«انسف حمامك القديم»: 4 أسباب تفسر موت الشركات التقليدية لصالح العمل الحر
بعد جولة بالقاهرة الفاطمية، جلسنا لنحتسي القهوة، وبسبب كثرة الزبائن تأخر إحضارها لمدة لم تتعد ربع الساعة. حكى لي صديقي الخليجي خلالها أنه اختار سيارته الجديدة، وأنهى رخصة قيادته خلال المدة نفسها التي استغرقها تحضير القهوجي لقهوته المفضلة، وفي اليوم نفسه وصلت رخصته إلى باب منزله عبر «درون».
لفت انتباهي أنه يتحدث عن تطور بارز في جهة عمل خاصة (شركة السيارات)، وجهة عمل حكومية (إدارة التراخيص)، وهو ما يشير بالطبع إلى تطور مذهل في الفكر والإدارة يواكب تطور الأعمال والتقنيات، ويؤكد أن الفكر التقليدي لم يعد هو السائد، بل هناك فكر آخر متطور يُنبئ بموت الأعمال التقليدية من ناحية، ومن ناحية أخرى يرتبط بالعمل الحر والمستقل..
كيف ذلك؟
إليك أربعة أسباب تفسر لك.
1- كلمة السر «المرونة»
يؤكد نمو الأعمال الحديثة أن إدارة الأعمال بالطرق التقليدية لم تعد آمنة، وأن المؤسسات التقليدية قد ماتت، وباتت الضرورة ملحة للتفكير بطرق مرنة تحافظ على حيوية الأعمال. ومع زيادة الطلب على الحصول على الخدمات والمنتجات «أونلاين» أصبح العمل التقليدي أمرًا معطلًا للأعمال، ومع تزايد الاعتماد على «السوشيال ميديا» كوسائل دعائية أكثر جذبًا ونفعًا، زاد الأمر دفعًا نحو إدارة جديدة للأعمال، تؤمن بأن نمو الأعمال يأتي من تطور العملاء والتقنيات، وأن الحواجز في مجال الأعمال لا بد أن تسقط، وخرائط التوسع لا يجب أن تتضمن حدودًا جغرافية، فضلًا عن إيمانها بأن تنافسية الأعمال صارت تتوقف على السرعة والكفاءة والمرونة، وتفاعل الشركات وأصحاب الأعمال مع متغيرات السوق باستمرار، ولم تعد خدمة العملاء على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع هي التطور الوحيد، فلقد دخلنا عصور العملات الرقمية، والتوصيل عبر «الدرونز».
وليس من الصعب أن نرصد إجراءات إدارية للشركات تعد دليلًا على تغير فكرها الإداري التقليدي، وذلك عبر تقليل عدد المباني والمقرات الدائمة، والتخلص من إدارات لم تعد ضرورية، بل صارت عبئًا على الأعمال والميزانية، وكذا دمج مساحات مكتبية وأقسام، واستحداث مسميات أقسام أخرى غير تقليدية أو تعيين ذوي المهارات والخبرات وليس ذوي الأقدمية، وزيادة الاعتماد على التقنيات، والتخلص من موظفين وعمال لتقليل النفقات، وتخفيض الرواتب، وتقليل الالتزامات التأمينية والمكتبية، وتشجيع العمل من المنزل، ومهما كان اتفاقنا أو اختلافنا أو تحفظنا على تلك الإجراءات إلا أنها تمثل مؤشرات واضحة على تغير أنماط الإدارة بطريقة تناسب بيئة العمل الحر الذي لا تنمو فيه الأعمال داخل حوائط المكاتب التقليدية.
2- التطور والكفاءة
نظرًا للتطور المستمر في تقنيات الاتصال والبيانات والأجهزة الذكية، تيسرت القدرة على الوصول إلى الملفات والمعلومات، ولم تعد الشركات كيانات مغلقة، بل يمكنها الاستفادة من خدمات مجموعة متنوعة من الأشخاص خارج حدودها المكتبية والإقليمية أيضًا، ولم يعد المديرون مقيدين بإمكانات فرق عملهم بل لديهم إمكانية التعاون مع مجموعة عالمية من المواهب المتاحة، واختيار أفضل الأشخاص للوظيفة، بناءً على معارفهم وخبراتهم وأعمالهم السابقة، ولم تعد الشركات بحاجة إلى مقابلات عمل تقليدية، بل إن منصات العمل الحر -وفي مقدمتها منصة مستقل ومنصة خمسات– صارت توفر مجموعات كبيرة من أصحاب الخبرات والمهارات المتنوعة والمتخصصة، وأعمالهم السابقة الدالة على ذلك؛ لتوفر على الشركات وأصحاب الأعمال عناء البحث وأوقات المقابلات، وكل ذلك يساعد على تطور الكفاءات القائمة بالأعمال المختلفة، ومن ثم يدفع في اتجاه تعيين الأكفأ لا الأقدم.
وقد أثبتت نماذج الأعمال الناجحة أنه لا يمكن إدارة القوى العاملة الحديثة باستخدام أساليب الإدارة التقليدية، وأن الفكر الإداري الذي يستبدل الكفاءة بالتسلسل الهرمي التقليدي للدرجات الوظيفية هو الأفيد للأعمال؛ ففيه يتمتع المديرون برؤية كاملة لفرق عملهم، ويصبح الموظف قادرًا على إبداء رأيه ومشاركة مقترحاته التطويرية دون التقيد بأقدميته أو مسمّاه الوظيفي أو انتظار بلوغ درجة وظيفية محددة، ولا شك في أن هذا الفكر يتوافق تمامًا مع العمل الحر الذي يعد الكفاءة معيارًا للنمو والترقي.
