لهذه الأسباب ألعاب الفيديو بريئة من تهمة دعم الإرهاب
أعادت حادثة مسجدي نيوزيلندا إلى الساحة أحاديث علمية ونفسية حول التأثير السلبي لألعاب الفيديو والألعاب الإلكترونية العنيفة؛ نظرًا لتشابه طريقة القتل مع محتوى هذه الألعاب. وبعد أن أثبتت التحقيقات مع الإرهابي المنفذ أن الأمر لا علاقة له بالألعاب، فإننا يمكن أن نستغل الحادثة لمحاولة الإجابة عن هذا التساؤل: هل ألعاب الفيديو متهمة بالفعل؟
هل ألعاب الفيديو مضرّة حقًا؟
يصف بعض الباحثين العلاقة بين ألعاب الفيديو والسلوك العدواني بالعلاقة بين التدخين والسرطان، فالعنف في الألعاب لا يؤدي بالضرورة إلى العنف في الحياة، مثلما لا يُصاب كل المدخنين بالسرطان.
وفي دراسة عن تأثير ألعاب الفيديو العنيفة استجاب المشاركون للكلمات السلبية العدوانية والكلمات الإيجابية كذلك، وهذا يدل على أن الألعاب العنيفة لا تقتصر على الأفكار العدوانية، كما أن الأضرار لا تظهر ولا تخيف إلا إذا وصل الشخص إلى مرحلة إدمان هذه الألعاب، أما الاستخدام المعتدل فهو آمن، لذا فإن الألعاب ليست مضرة، ولكن إدمان الألعاب هو المضر، وفي عالمنا المتطور يمكن أن تكون ممارسة ألعاب الفيديو أكثر أمانًا من المخدرات والكحول والقرصنة والجرائم الإلكترونية.
وقد أُجريت سلسلة تجارب؛ لمعرفة هل هناك دائمًا نتائج سلبية لألعاب الفيديو؟ وهل ممارسة الألعاب ذات المحتوى الإيجابي تعزز السلوك الاجتماعي؟ وأظهرت التجارب أن لاعبي ألعاب الفيديو الاجتماعية كانوا أقل غضبًا وأكثر هدوءًا وأكثر مشاركة في السلوك الاجتماعي، وامتدت سلوكياتهم إلى واقع الحياة، فقد سارع اللاعبون -أثناء التجربة– إلى إنقاذ فتاة من حالة تحرش جنسي، وهذا يشير إلى إمكانية الحد من السلوك العدواني وتغيير الحالة المزاجية استنادًا إلى ألعاب الفيديو المختارة.
و يرى بيتر جراي، أستاذ علم النفس التربوي أن البحث عن تأثيرات ألعاب الفيديو يوضح أن الدماغ أكثر قابلية للتشكيل، على عكس الاعتقاد السائد بأن اللبنات الأساسية للذكاء تُحددها الجينات، إذ يبدو أن الألعاب تبني مكونات الذكاء بشكل أسرع وأكفأ من أي تدخل آخر.
وفي حين ربط بعض علماء النفس بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة وانتشار العنف والقتل، فإن أستاذ علم النفس كريستوفر فيرجسون،أشار إلى عدم وجود دليل دامغ يثبت هذا الارتباط، كما أن الأبحاث فشلت في الوصول إلى توافق في الآراء على وجود هذا الارتباط، في ظل كثرة الأدلة على أن ألعاب الفيديو تؤثر على أدمغتنا وسلوكياتنا، وتغيّر أداء أدمغتنا وهيكلها؛ لأن الدماغ يكون أكثر كفاءة أثناء الألعاب، خاصة الأجزاء المسئولة عن المهارات البصرية، كما أن ممارسة ألعاب إطلاق النار تمكن اللاعبين من الحكم بشكل فعال على المعلومات التي يجب تخزينها في ذاكرتهم، والتي يمكن إهمالها وفقًا للمهمة المطلوبة.
وقد ذهب فيرجسون إلى أن ألعاب الفيديو العنيفة قد تساعد في تقليل العنف المجتمعي لا زيادته، وذلك من خلال إبقاء الشباب مشغولين بأشياء يحبونها تبعدهم عن الشوارع وإثارة المشكلات، وأضاف أن الدراسات الحديثة فشلت –عادة- في العثور على الكثير من الأدلة على وجود صلة بين ألعاب العنف والأعمال العدوانية البسيطة، ناهيك عن العنف المجتمعي، وأشار إلى أن جميع الشباب تقريبًا يلعبون ألعاب فيديو عنيفة، ومع ذلك فإن الغالبية لا يرتكبون جرائم.
