لهذه الأسباب ظل فيلم «Psycho» مرعبًا حتى اليوم
مر ما يقرب من 60 عاماً على العرض الأول لفيلم «سايكو Psycho»، الفيلم الذي يعتبره كثيرون الفيلم الأشهر للمخرج الإنجليزي ألفريد هيتشكوك.
الأحداث تدور ببساطة عن امرأة جميلة تدعى ماريون، تعمل كسكرتيرة وتسنح أمامها الفرصة لسرقة 40 ألف دولار، ماريون ليست من النوع الذي يميل للسرقة بسهولة، ولكن الضائقة المالية التي يمر بها حبيبها هي ما يدفعها للاستيلاء على هذا المال الذي ربما سيضمن لهم حياة سعيدة.
تهرب ماريون مسرعة من مدينة فينيكس إلى مدينة فيرفال الصغيرة حيث يقيم حبيبها سام. في الطريق تمر ماريون ببعض المفاجآت غير السارة وتحاصرها الأمطار في النهاية فتقرر أن تبيت ليلتها في نزل صغير، هناك تقابل مدير النزل وهو شاب يسمى نورمان بيتس، وفي الليل تنقلب الحكاية رأسًا على عقب.
أحاط هيتشكوك «سايكو» بحملة دعائية جعلت نسب التشويق تصل للسماء قبل مشاهدة الفيلم في دور السينما في عام 1960، «لن يسمح بدخول أي مشاهدين بعد بداية الفيلم، وغير مسموح بالخروج قبل تترات النهاية أيضًا»، هكذا دخل الجمهور في ما يشبه بالتعاقد على عدم إفشاء أسرار ما يشاهدونه، كما شعروا أيضًا بأنهم محتجزون طوال ما يقرب من الساعتين.
ولكن ما الذي جعل من «سايكو» علامةً مميزة في تاريخ هيتشكوك حتى اليوم؟ ولا نبالغ إن قلنا في تاريخ السينما عمومًا. ما الذي يميزه عن غيره من أفلام الرعب التي تفقد قيمتها بمجرد مشاهدتها لمرة واحدة؟ هذا ما نحاول معكم أن نحلل أسبابه اليوم.
في البدء كانت الوحدة
بهذه ا لأبيات يمكننا البدء في تحليل أحد أهم عوامل الرعب النفسي التي قدمها لنا هيتشكوك في «سايكو». يبدأ الفيلم بلقطة بعيدة ثم تصطحبنا الكاميرا شيئاً فشيئاً حتى نصل لنافذة غرفة في أحد فنادق فينيكس حيث تستلقي ماريون التي تؤدي دورها «جانيت لي» برفقة حبيبها سام الذي يقوم بدروه «جون جافن».
الوحدة هي أزمة ماريون وسام الأهم حيث يقيم كل منهما في مدينة مختلفة. يمر سام بأزمة مالية وعلى إثرها لا يستطيع أن يرتبط بماريون في علاقة دائمة وعليه فلا يتقابلان إلا لساعات معدودة في أحد الفنادق الرخيصة من آن لآخر.
الخوف من الوحدة يبدأ كهاجس لدى ماريون، يدفعها في لحظة ضعف للاستيلاء على المال الذي يطلب مديرها أن تودعه في أحد البنوك. يسرد لنا هيتشكوك هذا التحول بالصورة وفقط، ودون أى جمل حوارية، هكذا ليعطينا درساً عن مبدأ «أرني ولا تخبرني».
ماريون وحيدة في غرفتها. المال في أحد الأظرف على سريرها. كادر قريب على وجه ماريون. نظرة متأملة. كادر قريب على الظرف الورقي الذي يبدو غير كاف لحمل هذا القدر من المال. تمتد يد ماريون أخيراً لتحمل المال داخل حقيبتها الشخصية، تجهز حقيبة ملابسها وتذهب وحيدة إلى سيارتها. هكذا ندرك أنها قررت الهرب والاستيلاء على المال.
على الجانب الآخر من الحكاية نورمان بيتس وحيد أيضاً. تسأله ماريون قبل أن تدخل لغرفتها في هذه الليلة حالكة الظلام: «ألا تخرج برفقة أصدقائك؟»، يجيبها نورمان: «أفضل صديق للولد هو أمه». تصبح هذه الجملة مفتاحاً لفهم الاضطراب النفسي الذي دفع نورمان في النهاية لاقتسام عقله بين هويتين، هويته وهوية أمه.
قبيل نهاية الأحداث وفي مشاهد خارج سياق الحكاية يخبرنا هيتشكوك على لسان طبيب نفسي بمركز الشرطة أن نورمان لم يعد موجوداً، لقد تواجد بشكل نصفي من البداية، والآن قد سيطر النصف الآخر، على الأغلب إلى الأبد.
التواءة حبكة هيتشكوك الكبرى في سايكو لم تكن فقط أن نورمان قد تقمص دور أمه أثناء جرائم القتل التي قام بها، ولكن الإلتواءة الأهم هي أنه قد تلاعب بنا وجعلنا نتعاطف مع نورمان في بداية ظهوره، لدرجة أننا كمشاهدين نعتقد يقيناً أن مشكلة هذا الشاب الأهم هي أمه، بمعنى آخر يجعلنا هيتشكوك متفهمين لوحدة نورمان وبما يمكن للوحدة أن تدفعه للقيام به.
