ملاحظات مجند
يُتوقع من هكذا عنوان أن تكون الكلمات اللاحقة له تدور حول ذكرٍ لوقائعَ وأحداثٍ مررتُ بها أنا أو غيري ممن ساقهم القدر للسقوط في هذا الأسر/التجنيد الإجباري، لكنني لست أقصد هذا السبيل. إن ما تدور حوله هذه الكلمات هو محاولة لفهم هذه التجربة -أو ربما هذا ما أتخيله. بتعبير آخر: هي محاولة للوصول إلى ما هو أبعد من الصورة النهائية المعروفة لهذه التجربة. وبشكل أكثرَ تفصيلًا: هي أملُ الإمساك بشيءٍ ما وراء مشاعرنا المختلفة بالقهر والذل والتحكم بذواتنا؛ علها تصل إلى شيء ما جوهريٍ حول طريقة عمل هذا الآلة ضدنا نحن المأسورين/المجندين بما يخلف المشاعر المذكورة آنفًا، ولأن تحقيق هذا الذي أزعم الوصول إليه يَستدعي أن أكون «مراقَبًا» وهذا يقتضي انفصالي عن هذه الآلة على نحوٍ ما، وما دمتُ غير قادر على الانفصال بصفتي أحدَ أطراف هذه التجربة وموضوع ممارساتها؛ فإن الأمل -المذكور أعلاه- لن يتجاوز حيز الرغبة، عليَّ إذن أن أدرك موقعي وأعرفَ أنه لن يمكنني من فعل شيء أكثر من أن أدوّن بعض الملاحظات هنا!.
ولْنبدأ بطبيعة عمل هذه الآلة أو ما الذي يتوقف عليه دورها وفاعليتها، تتوقف فاعلية هكذا مؤسسات على قدرتها على عزل أفرادها عن ذواتهم ليبدأوا بتصور أنفسهم داخل هيكل/بنية مختلفة، لها أطرها المرجعية الخاصة، الجزء الأهم من عملية العزل تلك يرتبط بعملية «تحييد» كل الأطر المرجعية الأخرى عن العمل كمرجعية نهائية، تتحرك عملية التحييد تلك فيما يشبة السلسلة أضعف حلقة بها هي في نفس الوقت محور الأمر برمته ألا هو خلق «قبول» لدى جميع المنضوين تحت المؤسسة بـ «النظام الجديد»، يتحقق هذا القبول عندما يصعد الإطار الجديد كمرجعية نهائية وفي حالتنا فإننا نتحدث عن «الميري» كمرجعية، ربـمـا يجب هنا ملاحظة أمرين:
الأول: هو أنه مع انتهاء تلك العملية نكون بإزاء أفرادٍ تم صناعة «ذواتهم» من جديد فليس من قبيل التناقض أن شخصًا ودودًا يقوم بأكثر الأعمال بشاعة، فالإطار المرجعي الجديد والمُحايد يجعل مثل هكذا أعمال ليست فقط مقبولة بل ضرورية وواجبًا يستحق الإشادة -ربما-.
الأمر الثاني: هو كون الأطر المرجعية الأخرى لا تُستبعد تمامًا بل يتم استدعاؤها ضمن «الميري»؛ فالدين مثلًا يُستدعى منه الحديث عن «الطاعة» في حين يُقصِي تمامًا الحديث عن «السيادة» مثلًا، وليس بغريب بعد ذلك أن نرى دينًا وأخلاقًا جديدة كليًا، لكنها بالطبع تساعد في إخضاعنا لـ «النظام»، هكذا تجد أحدهم يطالبك بوقاحة بتنفيذ أعمال سُخرة بضمير وأمانة مستشهدًا بما يُفترض أنه يتصل بالدين.
بالطبع نعرف أن التحكم الكامل وهمٌ لن يُكتبَ له وجودٌ طالما بقي فينا قَبَسٌ إنساني يجذبنا نحو الحرية، لن يكون جديدًا القول أن ما يهم هذا الكيان بالتحديد هو «السيطرة»، لكن ما قد يبدو جديدًا نوعًا ما هو التأمل بعض الشيء في مجالات السيطرة تلك، ولنجعل هذه الكلمة ذات معنى أوضح يمكننا القول بأن تلك السيطرة لا تتحقق إلا بجعل مجمل نشاطك الإنساني «متــوقعًا»، وفي هذا المكان يبدو «التحييـد» كطريق ملكي لجعلك «متوقعًا»، يلعب الزي والرتب ونحوهما دورًا مهمًا هنا، لكن يبقى نُـتوءٌ بارز قد يُشكِّل خطرًا على محاولة التحييد تلك ألا وهو «اللغة».
