مقهى ريش: من هنا مر تاريخ مصر
إن الأماكن بساكنيها. مقولة تبدو مقبولة إنسانيًا، حيث تبرز أهمية المكان من قاطنيه، فيتلون بلونهم، مبهجًا كان أم بائسًا، حركيًا تفاعليًا أم جامدًا ساكنًا. ولكن إذا عكسنا الآية، ويطبع المكان روحه على ساكنيه، واستمدوا طبائعهم منه، فالأمر هنا ينطبق على مقهى «ريش» تمامًا. كيف يكون ذلك؟
في مقهى «ريش» الكائن في وسط العاصمة المصرية، القاهرة، أنت في قلب التاريخ، وعقله. تجلس في مكان جلس عليه أكابر وعظماء، ليس على سبيل المستوى الطبقي، ولكن على سبيل المستوى العقلي والتنويري والإنساني. في «ريش» يصطبغ الزائر بصبغة المكان. يستشعر أن هناك تاريخًا مرويًا بين جنبات المقهى، يتلمس نوادر وطرائف حدثت وستحدث ما دام قلب الحياة في مصر ينبض. يطلق خياله لأناس مروا أمامه، وجلسوا على كراسيه الرائقة، وشربوا وتناولوا طعامهم فيه. تشاجروا وتصالحوا. تحدثوا عن السياسة والأدب والفكر والاقتصاد. في هوائه نسمات من الزمن، وعلى جدرانه ألوان الحكايات.
كتبٌ كثيرة ودراسات ومقالات تناولت المقهى ضمن تناول عام للمقاهي المصرية الشهيرة، وتاريخ نشأتها، وأهميتها وأهم روادها، يساوون بين «ريش والفيشاوي ومتاتيا وقشتمر»، يتحدثون عن ماضي تلك المقاهي وحاضرها، إلا أن كتاب الأديبة والكاتبة ميسون صقر «مقهى ريش.. عين على مصر» الصادر حديثًا عن دار «نهضة مصر» كان أكثرهم تحديدًا في الموضوع، حيث اختارت أن يكون مقهى «ريش» هو موضوعها الرئيس، كما كان أكثرهم دقة في السرد والتوثيق.
استطاعت بعقل الباحث الدؤوب في ثنايا ملفات تاريخ المكان، أن تقدم وجبة شهية من الوثائق والمخطوطات والحكايات، هي بالفعل- كما تصف في عنوان الكتاب- «عينٌ» على أحداث مهمة ومؤثرة وقعت على مرأى ومسمع من رواد المقهى.
سلاح ذو ثلاثة حدود
احتاجت ميسون صقر نحو 250 صفحة من الكتاب الضخم حتى تدخل في موضوعها. تحدثت عن القاهرة وتاريخها القديم بداية من العصور القديمة، مرورًا بفترة الفتح الإسلامي وعواصم الدول المتتابعة، وصولاً إلى القاهرة الخديوية. تحدثت عن تخطيط القاهرة، وعن حدائقها، وقصورها المشيدة ومتاحفها. تحدثت عن أشهر المساجد والكنائس والفنادق، وأهم الميادين والشوارع والكباري القديمة. تحدثت عن تماثيل طلعت حرب وسليمان باشا وعمر مكرم ومصطفى كامل، وعن عمارات «الإيموبيليا ويعقوبيان»، ومصمميها من المعماريين الأجانب والمصريين.
تحدثت ميسون عن المقاهي (وبعضها صارت تسميته الحديثة coffee shop) بشكل عام، منها ما هو شعبي كـ«الفيشاوي وقشتمر»، وما هو مخصص للطبقة الأعلى مثل «جروبي»، وفي النهاية جاء الدور على «ريش» موضوع الكتاب.
المؤكد أن هذا الاستغراق في التقديم للموضوع الأساسي سلاح ذو ثلاثة حدود في كيفية تلقيه: أول الحدود هو الصدمة التي تنتاب القارئ نتيجة هذا التقديم الطويل، فتجعله قريبًا من حافة الملل؛ وثاني الحدود هو القفز على ما هو معروف من معلومات في هذا العدد الكبير من الصفحات؛ في حين أن ثالث الحدود هو الرهان على استخراج المتعة البصرية والتاريخية التدريجية، والتي تجعلنا نرى المكان من عين واسعة أو عدسة «محدبة»، تضيق فتضيق، للوصول إلى مركز العدسة وهو مقهى «ريش»، ثم رهان آخر على مفاجأة الكاتبة التي تستخدم بعد ذلك عدسة أخرى «مقعرة» من خلال الوثائق والغوص أكثر في تاريخ المقهى، وهي العدسة التي تتسع وتتسع، لتنتقل من مجرد تأريخ للمكان «ريش» إلى وثيقة لتاريخ مصر. أو كما تسميه الكاتبة «تجميع الحالة ثم تفكيكها».
