الواقع والأحلام في سينما أسامة فوزي
في الثامن من يناير من عام 2019 رحل عن عالمنا وبشكل مفاجئ المخرج المصري أسامة فوزي، تركة فوزي الذي رحل وهو ابن 57 عاماً لم تتجاوز الأربعة الأفلام، حيث قضى الرجل ورغم كونه واحداً من أهم وأمهر مخرجي جيله ما يزيد عن ثلث عمره في البحث عن وسيلة لإنتاج أفلامه، تارة نتيجة صداماته المستمرة مع الرقابة، وتارة أخرى نتيجة ابتعاد المنتجين المصريين عن مشاريعه لما ينالهم من جدل مجتمعي بسببها.
رباعية أسامة فوزي الإخراجية بدأت بفيلمه الأول عفاريت الأسفلت في عام 1996، في تعاونه الأول مع صديقيه المؤلف مصطفى ذكري والممثل محمود حميدة، استمر التعاون بين هذا الثلاثي عقب ذلك في فيلمهم الثاني جنة الشياطين في عام 1999، قبل أن ينتقل أسامة فوزي عقب ذلك للتعاون مع المؤلف هاني فوزي في فيلمي بحب السيما -الذي شارك حميدة في بطولته أيضاً- عام 2004، وبالألوان الطبيعية في عام 2009.
نتتبع معكم اليوم هذه التركة الصغيرة التي ترك بها أسامة فوزي علامة كبيرة في تاريخ السينما المصرية، علامة لرجل كافح لصنع سينما مختلفة عن التيار السائد، ونجح في كثير من الأحيان في صنع معالجات سينمائية مختلفة على مستوى التكنيك، وطازجة ومتمردة على مستوى المحتوى، كما نحاول بشكل خاص أن نحلل سمات أسلوبه الإخراجي المختلف والفريد من نوعه في السرد البصري.
سينما البيوت والشوارع
تبدأ الأحداث في أفلام أسامة فوزي الأربعة بلقطة تأسيسية لعالم الحكاية، اللقطة المتكررة في عفاريت الأسفلت وبحب السيما وبالألوان الطبيعية هي كادر واسع لبيت مصري قديم، تقترب الكاميرا شيئاً فشيئاً من نافذة الشرفة لتصحبنا لداخل البيت، ولتبدأ رحلتنا مع سكانه، عائلة سيد سائق الميكروباص في عفاريت الأسفلت، عائلة نعيم الفتى المفتون بالأفلام في بحب السيما، عائلة يوسف طالب الفنون الجميلة الحائر في بالألوان الطبيعية.
أما في جنة الشياطين فنرى الاستثناء الوحيد بكادر واسع لشارع مظلم وفارغ، تتحرك الكاميرا بشكل مهتز نحو اليسار، ثم تصحبنا شيئاً فشيئاً داخل قهوة خاوية يقوم أحد العاملين فيها بمسحها بماء داكن مختلط بالتراب، نستمع لضحكات أبطال الحكاية المختلط بأصوات دقاتهم على لوح لعبة الطاولة.
اختار أسامة فوزي إذن في أفلامه الأربعة برفقة مدير تصويره الدائم طارق التلمساني أن يسرد حكايات بيوت المصريين وشوارعهم، يبدأ فوزي بكادر خارجي ثم يبدأ ونبدأ معه فعل التلصص كمشاهدين، عبر الشرفات والنوافذ. يحكي فوزي لنا ما تخبئه هذه البيوت، وما تحويه هذه الشوارع، يبدو الرجل إذن غير مهتم بسرد حكايات لم تحدث قدر اهتمامه بسرد حكايات عايشها وتابعها بنفسه.
وربما يكون المثال الأوضح على ذلك هو فيلمه الأول ونقطة انطلاقته، ونقصد هنا “عفاريت الأسفلت”، حيث يسرد أسامة فوزي حكاية متعددة الأبطال، يولي كل منهم باهتمامه، فلا يمكننا في النهاية أن نجزم بأن لهذا العمل بطلاً واحداً، ولكنها حكاية الأسرة كلها، بل الشارع بأكلمه.
