الاعتراف بميلاد السيد المسيح دليل من أدلة الوحدانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
فقد خلق الله تعالى آدم وذريته على الفطرة السوية والتوحيد، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مولود يولد فإنه يولد على فطرة الإسلام كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه». [البخاري كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين حديث: 1330، ومسلم كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار حديث: 4909]
وإن الشيطان لما أهبط من الجنة قال كما قص القرآن: «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» [الحجر 39]، فلم يزل الشيطان ببني آدم يغويهم ويضلهم حتى كان الشرك بالله في الأرض، كما جاء في الحديث القدسي عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم في خطبته: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، (أي مسلمين) وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، (أي حولتهم إلى الشرك إلا قليلًا منهم) وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا». [مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار حديث: 5217]
لذا أرسل الله تعالى الرسل ليعلموا الناس الدين، ويرجعوهم إلى التوحيد حتى لا يكون للناس حجة، كما قال تعالى: «رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». [النساء 165] «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)». [الأنعام]
ومجموع الأنبياء والمرسلين المذكورون في القرآن 25، ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات ثمانية عشر رسولًا وبقي سبعة ذكروا في سورٍ أخرى، وهم: إدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وآدم، وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، وقد نظمهم البعض في ثلاثة أبيات من الشعر، ذكرها الشّيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على «جوهرة التَّوحيد»:
والرسل المجمع على أنهم رسل خمسة عشر، وهم: نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، هود، صالح، شعيب، موسى، هارون، عيسى، يونس، محمد صلى الله عليه وسلم، والباقون ممن ذكروا في الآية اتفق علماؤنا على كونهم أنبياء، وفي كون بعضهم رسلًا خلاف.
ولم تزل سفينة الرسل تمضي من سيدنا آدم إلى سيدنا عيسى ثم سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، فمن هو سيدنا عيسى عليه منا الصلاة والسلام؟
سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، ولد في بيت لحم على الأرجح، قريبًا من بيت المقدس. واسمه كما في القرآن الكريم عيسى ابن مريم، وهو اسم أعجمي، أما في الأناجيل الموجودة اليوم، فاسمه فيها يسوع «بالسين المهملة» وأصلها بالعبرية يشوع بالشين المعجمة، ومعناه: المخلص.
أما عن نسبه وخَلْقِه وولادته فقد ذكر الله في القرآن أنه ابن مريم الصديقة العذراء البتول، ابنة عمران عليهم السلام، كان والدها «عمران» عالمًا جليلًا من علماء بني إسرائيل وكانت زوجته «حنّه» أم مريم، لا تحمل ولم تلد، فرأت في حديقة منزلها طائرًا يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولدًا، فنذرت إن حملت، أن تجعل ولدها خالصًا محررًا لله تعالى لخدمة بيت المقدس، يعبده ويخدم بيته، فاستجاب الله تعالى دعاءها فحملت، لكنها حملت بمريم عليها السلام، ولم تكن النساء تخدم في بيت المقدس آنذاك فحزنت لذلك، ولكنها أوفت بنذرها، وجعلت ابنتها مريم لخدمة المسجد، وطلبت من الله تعالى أن يتقبل منها، وأن يعيذ ابنتها من الشيطان الرجيم، وفي ذلك قال تعالى:
وبعد ولادتها بأيام قليلة توفي العابد الصالح عمران والد مريم، وابنته عندئذ صبيّة صغيرة خديجة تحتاج إلى من يكفلها، فخرجت أمها إلى المسجد فسلمتها إلى العُبّاد المقيمين فيه، وفاء بنذرها، ولما كانت مريم الخديجة ابنة إمامهم ورئيسهم، تنازعوا واختلفوا فيمن يقوم بكفالتها، فاقترعوا لذلك.
ومع أن سيدنا زكريا عليه السلام، كان نبّي ذلك الزمان وكان أقربهم إليها؛ فهو زوج أختها وقيل زوج خالتها، ولكنه قطعًا للخلاف والنزاع وافق على الاقتراع معهم على كفالتها، وكانت القرعة أن يلقوا أقلامهم في اليم، وكانت تلك الأقلام تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم، فوقف قلم زكريا عليه السلام، وغاصت أقلامهم ففاز بكفالتها بإذن الله تعالى، وفي ذلك قال تعالى: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَأمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)». [آل عمران: 44]
ونشأت مريم في كفالة نبيّ الله زكريا، ولما كبرت وشبت اتخذت لها في المسجد مكانًا لا يدخله سواها، فكانت تعبد الله تعالى فيه، وتقوم بخدمة البيت حتى ضرب بها المثل في الاجتهاد في العبادة، وطاعة الله تعالى، وفي ذلك قال ربنا: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)». [مريم]
وقال تعالى بشأن عبادتها: «وإذ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)». [آل عمران]
فقد اصطفاها الله اصطفاءين، الأول اختيار لعبادته وحسن طاعته، مع تطهيرها من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى، والاصطفاء الثاني «عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» من أهل زمانها، أي فضلك على نساء العالمين بما أهلها له من كرامة ولادة عيسى من غير أب.
