تاريخ الإخوان في غزة: قراءة في جذور حركة حماس
مع استعادة حركة حماس زخم المقاومة الفلسطينية المسلحة بهجومها غير المسبوق «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر/تشرين وتصدرها ساحات المواجهات الميدانية والسياسية، تدعو الحاجة إلى القراءة في جذور الحركة التي صارت حديث العالم أجمع والشغل الشاغل اليومي لجمهور هائل يحاول بشغف التعرف على الخلفيات الفكرية والدينية لهذه الحركة.
فلا يمكن فهم الواقع دون الرجوع إلى الماضي وقراءة السياقات والظروف التاريخية، ورغم أن حماس أعلنت في عام 2017 فك ارتباطها بجماعة الإخوان فإن هذا القرار -على خلاف في مدى مصداقيته وجدواه- لا يمكنه إلغاء الأصل الفكري والتنظيمي للحركة وقادتها ومسيرتها من لحظة التأسيس.
ويعد كتاب «الإخوان المسلمون الفلسطينيون: التنظيم الفلسطيني – قطاع غزة 1949-1967»، من الكتب التي اهتمت بتوثيق وإبراز تاريخ جماعة الإخوان في قطاع غزة وتتبع مسارات عملها خلال الفترة محل الدراسة، مما يعطي صورة واضحة عن جذور حركة حماس والظروف التي أدت في ما بعد لولادة الحركة.
ويقع الكتاب في نحو 400 صفحة، وهو من تأليف الدكتور محسن محمد صالح، الأستاذ بقسم التاريخ بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا سابقًا، ومدير مركز الزيتونة للدراسات ببيروت، وقد أصدر المركز الطبعة الأولى منه عام 2020.
ويشتمل الكتاب على خمسة فصول وملاحق للوثائق والصور، ويحوي مادة الكثير من المقابلات التي أجراها الكاتب على مدار سنوات مع مجموعة من القيادات الفلسطينية، وأجرى عديدًا من تلك اللقاءات في الخارج بخاصة في لبنان والأردن ودول الخليج العربي.
ويقتصر تركيز الكتاب على الحديث عن فرع الجماعة في قطاع غزة وفلسطينيي الشتات أما الضفة الغربية فكانت خارج هذا الإطار لأن عملها موحد مع إخوان الأردن لأن الضفة كانت جزءًا من المملكة الأردنية.
تطورات القضية حتى عام 1967
يتحدث الفصل الأول بعنوان «الإخوان المسلمون وتطورات القضية حتى عام 1967» عن السياق العام المتعلق بالاحتلال، بداية من الهجرة اليهودية في عهد العثمانيين وتطورات القضية الفلسطينية بين عامي 1918-1948 حيث زاد الوجود اليهودي في تلك الفترة من 8% إلى 31.7%، وزادت ملكية الأراضي من 2% إلى 6%، وانتشرت المستوطنات والعصابات الصهيونية حتى تم إعلان تأسيس إسرائيل عام 1948، وأصدرت الأمم المتحدة قرارًا غير ملزم يمنحها 54.7% من أرض فلسطين ويضع القدس تحت إدارة دولية.
ثم يتحدث عن حرب 1948 ونتائجها معتبرًا أنها مزقت النسيج المجتمعي الفلسطيني بشكل لا يمكن تصوره، واستولى اليهود على 77% من فلسطين، وعقدت الجيوش العربية هدنًا مع إسرائيل عام 1949، وتم تهجير مئات القرى.
وأفرزت حرب 1948 كارثة الشتات الفلسطيني، ففي الداخل فقط نزح مئات الآلاف للضفة وغزة، فالقطاع الذي كان سكانه 80 ألفًا نزح إليه 200 ألف مثلوا 69% من سكانه ما لبث بعضهم أن غادر فنزلت نسبتهم إلى 59%، وعاشوا ظروفًا لا توصف، ومع ذلك حرصوا على تعليم أبنائهم حتى صاروا أعلى نسبة تعليم في الوطن العربي بما يضاهي دولًا أوروبية، وسافر كثيرون لدول الخليج للعمل هناك.
وحاول الفلسطينيون تنظيم أنفسهم فأنشأوا حكومة عموم فلسطين في الضفة والقطاع برئاسة الحاج أمين الحسيني، لكن الأردن رفض الاعتراف بها وأعلن ضم الضفة الغربية وطردها منها، ورفضت مصر الاعتراف بها ونقلت الحاج أمين الحسيني إلى القاهرة، وظل هناك حتى تمكن من المغادرة إلى لبنان عام 1958، بسبب الضغط والتضييق عليه، وعمليًا انتهى أي تأثير لها بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، وظهور العمل الفدائي الفلسطيني، ثم وفاة الحاج أمين الحسيني عام 1974.