الواقع أكثر رعباً من أي خيال
الخوف في سايكو له جذور في عقولنا جميعا كمشاهدين، يغذيه هيتشكوك بكل ما يدعم حالة الإيهام بأن كل ما نشاهده حقيقي، بداية من اللجوء للون الأبيض والأسود لسرد الفيلم، مروراً بالنمط الذي يشبه الأسلوب التسجيلي في بعض المشاهد ومنهم مشهد الطبيب النفسي ومشهد النهاية حيث نرى السيارة وهي تجر من المستنقع القريب من نزل بيتس.
يستخدم هيتشكوك زاوية عين الطائر في مشهد طعن المحقق، فالشر هنا بلا ملامح. ثم ينتقل بمونتاج سريع لنشعر بالطعنة من زاوية الضحية، الذي يرتعد من الخوف وحيداً ثم يسقط. الأمر ما هو إلا تكرار للجريمة الأولى حيث نتابع عشرات الطعنات في مونتاج سريع وحاد وسط صرخات ماريون دون أن نرى ملامح القاتل، فقط ماريون ووحدتها ودماءها وصراخها هو ما نشاهده، ثم عينها الثابتة الوحيدة وجريان الماء والدماء في قاع حوض الاستحمام.
الخوف الذي يتركه سايكو فينا عقب مشاهدته هو سلوك متعلم، يشبه الخوف الذي تركه جون واطسون عالم النفس الأمريكي في عقل الطفل الصغير ألبرت في تجربته الشهيرة، يقرع واطسون جرس مزعج بمجرد إعطائه دمية من الفرو لألبرت، وهكذا يصبح الخوف شعوراً مصاحباً لظهور أي دمية أو حيوان مغطى بالفرو بالنسبة لألبرت.
عقب كل مشاهدة جديدة لسايكو يعيد المشاهدون حساباتهم فيما يخص الخوف من الإقامة في نزل غريب، الخوف من الاستحمام دون ونس في البيت، الخوف من الوحدة في الحياة عموماً.
التلصص وأسطورة البطل الذي لا يموت
إحدى أبز المفاجآت التي صنعها هيتشكوك في سايكو كانت في مقتل الشخصية الرئيسية خلال الفصل الأول من الحكاية، يبدأ الفيلم بمشهد نتلصص فيه على ماريون وهي مستلقية دون معظم ملابسها برفقة حبيبها، نستمر في التلصص عليها طوال مشاهد الفصل الأول من الفيلم.
جانيت هي بطلتنا وحكايتنا تدور حولها، يستمر الأمر حتى يتلصص عليها نورمان من ثقب في حائط النزل، تتلصص الكاميرا من زاوية عين نورمان، نشاهد ماريون بعينيه وهي تخلع ملابسها للذهاب للاستحمام.
هكذا نتوحد مع نورمان كمشاهدين في فعل التلصص، وعندما تحدث جريمة القتل –التي نبدو مشاركين فيها- تتوقف رحلتنا مع ماريون، وتبدأ رحلة جديدة نكون فيها نحن الأبطال، نحاول الكشف عن هوية القاتل الذي شاركناه جزءاً من الجريمة.
المونتاج والموسيقى قبل الكلمات أحياناً
يتذكر الجميع الأداء الأيقوني لأنتوني بيكنز في دور نورمان بيتس. نورمان هنا يبدو هشاً وضعيفاً، فتى وحيد وخجول يسكن برفقة والدته صعبة المراس، يخطو ويقفز وهو يضع يديه في جيب سرواله. هذا شاب يبدو من المستبعد أن يقدر على ارتكاب جرائم قتل مرتبة بعناية. وحينما يبتسم بنظرته المريبة قبل تترات النهاية يبدو فعلاً كمن تتلبسه روح شريرة أخرى.
الأمر ليس روحاً شريرة طبعاً، قد يكون اضطراباً نفسياً سمي قديماً باضطراب تعدد الشخصية Multiple Personality Disorder، وحديثاً باضطراب انفصال الهوية Dissociated Identity Disorder. ولكن الأهم في السرد السينمائي هو كيف سرد لنا هيتشكوك الحكاية، وكيف أقنعنا بهذا التحول.
المونتاج والموسيقى هما اللاعبان الرئيسيان في سايكو موسيقى بيرنارد هيرمان هي من تخبرنا بأن ماريون تفكر في الاستيلاء على الأموال حينما تنظر لها في غرفتها قبيل الفرار من مدينة فينيكس، قطعات المونتاج في مشهد الحمام برفقة موسيقى هيرمان الصاخبة هي ما تصنع الرعب، لحظة الكشف عن هوية الأم تفاجئنا بدوران كرسي وكاميرا تقترب بشكل مفاجئ لنرى كادراً قريباً يحاصرنا برفقة موسيقى هيرمان الصاخبة.
لحظات الرعب هنا إذن تأتي من خلال الأدوات الإخراجية قبيل الأداء التمثيلي، يستغل هيشتكوك الخوف في عقول مشاهديه ويبني عليه، أو كما قال في حواره الطويل مع الناقد والمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو: «لقد كنت أدير المشاهدين إخراجياً في «سايكو»، قبل إدارتي للممثلين».