ريال مدريد: لماذا تغيرت سياسة انتقاء العبيد؟
في عام 2000، نشر «دان هيرمان»، خبير التسويق، ورقة بحثية ناقش خلالها ظاهرة «الخوف من تفويت الفرص – Fear Of Missing Out». تعد هذه الظاهرة شكلًا من أشكال قلق الفرد العام من فكرة أن الآخرين يمرُّون بتجارب رائعة بدونه.
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة أكثر شيوعًا بين المراهقين، بُنيت علاقة مؤسسة بحجم ريال مدريد برئيسه العجوز «فلورنتينو بيريز» على هاجس الخوف من تفويت الفرص؛ الخوف من عدم القدرة على التعاقد مع نجوم عالميين، ثم الخوف من عدم تحقيق دوري الأبطال، ثم مؤخرًا الرغبة الحثيثة في اكتناز المواهب الشابة الأفضل حول العالم. فما قصة هذا التحوُّل؟
«العين بصيرة واليد قصيرة»
آمن فلورنتينو بيريز، أو القرش كما يطلق عليه مشجعو كرة القدم، منذ لحظة وصوله لمنصب رئيس نادي ريال مدريد، أن نادي العاصمة لا بد أن يضم أفضل أوجه اللعبة.
في فترته الأولى مطلع الألفية الثالثة، دأب على انتداب أفضل الأسماء التي يُمكنها أن تُروِّج لاسم النادي وتحويله لعلامة تجارية قائمة بذاتها، بغض النظر عن النتائج الرياضية، حتى إن كلفه هذا الأمر كسر الرقم القياسي لأغلى صفقة في كرة القدم أكثر من مرة.
عند عودته مرة أخرى لرئاسة النادي عام 2009، لم يغيِّر كثيرًا من سياساته؛ تعاقدات ضخمة مع نجوم عالميين، مع بعض تدعيمات ثانوية لمنح التوازن للفريق المدجج بالنجوم. استمرت هذه الاستراتيجية تقريبًا حتى عام 2014، ثم بدا أن ريال مدريد أصبح فجأة لا يسعى بضراوة كما سبق للتعاقد مع أفضل لاعبي العالم.
يعزو جاسون بارت، صحفي تليغراف، هذا التحوُّل لعدة أسباب، أهمها هو تفهُّم إدارة ريال مدريد لحقيقة أن الإنفاق الضخم في ظل المنافسة الشرسة مع أندية ثرية مثل باريس سان جيرمان ومانشستر سيتي فكرة غير مستدامة.
التفسير الآخر لعزوف ريال مدريد النسبي عن ضم «جالاكتيكو» كل عام أو اثنين كما جرى العرف قبل عقدين من الزمن هو تضخم الأسعار الذي ضرب الفكرة نفسها في مقتل.
ربما لا يزال ريال مدريد أحد أثرى أندية العالم، لكن لسبب ما، تضخمت أسعار لاعبي كرة القدم بشكل مبالغ به، لتصبح مسألة التعاقد مع لاعب جاهز عملية حذرة تستحق التفكير طويلًا.
طبقًا لتقرير نشره المركز الدولي للدراسات الرياضية «CIES»، فمتوسط تكلفة شراء عقد لاعب كرة قدم ارتفعت بنسبة سنوية قدرها 13.8% خلال الفترة بين 2013 و2023. بمعنى أن النادي أصبح مطالبًا بدفع أكثر من ضعف المبلغ (116%) الذي كان ليدفعه لشراء عقد لاعب بنفس الإمكانيات قبل عشر سنوات.
في نفس الوقت، تحرُّكات النادي تجاه أسماء مثل «كيليان مبابي» و«جود بيلينجهام» وغيرهما من الأسماء التي لن تقل تكلفة استقدامهم عن 100 مليون يورو بأي شكل، يجعلنا نفكر مرة أخرى: هل تغيرت استراتيجية النادي بالفعل؟
آخر التفسيرات المنطقية هي أن ريال مدريد كان قد راكم طوال العقد الماضي مجموعة من المواهب الممتازة التي لا تزال قادرة على المنافسة في مستوى عالٍ؛ لذلك لم تكن الإدارة مضطرة لملاحقة الأسماء الكبيرة كما في السابق، بل البحث بتأنٍّ عن ورثة للجيل الحالي.
بلا هوية
في مثل تلك الحالات، عادةً تقوم الأندية بتطعيم قوائمها بأسماء من فريق الشباب، باعتبارهم الورثة المثاليين للجيل الناشط، لكن في ريال مدريد، لا يبدو أن بيريز، حتى إن كان مهتمًّا باللاعبين صغار السن في العموم، يكترث لفريق الشباب في ريال مدريد.
في يناير/كانون الثاني 2023، لعب ريال مدريد ضد فياريال بتشكيل لا يضم أي لاعب إسباني للمرة الأولى منذ 121 عامًا. يرى ديرموت كوريجان، صحفي ذي أثليتيك، أن هذه الحادثة الاستثنائية سؤال حول رؤية الإدارة للاعبين الإسبان ولاعبي الأكاديمية بشكل خاص.
