استرداد طابا: نصر الدبلوماسية المصرية الأكبر
هكذا في سطر واحد يختصر البعض معركة دبلوماسية ضخمة، شغلت مصر والعرب وإسرائيل على مدى سبع سنوات كاملة، وانتهت بانتصارٍ مصري في زمن كان تجرع الهزيمة فيه أمرًا اعتياديًا. هنا نسلط الضوء على بعض من فصول هذه المعركة التي أعادت كامل تراب سيناء إلى مصر.
التسلسل الزمني للأحداث
بدأ النزاع في أكتوبر/ تشرين الأول 1981، خلال اجتماع مصري – إسرائيلي لترتيب الانسحاب من سيناء. اتفق الطرفان على كل العلامات الحدودية باستثناء العلامة 91 الخاصة بطابا. ولما رأى الوفد الإسرائيلي تشبث المصريين بموقفهم من طابا ورفض الحلول الوسط، قرر توسيع هوة الخلاف بحيث يشمل 14 علامة وليس علامة واحدة فقط.
خرج النزاع إلى العلن في مارس/ آذار 1982، عندما أعلنت مصر عن وجود خلاف حول بعض العلامات الحدودية، وأكدت تمسكها بموقفها المدعوم بالخرائط والوثائق الدولية التي لا تقبل الشك. عقدت اجتماعات رفيعة المستوى في القاهرة وتل أبيب من أجل حلحلة الأمور، لكن الأمور تعقدت أكثر بعد التعنت الإسرائيلي في إعادة طابا إلى مصر، فطالبت مصر باللجوء إلى التحكيم لحل النزاع كما تنص المادة السابعة من معاهدة السلام بين البلدين، بحسب ما رواه الدكتور نبيل العربي رئيس وفد المفاوضات بتحكيم طابا، في كتابه «طابا كامب ديفيد الجدار العازل».
قامت مصر بنشاط دبلوماسي دولي مكثف لإظهار المحاولة الإسرائيلية لقضم قطعة من أرض سيناء، وقدمت العديد من الأدلة على تبعية طابا لها، منها على سبيل المثال أن إسرائيل لما انسحبت من سيناء عقب عدوان 1956، انسحبت إلى الحدود الدولية وفق المفهوم المصري وليس وفق ما تزعمه حكومة تل أبيب، لكن إسرائيل ردت بأن موقفها قائم على وجود خطأ في تعليم الحدود وفق اتفاقية 1906 الخاصة بتعيين الحدود بين مصر والدولة العثمانية، وأن موقفها الجديد لتصحيح هذا الخطأ.
غزت إسرائيل لبنان منتصف العام 1982، فسحبت مصر سفيرها من تل أبيب وعلقت المفاوضات. استمر الوضع على هذا الحال حتى شُكلت حكومة إسرائيلية جديدة تقلص فيها نفوذ اليمينيين المتشددين عام 1984، فاستأنفت المفاوضات، لكنها ظلت عقيمة وغير ذات جدوى، فرفضت القاهرة إعادة سفيرها إلى تل أبيب حتى الانسحاب الإسرائيلي من طابا. وفي عام 1986؛ أي بعد 4 أعوام على اندلاع الخلاف، قبلت إسرائيل بفكرة اللجوء إلى التحكيم.
اللجوء إلى التحكيم لم يعنِ الذهاب إلى التحكيم مباشرة، ولكن عنى الدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات من أجل الوصول إلى القواعد التي سيقوم عليها التحكيم، والأسئلة التي سيطلب من الهيئة حلها بعد استجواب الطرفين والتدقيق في الأدلة. وبعد تسعة أشهر من المفاوضات، اتفق الطرفان برعاية أمريكية على مشارطة التحكيم في سبتمبر/ أيلول 1986، واختيرت هيئة المحكمة، التي تكونت من 5 قضاة؛ مصري، وإسرائيلي، و3 مستقلين.
أخذ الطرفان يستعدان بكل الطرق للتحكيم، فجمع كل طرف ما تسطيع يداه أن تصل إليه من الوثائق التاريخية والخرائط والشهود والأدلة المنطقية لدحض أدلة الطرف الآخر، وبدأت الجولة الأولى من المرافعات في مارس/ آذار 1988.
كانت مصر تمتلك أدلة أقوى بكثير من الأدلة الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال قدمت مصر 29 خريطة بأحجام مختلفة تثبت ملكيتها لطابا، جُمِعت من الأرشيف المصري والبريطاني والتركي (العثماني) بل وقدمت 10 خرائط من الأرشيف الإسرائيلي نفسه. فيما قدمت إسرائيل ست خرائط فقط. لكن الخرائط والوثائق لم تكن كافية فقط لحسم القضية لصالح مصر وكان للمرافعات أهميتها.