ذاتَ يوم تحدَّث أحد الضباط بنبرة أقرب إلى الصراخ لكون الجنود الجدد لا يلتزمون الحديث «بالميري»، يمكن تعريف الميري بأنه السعي الدائم لاستيعابك داخل «الموضوع»، خارج هذا الإطار -الميري- قد تتعرض محاولات السيطرة لما هو غير متوقع، لايهم كنه هذا المجهول ما يهم فقط هو كونه «غير متوقع»، ما يهم هو كونه «فجوة» قد تسمح لما هو «إنساني/ذاتي» أن يضرب بمحاولة «التحييد» عرض الحائط، عندها قد تظهر شذرات حرية تحيل بدورها إلى الخطر الأبرز: الإنساني/اللامتوقع.
بغض النظر عن مدى واقعيتها وصحتها لكن رمزيتها لا يمكن إغفالها على الإطلاق، أقصد العبارة الشهيرة التي تتحدث عن كون الجيش هو «مصنع الرجال»، لا يمكن لهذه العبارة أن تفصح عن حقيقتها بالإحالة إلى معانٍ كالشجاعة والتضحية وغيرها، ولكن يمكنها أن تتعرى أمامك بالإحالة إلى التحييد، التشيؤ، والأداتية أيضًا.
كثيرًا ما سقط مصطلح «أداتية» أمام عيني في قراءات مختلفة، لم أهتم به حقًا إلا عندما حدث بينه وبين الفعل الثوري ربطٌ ما، وكيف أن المجتمعات التي تسيطر عليها عقول أداتية تصبح أكثر قدرة على التكيف مع ما يطرأ عليها، تفكر فقط حول سؤال «كيف» بينما تنفي سؤال «لماذا» من عالمها. لا يتعلق الأمر فقط برغبتها أو إرادتها بل بنمذجتها من خلال تفاصيل حياتها على ألا تقدر على شيء ولا تسعى إلى شيء إلا هذا التكيف الأداتي. أسأل نفسي الآن – وبعد حوارات كثيرة أجريتها مع عدد لا بأس به من صف الضباط الساخطين على أواضعهم – لماذا يقف هؤلاء دائمًا عند منتصف الطريق؟، لماذا يتوقفون عند هذا الموقف أو ذاك؟، ما فعله هذا الضابط معي، أجازتي التي لم أحصل عليها، لماذا لا يكملون الطريق؟، ما الذي يمنعهم من أن يصلوا إلى نهاية الخط؟، ولكن أنّى لهم أن يفعلوا هذا وهم لا يستطيعون بفضل «الأداتية» أن يسألوا أسئلة كلية نهائية؟، أنَّ شخصًا قضى على أقل تقدير عشرة أعوام من حياته بين تنظيف للأرض وتلميع للحوائط والرد على هاتف والوقوف لساعات في مكانه حاملًا سلاحًا في مكان لا يستهدفه أحد، أن شخصًا قضى عمره في هذه التفاصيل وتقبلها بلا سخطٍ كبير، شخصٌ كهذا لا يمكنه أن يعبر إلى نهاية الخط. لن يتمكن بسهولة من الوصول إلى معاني القهر المجتمعي، الطبقية، التشيؤ، الاستهانة بكل ما تمثله حياتك، شخصٌ كهذا لن يصل إلى أنَّ «العسكرية» هي تعليقٌ لحقِّ «الحياة» بكل تعقيدات هذه الكلمة بدءًا من حريتك في الغضب والحزن والبكاء في عالمك الجُوَّاني انتهاءً باحتمال أن تخسر حياتك نفسها في العالم الموضوعي.
ماذا عنا إذن؟، نحن لم نقض جُلَّ حياتنا بداخل خط الإنتاج هذا أليس كذلك؟!. لازلنا نحتفظ بقدرتنا على الرفض و المقاومة، لم تتم إعادة صياغة وجودنا بعد. لكن ماذا لو أن حياتنا هي خط الإنتاج/المصنع نفسه؟، ماذا لو لم تكن هذه المؤسسة والتجربة التي نمضيها بها إلا محض تنويع أو إحدى صور إعادة الصياغة تلك؟، لماذا لا نفكر في احتمالية أن تكون حياتنا هي سلسلة من التدجين؟!.