هي حكاية عبد الله سائق الميكروباص الكهل، الرجل الذي يحمل سيجارة وبخاخة موسعة للشعب الهوائية جنباً إلى جنب، يعلم أن شغفه سيقتله لكنه لا يتراجع ولو خطوة، وهي أيضاً حكاية سيد الابن، الرجل الذي يبدو في طريقه لنفس مصير أبيه، سائق الميكروباص بشكله العصري، أحد عفاريت الأسفلت كما يطلقون على أنفسهم، قد لا يمتلكون قوت يومهم ولكنهم يرتدون أفخم الملابس وأكثرها بهرجة ولمعاناً، قد يموتون من أجل أصدقائهم في نزالات الشوارع، لكنهم لا يقبلونهم كأزاوج لأخواتهم البنات.
هي أيضاً حكاية انشراح الابنة التي تطاردها إهانات مجتمعية لوصولها لما يسمونه بسن العنوسة، المرأة التي تبدو قوية للغاية وعنيدة للغاية لكنها ضعيفة وقابلة للكسر بسهولة أيضاً في أحد جوانبها. يضع فوزي انشراح بشكل متكرر داخل تكوين بصري ذي معنى واضح، حيث نراها عادة في كادر يحاصرها فيه إطار داخل الصورة، إما إطارات الأبواب أو المرايا أو النوافذ، انشراح المحاصرة التواقة للتحرر تريد أن تتخلص من سجنها حتى لو كلفها هذا كرامتها.
ومن خلف كل هؤلاء هي حكاية عم محمد الحلاق، الرجل الحكواتي، الذي يفضل سرد الحكايات على جمع المال. يضعه فوزي دائماً في تكوين هرمي، يسيطر على رأس زبائنه، كما يتوسط جلسات أصدقائه، الحكاية عنصر قوته ونقطة ضعفه أيضاً.
هي إذن وبنظرة أشمل حكاية حي فقير منحه فقره هبة التحرر من قيود المجتمع المصري، فلا يشغلون بالهم بجاه مجتمعي، كما توفر لهم بيوتهم المتهالكة والقديمة مهرباً للتمتع بعضهم ببعض دون اعتبارات لقيم اجتماعية أو دينية. وهي أيضاً حكاية بشر تواقين للحب والحياة، ولهذا بالتحديد يبدو الواقع إطاراً مناسباً لكنه غير كافٍ لسينما أسامة فوزي.
نظرة أقرب للإنسان
يحب أسامة فوزي أبطاله، يتفهم دوافعهم ويشاركهم أحلامهم، ولهذا يتكرر في أفلامه استخدام الكادر القريب “كلوز أب”، فنتأمل معه وجوه أبطاله وملامحهم ونظرات عيونهم. يزيد هذا من القيمة الإنسانية لأفلامه، ويميزها أيضاً بخطاب غير مباشر أو وعظي، فلا يوجهنا المخرج لكراهية أي من شخوص الحكاية، كلهم بشر، كلهم يخطئون ويصيبون.
نذكر في هذا السياق أحد أكثر مشاهد «عفاريت الأسفلت» شاعرية، وهو مشهد حلاقة «رينجو» السائق لشعر رأسه بالموسى فلا يبقى منه شيء.
يجهزنا أسامة فوزي في بداية الفيلم بمشهد آخر تعرف من خلاله كيف يهتم رينجو -قام بدوره الراحل عبد الله محمود- بمظهره وبالأخص بشعره، ولهذا وعندما تحدث نقطة التحول ويدرك رينجو أن صديقه سيد لا يرضى به زوجاً لأخته، نتفهم كم الحزن والأسى الذي دفع برينجو للتخلي عن شعره قبيل فجر أحد الليالي، وبيد عم محمد الحلاق الذي أحضره رينجو تحت تهديد السلاح.
يحاول عم محمد الحلاق التهوين على رينجو بسرد بعض الحكايات أثناء الحلاقة، لكن الكاميرا تقترب من وجه رينجو، نرى علامات الحزن، تنزل دموعه دون أن يحكي عما فيه، تنتقل الكاميرا بين كادر قريب للموسى وهو يزيل الشعر وكادر قريب لرينجو الصامت الباكي. ينتهي المشهد ويترك رينجو فينا أثراً لا يزول، نتفهمه ونقدر حبه، نصدقه ونتعاطف معه، رغم تأكدنا من كل خطاياه التي حكى عنها سيد من قبل.
يتكرر الأمر أيضاً في بحب السيما وجنة الشياطين، لكن الكادر القريب هنا يصحبه فرصة متكررة يمنحها أسامة فوزي لأبطاله في إخراج مكنونات نفوسهم من خلال مونولوجات طويلة.