كان كل ما تريده إسرائيل من التحكيم هو بلبلة هيئته وتسريب الشك إلى يقينها حول الموضع الصحيح لعلامات الحدود، فلا تستطيع أن تحددها ويعود الموضوع إلى مائدة المفاوضات فتُجبر مصر على القبول بحل وسط، لكن الوفد المصري فطن إلى الهدف الإسرائيلي وعمل على إفساد خطته ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا كلل بصدور الحكم يوم 29 سبتمبر/ أيلول 1989 لصالح مصر.
ماذا عنت قضية طابا لمصر وإسرائيل؟
حظيت قضية طابا باهتمام مصري وعربي وإسرائيلي كبير للغاية، بشكل حوّلها من مجرد خلاف على ملكية شريحة من الأرض لا تتجاوز مساحتها كيلو متر مربع واحد، إلى قضية قومية مصريًا وإسرائيليًا هددت اتفاقية السلام الوليدة بين البلدين، ودفعت طرفيها إلى بذل ملايين الدولارات ومئات الساعات من العمل والنقاشات والمفاوضات.
تفجر الخلاف حول طابا عام 1982. كانت مصر تمر بلحظة غاية في الحرج في ذلك الحين، إذ لم يمض على اغتيال الرئيس السادات سوى أشهر قليلة، وأقدام الرئيس الجديد حسني مبارك لم تكن قد ثبتت بعد. الجميع كان يتساءل:
كيف سيتعامل الرجل الجديد مع إسرائيل؟ هل سيهادنها مخاطرًا بفقدان حياته مثل السادات، أم سيواجهها ويُدخِل مصر في حربٍ جديدة؟ هل سيكون امتدادًا للسادات أم سيعيد سيرة عبد الناصر؟
كانت هذه التساؤلات تشغل بال المواطنين قبل السياسيين، مصريين وعرب، وكانت قضية طابا فرصة لمعرفة الإجابات لذلك حظيت باهتمام كبير.
إسرائيليًا، كانت حكومة تل أبيب ترغب في استثمار الاضطرابات الداخلية في مصر وسرقة قطعة إستراتيجية من أرض سيناء، تضمن بها وجودًا حقيقيًا في البحر الأحمر، بعيدًا عن الوجود المحدود الذي يتيحه منفذها بالغ الضيق المتمثل في «أم الرشراش/ إيلات» التي يصعب الملاحة فيها، وعبرت عن ذلك صراحة في مرافعاتها أمام التحكيم الدولي بقولها «إن المنطقة محل النزاع ذات أهمية بالغة لمدينة إيلات وهي في حقيقتها ضاحية لها.. والمذكرة المصرية المضادة قد كشفت أنه ليس لمصر مصلحة من أي نوع في المنطقة».
كانت قضية طابا أيضًا فرصة إسرائيل لاختبار الرئيس المصري الجديد ومعرفة كيف يفكر وكيف سيتعامل معها في المستقبل، وفرصة للتأكيد على تفوقها على العرب، ليس عسكريًا فقط -كما تزعم- بل ودبلوماسيًا أيضًا، وفرصة كذلك لإرضاء مواطنيها الغاضبين من الانسحاب الكامل من سيناء وتركها للمصريين.
التعويل الإسرائيلي على قصر النفس المصري
كان الإسرائيليون يعلمون علم اليقين أن طابا أرض مصرية وأن مزاعمهم لا أساس لها ولا سند من تاريخ أو جغرافيا، واعترفوا ضمنًا أكثر من مرة بذلك. وليس أدل على ذلك من طلب الجنرال آرئيل شارون، وزير دفاع إسرائيل في ذلك الحين، في عام 1982 أي عام اندلاع الأزمة، من الفريق كمال حسن علي وزير خارجية مصر ورئيس الجانب المصري في اللجنة العليا المشتركة لتنفيذ معاهدة السلام، أن تترك القاهرة لتل أبيب المنطقة المقام بها فندق سونستا الإسرائيلي وتحصل على باقي طابا كحل وسط للقضية.
كانت إسرائيل تعتقد عندما افتعلت الأزمة، أن مصر ستتنازل بسهولة عن طابا، لسببين؛ أولهما أن الأوضاع المضطربة في القاهرة لن تسمح لها بالدخول في صراع جدي مع تل أبيب، والثاني أن مصر لن تمانع في ترك كيلو متر مربع واحد لإسرائيل بعدما انسحبت الأخيرة من كامل سيناء كما نصت اتفاقية السلام بين البلدين.