ويدعم رأي فيرجسون دراسة اقتصادية تتبعت الجرائم الجنائية العنيفة في الأسابيع التي تلت إطلاق ألعاب الفيديو الشهيرة من عام 2005 إلى عام 2011، وذلك بتتبع معدلات المبيعات والجريمة، واكتشفت الدراسة أن العنف المجتمعي انخفض في الأسابيع التي تلت ظهور طبعة جديدة من الألعاب، ورجّحت الدراسة سبب ذلك بأن الألعاب تسمح للاعبيها بالإفراج عن عدوانهم بأمان.
وبشكل عام،لا توجد دراسات تشير إلى أن اللعب المعتدل له آثار ضارة، كما أن التأثيرات الضارة عند حدوثها تكون مؤقتة، وتنتهي بتقليل ممارسة الألعاب.
لماذا يترسخ في أذهاننا أنها مضرة؟
قدّم بيتر جراي الأدلة التي تعارض المخاوف الشائعة حول ألعاب الفيديو بأنها تسبب العزلة والعنف، وتعجّب من مواصلة الاستهانة بالألعاب على الرغم من ثقل الأدلة البحثية التي تؤكد أهميتها، مشيرًا إلى كتاب «Moral Combat: Why the War on Violent Video Games Is Wrong»، لباتريك ماركي وكريستوفر فيرجسون، والذي يصف طغيان الذعر الأخلاقي عندما يطور الشباب اهتمامات لا يفهمها المجتمع، هذا الذعر هو ما يدفع وسائل الإعلام والأفراد إلى المبالغة في السلبيات، والتحيز في النتائج، وتجاهل أي شيء إيجابي؛ لفرض معتقدات معينة على المجتمع، ويتم دعم وتمويل البحوث التي تدعم هذه المعتقدات، لتكون النتيجة ادعاءات تصف الأمر بـ«الهيروين الرقمي».
ووجد كريستوفر فيرجسون أن تحيز النشر أسهم بقوة في تحيز النتائج المنشورة حول ألعاب الفيديو، كما أن العديد من الدراسات استخدمت مقاييس عدائية، وأشار إلى أنه من السهل الاستدلال على أن ألعاب الفيديو العنيفة تسبب سلوكًا عدوانيًا في ظل إقبال المراهقين عليها، لكن هذا لا يعد دليلًا في حد ذاته.
هذا إلى جانب أن الدراسات التي تبرز سلبيات الألعاب تتغافل عن عوامل أخرى متغيرة، كالبيئة المنزلية العنيفة، وتتعمد هذه الدراسات تحيّز الاقتباس، وتحيّز المنشورات، وعدم مراجعة الآراء المخالفة، وتتجاهل تقارير تشير – مثلًا- إلى أن مستوى نوبات الصرع عند الذين يعانون من الصرع يكون ثابتًا أثناء لعب ألعاب الفيديو، أو تتجاهل أن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال دعت إلى إعادة النظر في توصياتها بتقليل وقت الشاشات، في ظل تزايد استخدام الشاشات لتلبية الاحتياجات اليومية.
هل نيوزيلندا بيئة خصبة لجرائم الألعاب؟
لا تعد نيوزيلندا بيئة خصبة للجرائم الإلكترونية التي يكون دافعها التأثر بالألعاب العنيفة، وربما لم تدفع الألعاب النيوزيلنديين إلى الجريمة إلا في جريمة سرقة سيارات عام 2007، أقر فيها الفاعل ذو العشرين عامًا بأنه تأثر بلعبة Grand Theft Auto، لكن التحقيقات بالحادث أشارت إلى أن ممارسة اللعبة لا تعد عذرًا للسرقة، وأكد أحد أساتذة القانون بالبلاد أن اتهام لعبة فيديو بالتسبب في إحداث نشاط إجرامي لا يعد دفاعًا قانونيًا، وعلّق قائلًا:
كذلك لم يُشِر تقرير الجريمة والسلامة النيوزيلندية لعام 2017 إلى تسبب الألعاب في أي نوع من الجرائم، في ظل تأثر النيوزيلنديين بالجريمة الإلكترونية، بإجمالي يصل إلى مليون شخص، يمثلون ما يقرب من ربع عدد السكان، بخسارة مادية أكثر من 177 مليون دولار، وذلك وفقًا للنتائج التي توصلت إليها شركة Symantec لأمن المعلومات، في تقريرها عام 2017، والذي لم يذكر أن التأثر بالألعاب كان من دوافع هذه الجرائم، أو جرائم أخرى من إجمالي 1.77 مليون جريمة، تعرّض لها 29% من النيوزيلنديين خلال 2017، وفقًا لمسح أجرته وزارة العدل النيوزيلندية.
