أحلام فترة النقاهة: الطريق الملكي لـ لا شعور نجيب محفوظ
أسس فرويد مبادئ التحليل النفسي للأحلام في بدايات حياته العلمية في أوائل القرن العشرين، وفي نهاية حياته بعد أكثر من ثلاثين عامًا كتب في مذكراته أنه يرى نفسه محظوظًا بقدرته على حل لغز الأحلام الذي شغل الكثير على مر العصور سواء في الأديان أو الفلاسفة. تحتوي نظرية فرويد على العديد من الجوانب التي أثارت وما زالت تثير الجدل في الأوساط العلمية، إلا أن نظريته في تفسير الأحلام وعلاقتها بجانب الصحة النفسية للفرد تعد حتى الآن حقلاً واسعًا جدًا يهتم به الأطباء والمعالجون على حد سواء. في نفس السياق لا يمكن إنكار اهتمام فرويد الشديد بالأدب بشكل خاص والفن بشكل عام، بداية من تسمية العقدة الأشهر في التحليل النفسي -عقدة أوديب- تيمنًا بأسطورة أوديب الشهيرة، وصولاً لتأسيس منهج نقدي فيما بعد يسمى «نقد التحليل النفسي»، واليوم نأخذ جولة في آخر أعمال الأديب الراحل نجيب محفوظ؛ أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة، مرتدين نظارة التحليل النفسي للأحلام.
هل يمكننا قراءة أحلام محفوظ بطريقة فرويد؟
الإجابة بالتأكيد «لأ»، طالما أن نجيب محفوظ غير موجود شخصيًا ليخضع لجلسة بل جلسات من التحليل النفسي ويتم تطبيق تكنيكات تحليل الأحلام كاملة من تداعٍ حر وتحليل الرموز في سياقها فلا يمكن تطبيق نظرية تحليل الأحلام الخاصة بـ فرويد على أحلام محفوظ. مع ذلك، لا يمكن تجاهل قانون آخر مهم في التحليل النفسي وهو «الحتمية النفسية». وفقًا لمعجم علم النفس التحليل النفسي تعرف الحتمية بالشكل التالي:
وعليه فإن أحلام محفوظ، حتى وإن كان من المستحيل تطبيق تكنيك التحليل النفسي للأحلام عليها، فإنها بالتأكيد -وفقًا لقانون الحتمية النفسية- لها دلالات كثيرة، فهي عبارة عن شفرات يمكن حلها من خلال سياقها، سيرة محفوظ الذاتية وحتى من خلال أعماله الأدبية وأبطاله. تلك هي نفسها الطريقة التي استخدمها فرويد ذاته في تحليل أعمال الرسام والنحات ليوناردو دا فينشي في كتابه الشهير «دافنشي» الذي استخدم به أعمال دافنشي وما تحتويه من رموز بالإضافة إلى سيرته الذاتية ليتوصل إلى تحليل نفسي لشخصية دا فينشي التي أثرت بشكل أو بآخر في أعماله الفنية التي تعد ثورة فنية في عصره.
في العادة، وفي تحليل الأحلام يقوم المحلل بالانطلاق من آخر نقطة يتذكرها المريض في حلمه، ليبدأ منها عملية التداعي الحر حول الحلم وأحداثه والرموز الذي يحملها وما تعبر عنها تلك الرموز. أما عن التحليل في هذا المقال سنقوم بالانطلاق من الأنماط المتشابهة في أحلام محفوظ الأخيرة التي تضم ثلاثمائة حلم تقريبًا نعرضها فيما يلي.
كم كان محفوظ رومانسيًا في عالمه الخاص؟
كان محفوظ محبًا رومانسيًا معذابًا في أحلامه للغاية، تكرار ذكر سيدتين أحبهما في شبابه وهما «الآنسة ب» و «معبودتي ع»، فمن ضمن 297 حلمًا في فترة النقاهة هناك أكثر من 30 حلمًا يجمع محفوظ بالسيدتين السابق ذكرهما. كما يبدو أن حبه للآنسة ب لم تسر به الأمور على ما يرام، افترقا وانتهى الأمر بزواجها مما أثر في الشاب نجيب للغاية ليمتد هذا الأثر حتى نهايات عمره ليظهر في أحلامه. ففي اثني عشر حلمًا تقريبًا ذكر الآنسة ب، تدور أغلب الأحلام حول رؤيته لها بعد مرور الوقت مع زوجها ما يصاحب ذلك من ألم ومرارة في نفسه، كذلك هناك نمط متكرر في الأحلام المتعلقة بالآنسة ب هو ما يمكن تسميته بـ «عقدة الفقد» حيث يرى محفوظ نفسه يفقدها مرارًا وتكرارًا في مواقف مختلفة.
مبدأ إجبار التكرار هو من المبادئ الأساسية في التحليل النفسي، حسب هذا المبدأ فإن المصابين بعقد نفسية تجاه أمر ما بالأخص المصابون باضطراب كرب ما بعد الصدمة يجبرهم عقلهم على إعادة الذكريات السلبية سواء في الأحلام أو كذكرى في محاولة من المخ في السيطرة على الألم من خلال التحكم فيه ومنع حدوثه بالإضافة لتقليل الشحنة النفسية المرتبطة به. ويمكن اعتبار تكرار نمط فقد الآنسة ب في أحلام محفوظ هو نوع إجبار التكرار، وكأنها محاولة من اللا شعور لإنتاج الخبرة مرة أخرى لعل وعسى تتغير النتيجة هذه المرة وتنتهي الحكاية بشكل سعيد ويجتمع شمل الحبيبين ولكنه وفي كل مرة تقريبًا تنتهي المغامرة بنفس النتيجة الحادثة في الواقع.