وظهرت أمور وكرامات ربانية تدل على حسن عبادتها، وصدقها مع الله تعالى، حتى إن نبي الله زكريا تعجب لحالها، وبما أكرمها الله تعالى، إذ كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وفي ذلك قال تعالى: «وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)». [آل عمران]
هذا وقد ذكرها الله تعالى باسمها في القرآن تشريفا لها، وتكريما لشأنها، وشأن مولودها، ولم يذكر الله تعالى في كتابه امرأة باسمها غيرها، بل أكثر من ذكرها حينًا بالضمير وحينًا صريحا، وقد صرح الله تعالى باسمها في 31 موضعًا في القرآن الكريم، منها عشرة مواضع دون ذكر سيدنا عيسى عليه السلام، كقوله تعالى: «وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». [آل عمران: 36]
وباقي المواضع بذكره معها، بيد أنه ذكر صريحًا في 19 مرة، مثل: «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ». [البقرة: 87]، وفي مرتين أخريين يذكر بوصف البنوة دون اسمه مع ذكر اسم مريم صريحا عليهما السلام، كما قال تعالى: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ». [المؤمنون: 50]
بل من عظيم التكريم البالغ في القرآن الكريم نجد الله تعالى يسمي سورة كاملة باسمها، وهي سورة مريم، ويسمي سورة من أطول سور القرآن الكريم باسم أبيها وآله، وهي سورة آل عمران.
كانت هذه المكانة، وهذه الكرامات، وهذه السيرة الحسنة للسيدة العذراء مريم عليها السلام إرهاصًا وإيذانًا بحمل سيكون على غير العادة، وبينما هي ذات يوم في عبادتها إذ فاجأها أمين الوحي سيدنا جبريل رسولًا من ربها، جاءها في صورة حسنة بهية جميلة، في هيئة رجل حسن الصورة، ففزعت منه إذ كيف دخل عليها وهي في خلوتها مع الله تعالى، وخافت أن يعرض لها بسوء، وبادرت بالتعوّذ منه كما قال تعالى: «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَت إنّي أَعُوذُ بِالرَحْمنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا». [سورة مريم]
وكان مجيء سيدنا جبريل عليه السلام في هذه الصورة الحسنة البهية ابتلاء آخر، إذ شأن الشاب أن يميل إلى الفتاة الحسناء، وشأن الشابة في هذه السن يميل إلى الرجل الحسن والشاب الحسن، لكنها مع ذلك سارعت للتعوذ منه إن كان يريد سوءًا، وفي هذا دلالة صادقة على عفافها، وورعها وهي في ريعان شبابها، ولم تخضع له بالقول، كما هو حال أغلب من في مثل هذا العمر، وفي ذلك يقول تعالى:
وقال تعالى: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47)». [سورة آل عمران]
يقول ابن كثير: فلما أراد الله تعالى – وله الحكمة والحجة البالغة – أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، «انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا». أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
قال السدي: «لحيض أصابها. وقيل لغير ذلك».
وقوله: «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا» أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي: على صورة إنسان تام كامل.
قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله: «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا»، يعني: جبريل، عليه السلام. [تفسير ابن كثير: سورة مريم بتصرف]
«فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)». [سورة مريم]
يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال، استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك – وهو جبريل عليه السلام- عند ذلك نفخ في جيب درعها، «فتحة ثوبها عند الرقبة»، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت به ضاقت ذرعًا به ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا عليه السلام.
وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضًا أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلًا لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم بسنده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعًا معًا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. [تفسير ابن كثير: سورة مريم، بتصرف]
أما حملها فكان حملًا طبيعيًا يتخلق كما يتخلق الجنين في بطن أمه، فكان كما قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَأمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)». [سورة المؤمنون]
وكان حملها يمر بأطوار الخلق العام كما في الحديث الصحيح: عن عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:
[البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة حديث: 3051، ومسلم كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله حديث: 4887]
وفي الحديث أيضًا عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا، يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق والأجل، فيكتب في بطن أمه». [البخاري كتاب الحيض باب قول الله عز وجل: مخلقة وغير مخلقة حديث: 314، ومسلم كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله حديث: 4891]
وحول هذه المعاني يقول ابن كثير: المشهور الظاهر – والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليَّ.
قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم – فهمت ما أشار إليه- أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر، وهل خلق يكون من غير أب؟ فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلَّم لها حالها.
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي: قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها. [تفسير ابن كثير: سورة مريم بتصرف]
وقال ابن كثير أيضًا: قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون، حتى فَطَرَ لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: «إنما صاحبها يوسف»، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابًا، فلا يراها أحد ولا تراه. [تفسير ابن كثير: سورة مريم بتصرف]
ولما تم حملها تسعة أشهر، كان الوضع، وكانت ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، لكن كيف كان ذلك؟ وماذا ترتب عليه؟ هذا ما سيكون الكلام عليه – إن شاء الله تعالى – في السطور القادمة.