وأتصور أن الكاتبة انحازت لتلك الحالة التأريخية التوثيقية للمقهى، كواحد من المفردات المهمة للزمن، حتى لا تتركه عُرضة للتآكل والاختفاء في يوم من الأيام. جاذبية المكان بالنسبة لميسون صقر لم تكن في المهمش والمهمل والنادر، ولا في التناقض بين المكتوب والمخفي عن العين في صورة أشبه بـ«اليوتوبيا» المسرودة شفهيًا، تحت وطأة الإعجاب والمحبة، وبين واقع لا يمكن الجزم بأنه يتداعى، ولكنه يفقد لمعانه الحقيقي. بين واقع آخر يحيط به ويبتلع جمالياته في قبح طاغٍ، ولا يراعي أن ثمة ماضيًا ثريًا أنتج كل هذا الجمال، حتى أنه صار الآن غريبًا عما حوله.
القيمة أكبر من الموجود في الكتابات
كما ذكرت في السابق أن ما كُتب عن «ريش» لم يخرج عن سياقات الكتابة عن تاريخ المقاهي بشكل عام، وعن تاريخ بسيط لمؤسسي المكان ورواده وغيرهم. وأوافق الكاتبة ميسون صقر في جملة كتبتها في مقدمة الكتاب أن هناك فاصلاً بين الكتابة عن مقهى «ريش» وتاريخ مقهى «ريش» نفسه، حيث اكتشفت- واكتشفنا معها في الكتاب فعلاً- أن للمكان قيمة أكبر من الموجود، وذلك عندما اطلعت الكاتبة على حكايات رواده وقصصهم، وما خرج من طاولاته من أحاديث عن الكتابة والفن والعلاقات الثقافية. اطلعت كذلك على وثائق ومكاتبات داخلية خاصة بالمكان، توضح تطورات إداراته المتتابعة، وميزانياته في سنوات الرخاء والشقاء.
لقد تعاملت الكاتبة مع المقهى باعتبار أن هناك حالة حوار سارية بين المقهى والبشر السائرين في الشوارع القريبة والبعيدة، تلك الحالة التي تعدت مجرد حوار مع بشر إلى حوار مع تاريخ كبير أسهم في صنعه ملايين المصريين والأجانب الذين كانوا يشكلون حالة أخرى من الحوار والتفاهم متعدد الثقافات والعادات.
معلومات يحتاجها القارئ
من يمر على مقهى «ريش» الموجود في شارع طلعت حرب المتفرع من ميدان بنفس الاسم بالقاهرة اليوم، حتمًا سيشاهد اللافتة التي تعلو مدخله الرئيس، لتشير إلى أنه تأسس سنة 1908، وفي هذا التاريخ كان المقهى مجرد «قهوة» أو مكان بلا اسم، داخل العمارة رقم 17 في الشارع الذي أُطلق عليه «شارع 804» في تقسيم الخديو إسماعيل، ثم تحول هذا الاسم إلى اسم شارع «مصر العتيقة»، ثم شارع «الشيخ حمزة»، ثم تحول إلى شارع «سليمان باشا»، عندما تقرر وضع تمثال سليمان باشا الفرنساوي في الميدان، وفي النهاية استقر باسم شارع «طلعت حرب» في التقسيم الجديد لشوارع القاهرة.
سُمي المقهى «ريش» سنة 1914، على غرار المقاهي الفرنسية، وأطلق عليه صاحبه هنري ريسينييه هذا الاسم مستعينًا بلغته الفرنسية بمعنى «الفاخر» أو المنتمي للطبقة العليا، وربما استمد من اسم المقهى الباريسي الشهير في ذلك العصر «جراند كافيه ريش».
كان لمقهى «ريش» خمسة أبواب، أربعة منها يفتح في المناسبات، بينما الخامس يظل مغلقًا ويدخله منه كبار الزوار فقط. مع بدايات الحرب العالمية الأولى كان المراسلون الأجانب يجلسون عليه ليستقوا الأخبار، فأمام المقهى كان يقع مقر القيادة العامة لهيئة الأركان لدول المحور بقيادة الإمبراطورية البريطانية. وعندما اشتعلت ثورة 1919 كان رجالها يعقودون اجتماعاتهم السرية فيه. في تلك الفترة كان مقصدًا لأهم رواد الحركة المسرحية والصحفية والفكرية في مصر، فكان يجلس عليه عزيز عيد وفاطمة رشدي وفاطمة اليوسف. وقبيل ثورة يوليو كان يرتاده جمال عبدالناصر وأنور السادات وآخرون من تنظيم الضباط الأحرار.