يجلس عدلي/ محمود حميدة رب الأسرة المتشدد دينياً داخل أحد البارات، يشرب الكحول لأول مرة في حياته، بعد أن أدرك مرضه وضعفه، ينطلق عدلي في مونولوج طويل متمرد ضد كل الكذابين، ثم يترك البار ويتجه للشارع، تصحبه الكاميرا في كادر واسع، يكمل عدلي حديثه مع النفس، ثم يبدأ حديثه مع الإله فيما يشبه الاعتراف، تقترب الكاميرا من وجهه شيئاً فشيئاً، نرى ملامحه ودموعه في كادر قريب، يصرخ معترفاً أنه كاذب ومدعٍ، أنه يعبد الإله خوفاً لا حباً، أنه يتمنى لو أحبه الإله كما يحب الأب ولده، ينتهى المشهد ونحن متفهمون لمشاعر عدلي وأزمته، نشعر بالتعاطف معه رغم إدراكنا لكل المصاعب التي فرضها على زوجته وأبنائه.
أما في جنة الشياطين فتنطلق حب/ لبلبة في مونولوج ختامي يصحبها فيه كادر قريب نتابع من خلاله حديثها الشاعري الموجه لجثة طبل/ محمود حميدة رفيقها الذي مات بعد أن رافقها لعشر سنوات، تحدثه حب وكأنه حي، تلومه على وفاته وكأنه قد بعث مرة أخرى، تخبره أنها وباقي الغواني اللائي رافقهن قد قرروا التوقف عن العمل لفترة حدادا عليه، ثم تصارحه عقب ذلك أنها تخوفت من أن تخبر الزبائن بوفاته لأنهم سيظنون حينها أنها باتت لقمة سهلة، يمتد المونولوج ويستمر الكادر القريب لوجه حب ووجه طبل حتى تبدأ في تقبيله، ينجح أسامة فوزي هنا في خلق حالة مؤقتة من التعاطف مع شخصية حب، والتفهم لدوافعها.
بين الخيالات وأحلام اليقظة
يمزج أسامة فوزي وعن عمد في كل أفلامه بين الواقع والفانتازيا، لكن الفانتازيا اقتصرت هنا على الخيالات وأحلام اليقظة، فلا تمتد لتؤثر في شخوص الواقع وحيواتهم.
في عفاريت الأسفلت تنبع الخيالات وأحلام اليقظة من حكايات عم محمد الحلاق، وحينما يختتم الفيلم بحكايته عن السلطان والشاعر والجواري الحسناوات، ينطلق كل الأبطال في خيالاتهم عن حبيباتهم، فلكل منهم امرأة يعشقها، وطبقاً للحكاية فإن المحب لا بد له من التعرف على رائحة جسد حبيبته حتى تصبح ملكاً له، ينقلنا أسامة فوزي إلى أجواء هذا الحلم، نرى رجال الحي واحداً تلو الآخر، بنفس الزي ونفس الهيئة، يصاحبهم ضوء بنفسجي مختلط بضوء أحمر يشقان ظلام الليل، ثم يتعرف كل محب على حبيبته التي ترتدي ثوباً أحمر، في كل مرة من خلال رائحة جسدها التي يستنشق عبيرها عبر نافذة ذات قاعدة رخامية تتدلى عليها ساق الحبيبة، هذا الأجواء الشاعرية الخيالية على مستوى الصورة ينقلها أسامة فوزي لنا بصحبة تعليق صوتي متمهل وبليغ من رواي الحكاية عم محمد الحلاق/ حسن حسني، الذي اختتم هذا الحلم الممتد بجملة شاعرية هي “لا عهد لماء الورد لكن العهد للرخام”.
يتكرر الأمر مرة أخرى في فيلم بالألوان الطبيعية، فيرى يوسف طالب الفنون الجميلة الحائر بين موهبته كرسام وبين علاقته بالله الكثير من أحلام اليقظة طوال الفيلم، فتقوم والدته رمز التدين الأهم وربما الأول بالنسبة له بالظهور طوال الوقت كخيالات تلومه عما يفعله كرسام وما يحدث داخل كلية الفنون الجميلة، تظهر الأم بشكل يلائم كونها خيالات، فنراها بنفس الزي وهو جلباب أسود في كل أحلام اليقظة التي طاردت فيها يوسف، وأهمها تلك المرة التي شاهدها فيها تقتحم صالة الدراسة أثناء وجود عارضات عاريات لتعليمهم رسم الجسد البشري.