وخلال مرحلة المفاوضات التي سبقت التحكيم، كانت إسرائيل تعول على قصر النفس المصري الذي سيدفع الرئيس مبارك إلى القبول بحل وسط يرضيها وينهي الأزمة. لذا كان طول النفس المصري الاستثنائي والإصرار على عدم القبول بحلول وسط أمرًا مفاجئًا لصناع القرار في تل أبيب، دفعهم إلى القبول بالتحكيم بعد 4 سنوات من المفاوضات العقيمة.
وحتى عندما قبلت إسرائيل بالتحكيم، كانت تعتقد أن المصريين سيرتكبون خطأ ما خلال أحد مراحل التحكيم، يسمح لإسرائيل بإفساد القضية وعرقلة هيئة التحكيم من الوصول إلى حكم لمصلحة مصر، وبالتالي إجبار القاهرة على العودة إلى مائدة المفاوضات والقبول بحل وسط. وقد صرح بهذا المعنى رئيس الوفد الإسرائيلي لنائب المستشار القانوني الأمريكي في القضية، إذ قال له إن لديهم أسلحة سرية أهمها أن المصريين سيخطئون، واستخدم الاصطلاح الأمريكي «the Egyptians will surely shoot their own feet». لكن أمل إسرائيل خاب، وأدار المصريون المعركة بشكل احترافي، وكللت جهودهم بالنصر.
أشخاص غير متوقعين شاركوا في معركة طابا
كان هناك أشخاص غير متوقعين شاركوا بفاعلية في معركة استعادة طابا، منهم على سبيل المثال إسماعيل شيرين، وزير الحربية الأسبق في عهد الملك فاروق وزوج الإمبراطورة السابقة فوزية شقيقة الملك. فبحسب الدكتور نبيل العربي، فإن إسماعيل اتصل به مع بدء تداول قضية طابا وتطوع ليدلي بشهادته باعتباره قد زار منطقة طابا عندما كان يعمل بوزارة الحربية مسؤولًا عن أعمال لجنة الهدنة المشتركة (خلال حرب 1948)، وكان لشهادته أهمية كبيرة باعتباره شاهد عيان على أن منطقة طابا كانت تحت السيادة المصرية.
من بين الأشخاص غير المتوقعين الذين كان لشهادتهم دور هام في حسم تبعية طابا لمصر، 3 ضباط من يوغوسلافيا. اكتشفت وزارة الخارجية خلال استعدادها للتحكيم، أن القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي تواجدت في سيناء منذ العام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، كان لها وجود في منطقة طابا، وبالتعمق في البحث تبين أن المنطقة كانت في دائرة اختصاص قوات من الدانمارك ويوغوسلافيا.
تواصلت الخارجية المصرية مع الدانمارك لطلب التعاون لكنها لم تتجاوب، في حين تجاوبت حكومة يوغوسلافيا ورتبت لقاءات للدبلوماسيين المصريين مع قادة جنودها الذين شاركوا في القوات الدولية. تم اختيار 3 ضباط يوغوسلاف لتقديم شهادتهم أمام هيئة التحكيم، وكان لشهادتهم تأثير واضح على الهيئة، بعدما أكدوا أن مهمة كتيبتهم لمدة 10 سنوات كانت القيام بدوريات في المنطقة التي تدعي إسرائيل أنها خارج الحدود المصرية، وأن خرائطهم تؤكد أن خط الحدود يمر عبر الهضبة وليس في وادي طابا كما تزعم إسرائيل.
من بين أيضًا من لعبوا دورًا هامًا في هزيمة إسرائيل، السير «ديريك باوت» أستاذ القانون الدولي بجامعة كامبريدج، الذي وكلته مصر للترافع عنها أمام هيئة التحكيم. ورغم أن عمل السير باوت كان مدفوع الأجر، إلا أنه أداه بكفاءة عالية وتفان وإخلاص دفعت الدكتور نبيل العربي إلى وصفه بأنه «الخبير الأول على مستوى العالم في التحكيم الدولي».
تولى باوت استجواب الشهود الإسرائيليين وتمحيص إجاباتهم، وإعداد الشهود المصريين، وإعداد المذكرات التي قدمت إلى هيئة التحكيم، وكان المخطط الرئيسي لآليات المرافعات، وبذلك لعب دورًا رئيسيًا في إعادة طابا إلى مصر، بحسب شهادة العربي في كتابه.