في الستينيات والسبعينيات ظل كذلك ملتقى للساسة مع أهل الفكر، وكانت تقام في حديقته مسرحيات وحفلات غنائية وعروض كبرى. كان جرسوناته مزيجًا من اليونانيين والنوبيين، أما اليونانيون فكانوا يرتدون الزي الأوروبي، بينما النوبيون كانوا يرتدون زيًا شرقيًا مزركشًا.
دفتر أحوال «ريش»
من خلال الوثائق التي عرضتها الكاتبة والروائية ميسون صقر الخاصة بمقهى «ريش» يستطيع القارئ بسهولة أن يعرف كيف يكتب تاريخ المكان. اهتمامها بالوثائق يشبه إلى حد كبير موضوع روايتها المهمة «في فمي لؤلؤة»، فهي نقبت في تاريخ المكان عن وثائق لحكاية دفتر أحوال المقهى، كما كان الغواصون يفعلون في استخراج اللؤلؤ في روايتها، وهي المهنة الشاقة المتعبة، وقد خاضتها الكاتبة رغبة منها في كتابة تاريخ مهم وموازٍ لما كان يحدث في خارج المقهى.
أولى الوثائق يعود إلى الأهرام 1 فبراير من سنة 1904، وهي عبارة عن إعلان لمزاد بيع أرض العمارة التي تضم المقهى. وأرض العمارة كانت من قبل قصر منيف يملكه الأمير محمد علي ابن الخديو توفيق، وعاش فيه لفترة قبل أن ينتقل إلى قصره الجديد في المنيل، تاركًا هذا القصر ليباع سنة 1905. الوثيقة تقول، إن أرض القصر طرحت للبيع إما كاملة أو أجزاء منها في مزاد، ويدفع الثمن فور القبول.
ويعتبر هنري ريسينييه هو مالكه الأول، وفقًا للمستندات الموجودة مع آخر مالك للمقهى وهو مجدي عبدالملاك، الذي رحل منذ سنوات قليلة، ثم انتقلت ملكيته من ريسينييه إلى اليوناني ميشيل بوليتس سنة 1916، وظلت ملكية المقهى تتداول على اليونانيين حتى سنة 1960، وحينها انتقلت الملكية لأول مرة إلى مصريين، وكان عبدالملاك خليل ميخائيل هو الأول، ونقله بعد ذلك لورثته، ومنهم الراحل مجدي.
في دفتر الأحوال سردت ميسون صقر حكايات كثيرة حدثت في المقهى، منها على سبيل المثال أن البدروم الخاص به كانت تطبع فيه منشورات ثورة 1919، ومنه انطلقت أكبر حركات الجهاز السري لتلك الثورة بقيادة عبدالرحمن فهمي، وكانت وظيفة هذا الجهاز المحافظة على استمرار اشتعال الثورة. فيه أيضًا جلس الطالب الثوري الذي لم يكمل عامه العشرين عريان يوسف سعد وهو يحمل قنبلتين كانتا في حوزته، وحينما اقتربت سيارة رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا، ألقى عليه القنبلتين في محاولة اغتيال فاشلة، فلم يصب وهبة، وحكم على عريان بالإعدام ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات. واستكمالاً لحلقة التاريخ فقد دعا صاحب المقهى الراحل مجدي عبدالملاك حفيدتي (الثائر عريان يوسف سعد، ورئيس الوزراء يوسف وهبة باشا) للمصالحة بينهما بعد سنوات طويلة، والتقطا صورًا تذكارية، وضعتها ميسون في الكتاب.
عبر طاولاته كان رجال الحاشية ينتظرون قدوم الملك فاروق من قصر عابدين إلى نادي السيارات حيث يلعبون معه القمار، وإليه انتقلت ندوة نجيب محفوظ من كازينو الأوبرا سنة 1963، لتصبح في هذا العهد مقرًا شبه دائم للشاعر أمل دنقل والقاص يحيى الطاهر عبدالله وغيرهما. وتذكر بعض الروايات أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان من بين رواده أثناء دراسته في مصر، حيث كان يجلس إلى بعض اللاجئين العراقيين ليتدارسوا أمور دولتهم، ومنه كذلك خرجت تظاهرة للأدباء احتجاجًا على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني.
في السنوات الأخيرة تعرض المقهى لأزمات كثيرة، وأغلق فترات، وأعيد ترميمه في فترات أخرى، ومع قلق الكثيرين على جزء مهم من تاريخ مصر، كان المقهى يعود بنفس ألقه واعتياده على احتضان الجميع، ليمثل نموذجًا مصغرًا لمصر «الكوزموبوليتانية» متعددة الثقافات والعادات.
كتاب «مقهى ريش.. عين على مصر»، رغم حجمه فإنه شيق وممتع، وفيه وقائع كتبها مؤرخون كبار في كتبهم، مضافة إلى الوثائق التي تعتبر أمتع ما بين دفتيه.