يُضاف إلى ذلك أن الشرطة النيوزيلندية لم تضع جرائم الألعاب ضمن قائمة الجرائم الإلكترونية التي يمكن للمواطنين أن يتعرضوا لها بالبلاد، في حين تتضمن القائمة: توزيع الفيروسات الإلكترونية، وشن هجوم على أنظمة الكمبيوتر، والاحتيال والمضايقات، وانتهاكات حقوق الطبع والنشر، وسرقة الهوية على الإنترنت، وصنع أو امتلاك أو توزيع مواد مرفوضة، مثل المواد الإباحية أو البرمجيات الخبيثة.
الألعاب صناعة نيوزيلندا المقبلة
جانب آخر خاص بنيوزيلندا في هذا الأمر، وهو أن ألعاب الفيديو ليست فقط بريئة من القتل بل إنها يمكن أن تكون صناعة نيوزيلندية مهمة؛ فقد أشار تقرير نيوزيلندي عام 2017 إلى أن صناعة ألعاب الفيديو قد تكون بمثابة الصناعة الإبداعية القادمة للبلاد.
وقد ذكر التقرير أن صناعة الأفلام في نيوزيلندا حققت إيرادات تزيد على 3 مليارات دولار عام 2016، مشيرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من نجاح صناعة السينما النيوزيلندية يعود إلى الدعم المالي الرسمي، والحوافز المقدمة من الحكومة؛ حيث تلقّت شركات الصناعة 190 مليون دولار من التمويل الحكومي في عام 2016.
ومع هذه الإيرادات فقد طرح التقرير تساؤلًا حول الصناعة الإبداعية الأخرى التي يمكن أن تنجح بالقدر نفسه بالنسبة لنيوزيلندا، إذا توفر لها الدعم المماثل، وأشار التقرير إلى أنه بالنظر إلى اتجاهات النمو في الصناعات الإبداعية، فإن صناعة ألعاب الفيديو تعد من أقوى المرشحين، في ظل أن إيراداتها عالميًا بلغت 91 مليار دولار أمريكي عام 2016، مما يجعلها أكثر ربحية من صناعات الموسيقى والأفلام.
ووفقًا للتقرير فإنه لا يزال نصيب صناعة الألعاب النيوزيلندية صغيرًا في هذا السوق العالمي، ولكنه ينمو بشكل ملحوظ، حيث بلغت إيراداتها 100 مليون دولار عام 2016، وتصل التوقعات إلى مليار دولار بحلول عام 2026، وفقًا لتقديرات رابطة مطوري الألعاب النيوزيلندية (NZGDA).
وفي هذا الإطار، أنشأت لجنة الأفلام النيوزيلندية صندوق تطوير تفاعلي يقدم مساعدات مالية لتطوير قصص ألعاب الفيديو، فضلًا عن دعم برلماني باعتبارها صناعة تصديرية إبداعية ذات أجور عالية.
وفي هذا الصدد يمكن أن تقوم الحكومة النيوزيلندية بدعم أحد أستوديوهات الألعاب المحلية لديها؛ لابتكار لعبة فيديو يسعى فيها اللاعب إلى منع حدوث جرائم إرهابية بأماكن مختلفة من البلاد، مما يمكن أن يعد استغلالًا جيدًا للحادث، يدعم الممارسات الإنسانية التي قامت بها الحكومة النيوزيلندية بعد الحادث الإرهابي.
نهايةً، قد يكون الاتهام جزءًا من صورة نمطية انتشرت حول علاقة الألعاب بالعنف والقتل، وقد يكون إلهاءً عن الحادث في ظل أن مرتكبه من الجنس الأبيض، لكن المؤكد أن الألعاب بريئة من دماء مسلمي نيوزيلندا، وربما لا يستقي الإرهابي عنفه من الألعاب، بل قد تكون الألعاب هي التي تستقي عنفها من الإرهابي.