البحر الأحمر: «حارس الازدهار» يواجه «باسيج» إيران
شعر العالم أن التباطؤ الاقتصادي الذي ضرب العالم بسبب فيروس كورونا قد أصبح من الماضي، وأن الاقتصاد سيعود إلى حالته المثالية. لكن جاء طوفان الأقصى ليقلب الموازين مرة أخرى. لم يتوقع أحد أن حربًا تُبيد فيها إسرائيل شعب غزة ستؤثر على المواطن الأبيض في أبعاد نقاط الأرض عن الشرق الأوسط.
لكن كان للحوثيين في اليمن رأي آخر، لن تعبر أي سفينة متجهة لإسرائيل، أو يملكها إسرائيلي. أسر الحوثيون سفينة في البداية، ثم تتابعت عملياتهم في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. العديد من السفن لم تستجب لطلب الحوثيين بالتراجع أو الانقياد مع زوارقها فهاجمها الحوثيون بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية. عملية تلو الأخرى حتى اقتنعت الشركات العالمية أن الحوثيين جادون في تنفيذ ما يقولون.
لذا بدأت كبرى شركات النقل البحري العالمية في إعلان توقف نشاطها مؤقتًا في البحر الأحمر. والشركات المستمرة حتى الآن قام برفع أسعار الشحن خلالها، ورفع قيمة التأمين ضد المخاطر. كانت شركة مايرسك الدنماركية من أوائل الشركات التي أعلنت عن وقف رحلاتها في البحر الأحمر. مايرسك تمتلك وحدها 15% من إجمالي الشحن البحري العالمي. فهي تمتلك قرابة 700 سفينة نقل ضخمة، تسع تلك السفن مجتمعة قرابة 4.1 مليون حاوية.
في نفس اليوم، 15 ديسمبر/ كانون الثاني، أعلنت شركة هاباج لويد الألمانية نفس الأمر، التوقف المؤقت عن الرحلات في البحر الأحمر. الشركة الألمانية تمتلك منفردةً 7% من الشحن العالمي، ويبلغ أسطولها من السفن قرابة 257 سفينة، تستطيع نقل ما يصل إلى مليوني حاوية.
أحجار الدومينو بدأت في التساقط تباعًا، ففي اليوم التالي أعلنت شركة سي إم إي الفرنسية توقف خدماتها عبر البحر الأحمر. الشركة تمتلك قرابة 12% من الشحن البحري العالمي. ولديها أسطول مهول من السفن يصل إلى 630 سفينة، يمكنها استيعاب 3.5 مليون حاوية.
العملاق الجديد كان شركة إم إس سي السويسرية. تُعتبر أكبر شركات الشحن البحري، وتمتلك وحدها قرابة خُمس الشحن البحري عالميًا. فلديها أسطول من 800 سفينة نقل، وتستطيع نقل قرابة 5.5 مليون حاوية.
إذا اكتفينا بذكر تلك الأمثلة فحسب من الشركات العملاقة التي أوقفت عملياتها التجارية عبر البحر الأحمر فسوف نكتشف أن قرابة 55% من الشحن البحري، وشركاته العاملة به، قد أعلنت توقف رحلاتها عبر البحر الأحمر بسبب الحصار الذي فرضه الحوثيون للضغط على المجتمع الدولي للتحرك من أجل أهل غزة.
لكن علاوة على الشركات أعلاه فقد أعلن عمالقة آخرون إيقافهم للشحن عبر البحر الأحمر. مثل شركة الشحن البحري التايوانية يانج مينج، التي أعلنت أنها ستُحول شحناتها إلى رأس الرجاء الصالح. كذلك فعلت شركة ولينيوس فيلهملس. وإذا كانت الشركات السابقة ليست بالشهرة الإعلامية التي تجعلك تدرك أسماءها من المرة الأولى، فإن شركة بريتش بتروليوم، بالتأكيد عملاقة بما يكفي لتدرك تأثير إعلانها عن توقف شحناتها عبر البحر الأحمر.
كما أعادت شركة الغاز النرويجية، إكوينور، توجيه شحناتها عبر البحر الأحمر. وشركة ناقلات النفط البلجيكية، يوروناف. كما أعلنت شركة الحاويات التايوانية، إيفر جرين، عن تعليق قبول الشحنات الإسرائيلية بشكل فوري. وأضافت أنها ستتجنب البحر الأحمر مؤقتًا.
إعلان تلك الشركات وغيرها إيقاف الشحن مؤقتًا، أو التوجه لمسارات بديلة بعيدًا عن مضيق باب المندب، سيرفع تكلفة الشحن عالميًا، وسيسارع من الضغوط التضحمية بشكل كبير. فتعطل الشحن سيؤدي إلى نقص المعروض عالميًا، بجانب زيادة تكاليف الشحن والتأمين، فإن تلك التكاليف لن يُعاني منها المُنتج، بل سيتم تصديرها للمستهلك النهائي كي يدفع هو ثمن كل شيء.
