبة في أحشائنا.
وإن إنسانا يعجز عن الدموع لهو إنسان قد قُتلت بداخله الإنسانية، وقد تموت فينا الإنسانية قد تموت حين تجد من لا يرعاها من لا يبالي بأنّــاتها فتنزوي حتى الموت.
وقد تجف الدموع في مآقيها ونعجز عن استجلابها وقت حاجتنا إليها، ذلك لأن النفس التي ذاقت أحزانًا كثيرة قد كسبت آليةً ومناعةً تجعل الحاجة للدموع أقل من ذي قبل أو ربما لأننا ألفنا غصة الحزن ومرارة خيبة الأمل أو ربما لأن نيران الفجيعة المتأجِّجة في الصدور تعجز الدموع عن إطفائها فتستسلم منزويةً في منابعها حتى تأكل النار نفسها فتهدئ.
صرت إذن لا أكره الحزن ولا أحبه ولا أرى فيه التعاسة مثلما كنت في السابق فكنت ربما كرهت نفسي حين لا أملك إلا الخشوع له، غير أنه يريني في نفسي بين الوقت والوقت ما لم يرنيه الفرح والاستقرار وتبدت حقيقة الحياة في عيني على أنها مركبٌ يشاطره وربما يغلب عليه تركيز الحزن.
وأصبح التحدي ليس اتقاء الحزن أو دفعه وإنما كيف أحمل نفسي وقت الحزن أن تستمر في التقدم والعمل على الأهداف والمشروع الذي تصورته لحياتي حتى ولو بإيقاع بطيء، حتى لا تصير أوقات الحزن -وهي شطر ليس بالوجيز- استنزاف للعمر بلا طائل.
الحزن لا ريب ضيف ثقيل ولكن لا يصح أن نصم آذاننا عن أحاديثه، ففيها دروس لن نسمعها من سواه.
وإن مما أحببت عن الحزن وجعلني أدرك أنه لا تستقيم الحياة من دونه أمورا ألخصها فيما يلي:
-حين تحل غمامة الحزن تذوب الألوان التي تتقلدها الأشياء من حولي فيبدو كل شيء عارٍ إلا من حقيقته، يبرز الجوهر .. حتى جوهر نفسي يبزغ لي فأتعلم عن نفسي ما لم يعلّمه لي الفرح أو الاستقرار.
-أنه قوة دافعة لا مثبطة كالفرح والسعادة، فإن كان الفرح يصيبني بالاستقرار والخمول والتقاعس فالحزن يوقد في نفسي شعلة تبحث في الأسباب والنقائص وتجهد في إصلاح الخلل وتدرس الموقف وتستخلص الدروس والعبر.
-أنه يقربني إلي الله ويعلمني عنه أكثر مما يفعل الفرح، يكسيني ثوب الفقر والتذلل ويلقيني على أعتاب الكريم أتضرع للرحمة أقرع الباب مستحييا موقنا بالتقصير وانعدام الجدارة.
-أخرج من ظلمته في كل مرة بعادة جميلة في نفسي وفي علاقتي بالله.
-أنه يذكرني حقيقة الدنيا وسرابها، وحقيقة ما في يدي ويريني كم أنا ضعيف لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، وأن ما حَصَّلت مهما كان فمحض توفيق من الله.
-يصيب القلب بالرقة بعد الجمود، وأتصور أن أوقات الفرح والسعادة تبني حول القلب جدارا عازلا يحجبه عن التأثر والاستجابة وتظل تغذيه حتى يكاد ينفصل عما حوله، ثم إذا بالدورة تدور فيأتي الحزن فيخرق هذا الجدار ويثقبه وينفذ من خلاله ويصيب القلب برهف قد فقده، وأتصور أيضا أن نصيب الناس من رقة القلوب ربما يساوي نصيبهم من حوادث الحزن.
-أن بعضا من نصيب الحكمة التي يصيبها كل إنسان في حياته يبنيها من محصلة إخفاقاته وأحزانه.
-أنه لولا الحزن لما شعرنا بقيمة الفرح والسعادة فإننا مجبولون على إلف الدائم وفقدان الشعور به.