يبدو أن محفوظ في جزء ما دفين داخله كان يشعر بالذنب تجاه مشاعره نحو الآنسة «ب»، فكذلك في الحلم 259 كان يتنزه محفوظ مع الآنسة ب في حدائق القبة وهي امرأة متزوجة ورآهم صديق زوجها القاضي فحاولوا الهروب منه للإسكندرية وبمجرد وصولهم لمحطة القطار وجدوا القاضي ينتظرهم على الرصيف. قد يكون القاضي في هذا الحلم هو رمز لضمير محفوظ نفسه، لأنه يعلم بالطبع أن التنزه مع سيدة متزوجة أمر مرفوض أخلاقيًا، دينيًا ومجتمعيًا بالتالي عن طريق عمليات التكثيف والإزاحة ظهر ضميره في شكل قاضٍ ليمنعه عما يفعله، وهو بالفعل ما حدث في نهاية الحلم.
من هي معبودتي ع؟
كانت حياة محفوظ الشخصية طوال سنوات إبداعه الأولى مخفية عن وسائل الإعلام، حتى أن خبر زواجه ظل طي الكتمان لمدة عشر سنوات تقريبًا، وحتى بعد تسرب الخبر للإعلام ظلت علاقته بزوجته والمعلومات الأساسية عنها وعن ابنتيه محجوبة عن وسائل الإعلام، إذ كان يرفض الحديث عنهم. ولكن من أحاديثه القليلة عن زوجته تتبلور شكل علاقتهما معًا؛ فرق كبير في السن بينهما، زواج غير مبني على الحب بل القبول، زوجة وأم مثالية تهيئ له الظروف المثالية للإبداع، فالسيدة عطية الله إبراهيم زوجته هي -كما وصفها- «عطية الله له». وفي أحلام محفوظ الأخيرة يتكرر ظهور السيدة ع حبيبته، أو كما يحب وصفها «معبودتي ع» فمن هي السيدة ع حقًا؟ هل هي نفسها السيدة عطية الله أم هو مجرد تشابه للحروف الأولى؟ بناءً على مواضيع وسياق أغلب الأحلام فلا يمكن أن تكون السيدة ع هي نفسها السيدة عطية، ويرجع ذلك لتكرار نمط الفقد الظاهر في أحلامه المتعلقة بالحبيبة ب، بالإضافة لتكرار أحلام التمني التي تعتبر بمثابة تحقيق رغبة؛ ألا وهي الحصول على المعبودة ع.
الرغبة في الحصول على كل شيء قد تفقدك كل شيء
تتعدد الموضوعات التي تتمحور حولها أحلام محفوظ الأخيرة؛ السياسة، الحب، الحياة الاجتماعية والأسرة، ويعتبر الحلم السابق ذكره هو الحلم الوحيد الذي يجتمع به ثلاثة مواضيع، بالأخص هؤلاء المواضيع. قصة حبه للآنسة، معبودته ع، وأخيرًا أسرته وبالأخص والدته التي تكرر ظهورها في أكثر من حلم.
يوضح الحلم رغبة محفوظ في الحصول على كل الأشياء، الحب لشخصين مختلفين بالإضافة لعلاقته الأسرية القوية بأمه وأخواته. بالرجوع لسيرة محفوظ نفسها نجد سببًا من ضمن أسباب إخفائه لخبر زواجه هو والدته نفسها التي كانت ترغب في تزويجه لسيدة ميسورة الحال قريبة لهم، ثار محفوظ على الأمر الذي اعتبره طعنة في كرامته وذكورته كذلك، ليقوم بالزواج سرًا حتى يثبت لنفسه أنه سيد قراره. قد يكون الحلم هو نوع من تحقيق رغبة محفوظ بالحصول على كل شيء من حب وحياة أسرية وعائلية مستقرة.
يلاحظ كذلك تعاقب مثير للاهتمام في أحلام محفوظ الأخيرة، قد يكون ذلك التعاقب ذا دلالة شديدة الأهمية إن كان ترتيب الأحلام في النسخة الصادرة عن دار الشروق عام 2015 هو الترتيب الذي حلم بهم ونقلهم بعد تلقيحهم لحافظ أحلامه الأمين الحاج صبري. تلحق الأحلام المتعلقة بالأسرة وبالأخص الأم الأحلام المتعلقة بحياة محفوظ العاطفية، بالأخص علاقته بالآنسة ب. وعن أحلام محفوظ المتعلقة بالأم منفصلة ففي الأغلب تتمحور في ثلاثة مواضيع؛ أما عن الموضوع الأول ما يمكن وصفه مجازًا برواسب العقدة الأوديبية بين الأم وابنها، فنجد أحلامًا تعبر عن الغيرة من زواج الابن، منع الزواج في آخر لحظة أو حتى أحلام رمزية مثل حلم 326 الذي وقفت الأم فيه حائلاً بين محفوظ والجنس. أما عن الموضوع الثاني فهو المنافسة بين الأخوات وبالأخص الذكور على الحصول على حب الأم والاهتمام منها.
وأخيرًا الموضوع الثالث هو العلاقة المضطربة بين نجيب ووالده والتي في الأغلب تكون بسبب مشكلة مع والدته أو تفضيل أحد إخوته عليه، تكرار هذا النمط من الأحلام لأكثر من مرة، بالإضافة لغياب أحلام يظهر به الحب والمودة بين الأب ونجيب يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة، هل نمط فقدان الأب أو غيابه سواء فعليًا أو تربويًا المتكرر في أعمال محفوظ الأدبية هو انعكاس بشكل أو بآخر لعلاقة مضطربة فعلية بين الابن نجيب والأب محفوظ؟ أم هي رواسب طبيعية من المثلث الأوديبي لم تحل من طفولة نجيب كحال معظم البشر؟