وحتى لحظة كتابة التقرير فإن سفن النفط عمومًا خارج دائرة الاستهداف الحوثي، ما دامت غير متجهة لإسرائيل، لكن إذا شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها ضربات على الحوثيين فربما يوسع الحوثيون من دائرة الاستهداف ليشمل النفط عالميًا. عند تلك اللحظة سيتغير كل شيء، فسوف يرتفع سعر البرميل، مع زيادة تكاليف التأمين والمخاطر الخاصة بناقلات النفط. وإذا طرحنا عدد البراميل التي تخرج من باب المندب فإن الإنتاج العالمي من النفط سوف يعاني نقصًا بنسبة 6% من النفط المنقول يوميًا.
هذا السيناريو يزداد اقترابًا مع ازدياد الحشد العسكري من كافة الأطراف. فالولايات المتحدة من جهتها أعلنت عن تشكيل تحالف دولي لحماية الشحن في البحر الأحمر باسم حارس الازدهار. وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، أعلن عنه في 19 ديسمبر/ كانون الثاني. قال أوستن أن هذا التحالف قد تشكل تحت مظلة القوات البحرية المشتركة، وقيادة قوة المهام المشتركة.
يتكون الحلف من10 دول بارزة، على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وكندا والمملكة المتحدة وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا وسيشيل والدنمارك والاتحاد الأوروبي مجتمعًا. أما الدولة العاشرة فهي البحرين. وأعلنت القيادة الأمريكية أن عددًا من الدول العربية تشارك سرًا في هذا التحالف، وترفض الإعلان عن مشاركتها خوفًا من إثارة غضب شعبي، إذ إن هجمات الحوثيين معنية بشكل أساسي وحصري بالسفن التي تساند إسرائيل.
أما السعودية، فقد تحدثت القنوات العبرية أنها لم تنضم إلى التحالف سرًا أو علانيةً، لأنها تسعى لاتفاق يُنهي حربها مع صنعاء، كما أنها تخشى أن تنتقل تهديدات الحوثيين إليها. أما الإمارات على العكس فإنها، وفقًا للإعلام الإسرائيلي، فإنها تدرس اختيارات انضمامها للتحالف لكن شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بتقديم ضربة عسكرية قاصمة للحوثي ولانتزاع صنعاء من سيطرته.
أما في الداخل الأمريكي، فيتم التسويق إلى عملية حارس الازدهار بأنها رمزية أكثر منها حقيقية. هدفها التأكيد أن عديدًا من الدول ترفض هجمات الحوثيين، وتزيد الثقة لدى شركات الشحن. خصوصًا مع تصريحات العديد من قادة السفن الحربية بأن التصدي لهجمات الحوثيين مكلف بشكل غير منطقي، فالسفينة العسكرية تطلق صاروخًا متطورًا تتراوح تكلفته بين مليون ومليوني دولار أمريكي، للتصدي لطائرة مسيرة لا تتعدى تكلفتها في أقصى التقديرات لألفي دولار.
لذا فالعملية ستحتاج من الولايات المتحدة التروي والتفكير مرتين قبل الاشتباك الفعلي مع الحوثيين. خصوصًا أن الحوثيين قد أعلنوا أن هذا التحالف لن يؤثر على عملياتهم ضد السفن المتجهة للكيان الإسرائيلي، وأنهم لا يستهدفون سوى السفن المتجة إلى إلى إسرائيل.
ما يزيد من تعقد الأمور هو قيام إيران بالدخول على خط الأزمة بشكل مباشر. فقد أعلن الحرس الثوري الإيراني تشكيل قوات بحرية قوامها 55 ألف عنصر. رضا تنجسيري، قائد القوات البحرية في الحرس الثوري، أعلن الأمر من العاصمة طهران. وشدد رضا أن تلك القوات تملك زوارق كبيرة بما يكفي لحمل صواريخ عيار 107 مليمترات. وقال إن زوارق تلك القوات كبيرة بما يكفي للوصول إلى سواحل تنزانيا.
لتكون تلك القوات بمثابة قوات ظل في البحر الأحمر. لحماية الحليف، أو التابع، الحوثي. وإذا اصطدمت الولايات المتحدة بهذه الزوارق الإيرانية فإنها تهدد بإفشال سنوات من المفاوضات للتهدئة، وتهدد كذلك الاتفاق السعودي الإسرائيلي. كما أنها تخاطر بمكانتها التي تعاني أصلًا بفعل دعمها المُطلق وغير المشروط حاليًا لإسرائيل في حرب الإبادة التي تمارسها على غزة.
يبدو أن العالم بات رهينة الصراع الذي غض الطرف عنه لسنوات طويلة، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن مصير المنطقة بات مرهونًا بمواقف المقاومة الفلسطينية في غزة، وبالتنازلات التي ستقبل إسرائيل أن تدفعها كي تنتهي تلك الحرب الوحشية، التي تهدد بإشعال المنطقة بالكامل.