نسأل أنفسنا بطرق مختلفة كلما حانت فرصة عما إذا كنا قد تم تدجيننا أم لا، صحيح أننا نسأل لكننا دائما لا نقبل إلا بإجابة واحدة تأتي بالنفي المطلق، نؤكد هذا لأنفسنا باختبارتنا المختلفة: بدءًا بالموسيقى التي ننتمي إليها، مرورًا بالزي -أحيانًا- الذي نتوهم أننا نعرض به انسلاخنا عن المجتمع ونجاتنا من التدجين، وانتهاءً -بالطبع- بتحيزاتنا السياسية والفكرية. هل موقفنا من هكذا تدجينٍ يمكن أن نتعرف عليه من خلال اختياراتنا العقلية، أم أن حقيقتنا تكشف عن نفسها كما هي في «الممارسة» لأفعال المقاومة المباشرة، أن نصدع بالرفض ونتحمل العواقب؟.
أذكر حين كنت في مرحلة مبكرة من مراهقتي، كنت أستمع إلى بعض الأمور التي تحدث في الجيش -والتي تمثل اعتداءً مباشرًا على جسدك-، لم أكن أتخيل وقتها أنني يمكنني القبول بهذا، وكنت أؤكد لنفسي ولمن يحدثني عن ذلك أنني بلا شك لن أخضع لهذا، لماذا لم يتعدّ رفضي هذا حيز القرار العقلي إلى الممارسة الفعلية إذن؟، أخشى أن الإجابة أنه قد تم تدجيني إلى حد بعيد، لهذا إذن يبدو قرار المقاومة الخيار الثاني دائمًا. عند هذه النقطة تحديدًا أدهشني كيف أنني وبمراجعة جُل مراحل حياتي في المجال العام، أدهشني أنني كنت دائمًا -أنا وغيري- نخضع دائمًا لسلطة غير عقلانية تملك أدوات قوة وإخضاع متعددة، يبدو الأمر مختلفًا عن القراءة عندما تعيشه، الآن أرى نفسي وقد خضعت لهذه السلطة في المدرسة والجامعة. ليس هذا الغريب في الأمر بل الغريب بالنسبة إلى أنك كمجند تخضع لنفس السلطة لكنها تتمادى أكثر وأنت لا تحرك ساكنًا لأنك أَلِفْتَ هذه السلطة طوال حياتك، أعلم أنه بالنسبة إلى الغالبية قد يبدو هذا الحديث غير متسق أو مبالغ فيه، لكن التجربة -على الأقل تجربتي- تقول إن السلطة التي يمتلكها الأستاذ في المدرسة وكذا المدرس في الجامعة وأخيرًا الضابط في الجيش تقف جميعها على نفس النسق، باختصار يملك كل منهم أن يحدد ما القانون!، عندها سيصبح «وجودك» ككائن إنساني بكل تعقيداته على المحك، وتصبح حياتك في مرامهم، ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي تمكنهم كفاءتهم من استهدافه.
في أحد المشاهد القليلة التي تستحق الاهتمام من فيلم (V FOR VENDETTA)، تتعرض إيفي/نتالي بورتمان إلى محاكاة للسجن و التعذيب، تعاني حتى تصل إلى مشارف الموت، ثم تكتشف بعد ذلك أن ما حدث لم يكن حقيقيًا وأن( في) هو من افتعل ذلك. في البداية تصدم، تشتاط غضبًا، تنهار، ثم تصرخ، ما يهم في كل هذا هو وصف لانا وتشاوسكي لهذا المشهد بأنه «ولادة إيفي»، ما يهم أيضًا هو ما قالته لانا على لسان (V): «ليس ثمة طريق آخر»، المعاناة هي الطريق إذن.
يبدو أن حياة معظم الأنبياء لم تكن تملؤها السعادة في أغلبها، وإنما غمرت حيواتهم بالمعنى. لذلك هم «مصطفون» ولذلك هم من هم بالمعنى لا بالسعادة، ولطالما كان المعنى الذي يدركه الأنبياء يمر عبر معاناة على اختلاف أنواعها.
المعاناة هي اللحظة التي تكتشف فيها المعنى، تطرح فيها السؤال، تكابد لتفهم. لم أكن أفهم لماذا ينبثق هذا من الألم لا السعادة، من المعاناة لا الراحة. ربما تكمن الإجابة في كون إحساسنا بما هو مفتقد يجعلنا نتصوره، ومن البديهي أن الطرف الآخر من هذه الثنائيات لم يكن يومًا محاطًا بهالة من الفقد والاشتياق، لذا فإن المعنى يبدأ بالطرف الأول من هذه الثنائيات.