هذا السرد للخيالات والأحلام والذي يحمل رمزية الهرب من حدود الواقع، عادة ما يمزجه أسامة فوزي بسخرية لاذعة، سخرية تكسر قدسية الحلم كما تنبهنا لعدم قابلية حدوثه.
لأن الموت ليس النهاية
يحضر الموت كضيف دائم في أفلام أسامة فوزي، لكن المثير للتأمل أن فوزي يعامله وعلى عكس المعتاد في ثقافتنا العربية بشيء من السخرية والتجاهل، ربما يرى فوزي إذن أن الموت ليس نهاية للأحداث، يتفق هذا بشكل ما مع رؤيته الدينية التي تبدو واضحة في أفلامه.
يبدو الرجل مهتماً ومشغولاً بعلاقة الإنسان والإله، ويبدو أنها في رأيه كما يظهر في أفلامه علاقة قائمة على الحب مقابل الخوف بدلاً من العلاقة العقائدية القائمة على الثواب مقابل العقاب.
هكذا إذن يمكننا رؤية رباعية أسامة فوزي كمرثية للمصريين جميعاً، المصريون الذين يعيشون حياتهم كأموات أحياء، مفتقدين للمال والحب والشغف، ومكبلين بقيود اجتماعية وسياسية صدئة، بحيث يبدو موتهم بداية لمرحلة قد تكون أفضل من حياتهم تلك على أي حال.
يموت الجد في عفاريت الأسفلت أثناء جلوسه بين يدي عم محمد الحلاق، ويبدو الحلاق عقب ذلك غير مهتم بموت الجد قدر اهتمامه بكونه مات أثناء سرده للحكاية، تبدو الحكاية هنا أكثر قيمة من الموت. لأن الحكاية هي وسيلة الانشغال الأهم عن الحياة بما فيها من بؤس وهم، أما الموت فربما يمثل تحرراً طال انتظاره من هذه الحياة.
يتكرر الأمر في جنة الشياطين، فالفيلم بأكمله ما هو إلا حكاية تسرد لرجل قد مات بالفعل، لكن رفاقه ما زالوا يتصرفون كما لو كان حياً نظراً لمشاركته لهم في حكايات جديدة. يبدو موت البطل الحقيقي في عودته لعائلته المحافظة، في عودته لحياة روتينية تسير وفقاً لنظام ممل، بينما وجوده وسط رفاقه المهمشين بتمردهم وعشوائيتهم ورفضهم لقيود المجتمع يمثل له بعثاً جديداً.
وفي مشهد الختام في بحب السيما يجلس نعيم وسط أسرته على المائدة ليتابعوا أحد عروض ثلاثي أضواء المسرح على التلفاز، يبدأ الجد الجالس على الطاولة في السعال، يبدو أن بعض الطعام قد انزلق ليسد قصبته الهوائية، يختنق الجد سريعاً ويفارق الحياة، يضطرب جميع من حوله ويحاولون إنقاذه ثم يبدأون في البكاء عليه، ووسط كل هذا يستمر نعيم في مشاهدة التلفاز عقب تأكده من وفاة جده، رغم حبه له.
يدرك نعيم أن الموت ليس النهاية، كما ندرك الآن أن رحيل أسامة فوزي عن الدنيا لم يكن نهاية عهده بنا، نحن جميعاً كمشاهدين وصحفيين ومحبين للسينما، نحن الذين وقفنا مكتوفي الأيدي وهذا الرجل غير قادر على تحويل أفكاره لأفلام، لأن المجتمع السينمائي المصري لم يعد يرغب في صناعة أفلام تدب فيها الحياة كأفلامه، ولكن مصر قد تفرغت في هذا العصر لإنتاج أفلام ميتة، أفلام بلاستيكية معلبة لا تثير جدل متطرفين دينيين أو نظام محافظ يرى في الفن وسيلة للوعظ والحشد، لا أكثر ولا أقل.
رحل أسامة فوزي وبقيت روحه في أفلامه، تحول بكينونته إلى سينما ستعيش أبد الدهر، لندرك بعد فوات الآوان قيمته، وندرك أخيراً سر ابتسامة نعيم في مشهد الختام من بحب السيما، فالموت بالنسبة له كما هو بالنسبة لأسامة فوزي ليس النهاية، والحكاية يجب أن تستمر.