3- «كوفيد-19»: الفكر التقليدي مرفوع من الخدمة
في عصور الأوبئة لا يصمد الفكر التقليدي، وقد عشنا –ولا نزال- في فترة «جائحة كورونا» ظروفًا جعلت الأعمال تتوقف، والشركات توصد أبواب مقراتها، وصارت المنازل مقرات للأعمال والاجتماعات، ولا نبالغ إذا قلنا إن العمل من المنزل قد ساهم في إنقاذ ملايين البشر وملايين العملات وعشرات الاقتصادات، في الوقت الذي كانت فيه الأعمال التقليدية والمساحات المكتبية «خارج نطاق الخدمة».
وخلال الجائحة راجت ثقافات ومصطلحات، مثل «العمل عن بُعد» و«العمل من المنزل» و«العمل الحر» و«العمل المستقل»، وصار أصحاب هذه الأعمال هم الحل الأمثل للشركات، في ظل تخفيض عدد ساعات العمل، وتقليل أعداد الموظفين بدوام كامل، لذا، بدأت العديد من الشركات في إنشاء هياكل إدارية لترسيخ ثقافة العمل المرنة المبنية على العمل الحر والمستقل، باعتبارها واقعًا ملموسًا وتطورًا إداريًا لا بد منه، وبدأت إدارات الموارد البشرية في التركيز بشكل أكبر على التغيرات الهيكلية والعملية اللازمة للقوى العاملة المستقلة، وزاد تدريب المديرين والموظفين على استخدام تقنيات وتطبيقات العمل عن بُعد بشكل أفضل، كما زادت مطالبات العاملين بدوام كامل بالحصول على تجربة توظيف مستقلة، تمنحهم مرونة أكبر في ساعات وطبيعة أعمالهم، وتوفر لهم استثمارًا أكبر في تنميتهم؛ ليتمكنوا من مواكبة فكر العمل الحر لشركاتهم.
4- «التأخير خسّرنا كتير»
تواجه إدارة الأعمال التقليدية صعوبة في مواكبة تطور وتسارع نمو الأعمال الحديثة ومرونتها، ولم تعد خطط العمل التقليدية قادرة على مواجهة متغيرات الأسواق، ولم تعد إدارة الأعمال تتطلب مزيدًا من التفاصيل الرئيسة التي تتبعها تفاصيل فرعية وجزئية، فقد تسارعت وتيرة التغير في العالم المهني إلى الحد الذي لم تعد فيه خطط العمل التقليدية كافية لرسم مستقبل الشركة أو ضمان قدرة صاحب الأعمال على المنافسة في مواجهة تقنيات تخريبية أو منافسين متطورين يمكنهم إزاحته في لحظة إذا استمر على اتباع خطة أعماله بحذافيرها، متغاضيًا عن أن واقع الأعمال يفرض تحسينها بشكل مستمر، بناءً على تغيرات الأسواق، وظهور تقنيات جديدة، ولاعبين ومنافسين جدد.
من ناحية أخرى فإن تطور الإدارة يمكن رصده عمليًا من خلال قدرتها على ضخ المزيد من الاستثمارات، وتوفير المزيد من النفقات، وهو ما يحقق معادلة إدارية مهمة تسعى كل الشركات إليها، ويعتمد طرفا هذه المعادلة على موارد عدة تمتلكها الشركة، تأتي على رأسها الموارد البشرية التي يعد الاستثمار فيها ركنًا رئيسًا لنمو الأعمال، ما يفرض على أصحاب الأعمال وإدارات الشركات تنمية مهارات وخبرات موظفيهم، وهو ما يتطلب الإسراع في تغيير سياسات الشركة، وإعادة استغلال مواردها، ففي ظل زيادة الإنتاجية خلال العمل من المنزل أو على الأقل استمرار معدلاتها كما هي، فما الحاجة إلى إهدار الوقت للذهاب إلى أماكن العمل؟ ولماذا تحرص الشركات على إهدار الأوقات والتكاليف في حين يمكنها تحسين ربحيتها من خلال تقليل تكاليف أماكن العمل، وزيادة الاعتماد على الماهرين في الأعمال عبر مناطق جغرافية أوسع؟ إن التأخير في تغيير هذه الأفكار الإدارية يترجم إلى خسارة للشركات.
قد يعتقد البعض أن موت إدارة العمل التقليدية أسطورة يرددها مؤيدو العمل الحر والمستقل، إلا أنها صارت واقعًا ملموسًا يرفضه من يريدون أن يظلوا خارج أسواق العمل، وفي ظل واقع عالمي يفرض على الشركات مزيدًا من التحديات، فإن العمل الحر يعد مفتاح النجاح، فالنجاح كما نعرفه قد تغير، والمؤسسة التقليدية انتهت، والنمط الإداري التقليدي لم يعد مناسبًا، وعلى المقيمين داخل أسواق الأعمال مراعاة فروق التوقيت، فإما المواكبة أو الموت.