يخبرنا التاريخ أن فلورنتينو بيريز الذي اعتمد على فكرة «Zidanes and Pavones» في ولايته الأولى، يرى أن الإدارة دائمًا ما تولي اهتمامًا بالتعاقد مع نجوم عالميين فيما يُمنح الإسبان ولاعبي الأكاديمية دورًا هامشيًّا داخل الفريق.
«لا فابريكا»، أو المصنع، هي سلاح ريال مدريد الذي يُنظر له وكأنه بلا فائدة؛ لأن الفريق الأول نادرًا ما يستعين بأحد أبنائه. لكن السبب الحقيقي ليس في ضعف مستوى اللاعبين المكونين هناك، لكن في الاستراتيجية التي يتبعها النادي في ملف ناشئيه.
حسب «ذي أثليتيك»، مع انطلاق موسم 2022-2023 كان هناك 55 لاعبًا تدربوا داخل «لا فابريكا» ضمن قوائم أندية الدوري الإسباني المختلفة.
هذه هي فكرة الإدارة الرئيسية، أن تعمل أكاديمية النادي كمصدر دخلٍ. على سبيل المثال، ربح ريال مدريد من بيع لاعبي أكاديميته نحو 300 مليون يورو خلال الفترة بين 2010 و2020، في حين لم يتم تصعيد سوى 4 لاعبين فقط من الأكاديمية للفريق الأول.
لن نخسر مجددًا
يمتلك ريال مدريد حاليًّا مجموعة من أفضل مواهب العالم الصاعدة بالفعل. أسماء مثل فينيسيوس جونيور، رودريجو جوس، فيدي فالفيردي، أوريلين تشواميني وإدواردو كامافينجا هي أسماء لم تُستقدَم بمبالغ قليلة بكل تأكيد.
لكن ربما قررت إدارة نادي العاصمة الإسبانية اتباع هذا النهج الاستباقي في التعاقدات مع اللاعبين الشباب لاعتبارات اقتصادية ورياضية في آن واحد.
من وجهة نظر اقتصادية، فالتعاقد مع هذه الأسماء بأسعار مرتفعة نسبيًّا يظل استثمارًا ناجحًا؛ فإن تحولت هذه الأسماء لنجوم صف أول، فسيستفيد الفريق بكل تأكيد، وإن لم يحدث ذلك، فالعقود طويلة الأمد التي يبرمها النادي تضمن أدنى حد من الخسائر على أقل تقدير.
أما من وجهة نظر رياضية، فكان تعاقد برشلونة مع نيمار جونيور هو اللحظة التي قرر عندها بيريز أن يكشف عن خوفه من تفويت الفرص إلى العالم. ليظهر الرجل الأهم في ريال مدريد بالعقد الأخير: «جوني كالافات».
اقتحم كالافات مكاتب البيرنابيو عام 2013 ككشَّاف للمواهب الموجودة بأمريكا الجنوبية وتحديدًا البرازيل، مستغلًّا علاقته المميزة بنجم ريال مدريد السابق البرازيلي «رونالدو نازاريو دا ليما»، قبل أن يتحوَّل عام 2018 لرئيس قسم الكشافة في النادي، أو الرجل الثالث في النادي بعد «فلورنتينو بيريز» و«خوسيه أنخل سانشيز»، المدير الرياضي.
بالتأكيد يظل تمثيل ريال مدريد حلمًا لأي لاعب بالعالم، لكن بالنسبة للشباب الواعدين، تبدو فكرة الذهاب لبطل أوروبا التاريخي مخاطرة ضخمة؛ لأن انتزاع مكان أساسي داخل هذا الفريق أكثر صعوبة بسبب بيئة العمل المتطلبة.
حسب المقربين من كالافات، كانت المشكلة الرئيسية هي إقناع هؤلاء اللاعبين الصغار بمشروع ريال مدريد الجديد. وفي محاولته لحل هذه المشكلة، كان الرجل الذي ولد بإسبانيا وأمضى معظم حياته في البرازيل حريصًا على بناء علاقات أقرب بالصداقة مع اللاعبين الشباب الذين يرغب النادي في التعاقد معهم وعائلاتهم، حتى قبل التعاقد معهم بسنوات، حتى إن لزم الأمر أن يسافر في رحلات طويلة للاطمئنان على أهداف النادي المستقبلية.
وفي الواقع، لم تقتصر مهام الرجل على البحث عن المواهب المدفونة في أمريكا الجنوبية وحسب. فمع مرور الوقت، توسعت شبكة علاقاته، ليصبح قادرًا على مزاحمة المنافسين مثل مانشستر سيتي، برشلونة، باريس سان جيرمان وتشيلسي المميزين تاريخيًّا في خطف مثل تلك المواهب بسن مبكرة.
في النهاية، قد يكسر ريال مدريد سياسة تعاقداته الحالية، ويعود مرة أخرى لفكرة «تجميع نجوم العالم» في فريق واحد، وذلك يعتمد بالأساس على شيء واحد: وهو أن يجد فلورنتينو بيريز فرصة ما، يدفعه خوفه من تفويتها للتنازل عن الخطة التي تبدو ناجحة حتى اللحظة، تمامًا كما فعل بالسابق.