ما يجب ذكره أيضًا هو دلالة ومحورية «التجربة». أذكر أن «ستيفن بينكرز»، وهو عالم لغة، تحدث ذات مرة عن كون الإنسان يفكر باللغة وبوسائل أخرى، فاللغة هي إحدى وسائل التفكير وهو ما كنت أظن عكسه، فالصورة الذهنية والتخيلات تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل «المعنى»، وذكر في ذلك أن عددًا لا بأس به من الروائيين يتخيلون مشاهد ثم يعبرون عنها بالكلمات وليس العكس، فمعنى الألم والقهر والمعاناة وغيرها لا يتحدد فقط من الصوت الذي يحدثه تلاقي حروف معينة معًا كما أنه -أي المعنى- لا يتحدد بتعريف معجمي بل إن تركيبته أعقد منذ ذلك؛ وعليه فإن التجربة يمكنها أن تكون المصدر الأساسي في رسم المعنى.
ربما يكون الألم والمعاناة ونحوهما ما يمكن أن نتلقى عليه حقًا اختبارًا من الإله، لكن النجاح فيه ليس بالتكيف معه على الإطلاق، وإنما النجاح يكون بالترقي أن تجتاز ذاتك إلى أخرى أكثر معرفة بالوجود ولكنها ليست متكيفة معه، أكثر اقترابًا من المعنى الحقيقي لإنسانيتك، أكثر شعورًا بمعية صاحب السيادة الذي تستمد منه تلك الإنسانية، هكذا يبدو الخط الفاصل بين الرضا والتكيف أبعد ما يكون. فالرضا هو الرضا بصعوبة الاختبار، صعوبة التحدي، يبدو الرضا أقرب إلى ذات ثورية تناضل باستمرار ضد اختبارات الوجود.
الشاهد الأهم هنا هو أن المعاناة لا تقابل بأن تتكيف معها، وتخضع لها، وإنما أن تصبح لحظة ثورة على تصوراتك القائمة إلى أخرى أكثر نضجًا لتحقيق ما تعاني لأجله و وأكبر قوة على مقاومة ما تعاني بسببه.
إن كان ثمة أحدًا ما هنا يقرأ هذه السطور، فلربما جال بخاطره أن ما نتعرض له نحن المجندين/المأسورين ليس بهذه البشاعة، وأنّ ما نتعرض له ليس بنفس الشدة، ربما أصبت لكن ليس تمامًا. نعم لا نتعرض جميعًا لنفس المعاناة، لكن المعاناة من زاوية ما لا تختلف عن بعضها في شدتها. ليس عليك أن تمر بحالة استثنائية لكي تملك حق أن تصف ما مررت به بـ «المعاناة»، إنها تتمدد بداخلك باستمرار وليس بإمكانك أن تعلم متى تتوقف، وكأن هذا لا يكفي حتى تأتي لعنة الذاكرة لتجعل من بضع لحظات محدودة إمكانية التكرار الدائم خارج إطار الزمن، هكذا كلما شارف ألمك على النهاية منحته تلك اللعنة حياة أطول.
بقي أمر أخير، إن كان هذا الحديث معبرًا عنا نحن المجندين فهو لا يشملنا جميعًا، يستثنى منه أولئك الذين تخلوا حتى عن رفضهم الداخلي، أولئك الذين «وقّعوا معاهدة الحب بين القتيل وقاتله»، وأيضًا يستثنى الذين مكّنهم موقعهم الاجتماعي القريب من دوائر السلطة بالنجاة مما نحن فيه.
لست مهتمًا حقًا إذا ما كانت هذه الكلمات اقتربت ولو قليلًا من هدفها المعلن في أول فقرتها، ما أكترث له حقًا هو ذلك الأنين الذي يلج بصدر الأسير الذي لا أعرفه، كلانا يعلم أننا لسنا نفس الشخص الذي كُنَّا، ليس بإمكاني إخبارك بأن الأمور سوف تصبح أفضل غدًا، أنت تعلم أن هذه هي الكذبة الأكثر سذاجة، أعرف أن لا أحد ممن يواسونك يعلم حقًا ما تمر به، لكن الأمر مختلف بيننا. لن أفعل ما هو أسوأ، لن أتوجه إليك بالشفقة، أود فقط أن أنقل إليك ما همس به أحد الأصدقاء يومًا، لو لم تكن المعاناة أداة معرفية لكان الانتحار إلزاميًا.