وعلق الفلسطينيون آمالهم على نصرة البلاد العربية لهم ما بين عامي 1948-1967، بخاصة مصر بقيادة جمال عبد الناصر، لكن الأنظمة العربية ظلت ترفع شعارات القضية دون عمل حقيقي لتحرير فلسطين، وتعاملت البيئة الدولية مع القضية كقضية لاجئين.
وسعت الدول العربية لإيجاد هيكل مؤسسي تمثيلي للفلسطينيين يستوعبهم ويعبر عن تطلعاتهم ويبقي الأمور تحت السيطرة، فتم تعيين أحمد الشقيري ممثلًا لفلسطين في الجامعة العربية عام 1963 وفي العام التالي تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية برئاسته.
وكانت جماعة الإخوان بعد نشأتها في مصر تسعى للتمدد والانتشار فبدأ ممثلوها في نشر دعوتهم في فلسطين عام 1935، وفي عام 1945 تم إنشاء عديد من الفروع وتتابعت حتى زادت على العشرين، ومع نشأة الإخوان المسلمين الفلسطينيين زاد نشاطهم وتوسع لكن لم يتم تعيين مراقب عام لهم بل كانت الجماعة الأم تدير الفروع الفلسطينية بشكل مباشر.
وشكل الإخوان جماعات مسلحة غير نظامية تشن هجمات على معسكرات اليهود، بينما انضم اهل الجنوب كغزة وبئر السبع لقوات الإخوان المصريين التى ذهبت لتقاتل في حرب فلسطين عام 1948.
وشارك الإخوان المصريون بقيادة كامل الشريف في عديد من المعارك وكبدوا اليهود خسائر كبيرة، وأسهموا في تخفيف الحصار على القوات المصرية في الفالوجا، وفقدوا عديدًا من القتلى والجرحى والأسرى، وشارك الإخوان السوريون والأردنيون والعراقيون في القتال.
وأثارت قدرة الإخوان على الحشد والتعبئة مخاوف النظام الملكي في مصر فتم حل الجماعة نهاية عام 1948، واغتيل زعيمها حسن البنا في فبراير/شباط 1949، واعتقل عديد من الإخوان ممن شاركوا في حرب فلسطين.
إخوان غزة
في الفصل الثاني بعنوان «الإخوان المسلمين الفلسطينيين في قطاع غزة 1949-1956»، يستعرض الكتاب عمل التنظيم في تلك الفترة، فقد استعاد الإخوان حريتهم في العمل تدريجيًا منذ تموز/ يوليو 1949؛ وبدأ إطلاق سراح معتقليهم الذين شاركوا في الحرب، وأعادوا تنظيم أنفسهم وفي سبتمبر/أيلول 1951 صدر حكم للقضاء الإداري برفض قرار حل الإخوان، كما كانت علاقة الجماعة جيدة بضباط ثورة يوليو في السنتين الأوليين من حكمهم، واستعادت الجماعة نشاطها وهو ما انعكس إيجابًا على قطاع غزة الملاصق لمصر.
وصار تنظيم الإخوان المسلمين الحركة السياسية الأولى في قطاع غزة في الفترة 1949-1956، ولم يلقَ منافسة كبيرة إلا من الحزب الشيوعي الذي كان نخبويًا وغير مقبول من العامة للاشتباه بصلته باليهود، بخلاف الإخوان الذين حققوا شعبية كبيرة نتيجة مشاركتهم في حرب فلسطين ومبادرة «قطار الرحمة» بعد ثورة يوليو، وهي مبادرة لنقل تبرعات عينية لغزة، لكن بعد الحملات الشرسة التي شنها جمال عبد الناصر ضد التنظيم أخذ تأثير الإخوان في التضاؤل والانزواء.
وكانت جمعية التوحيد برئاسة ظافر الشوا هي الغطاء الذي عمل الإخوان من خلاله في غزة منذ حل التنظيم عام 1948، وضمت في صفوفها شخصيات صاروا لاحقًا من قادة النضال الفلسطيني كأبو إياد صلاح خلف وأبو جهاد خليل الوزير، وبعد إلغاء قرار حل الجماعة نشبت خلافات مع الشوا ترك على إثرها الجماعة وظلت جمعيته تعمل حتى ضيقت السلطات عليها فأغلقت عام 1958.
صارت قيادة الإخوان في القطاع بيد القاضي عمر صوان رئيس بلدية غزة، وكان كبيرًا في السن هو ومن حوله، وتقريبًا كان فرع الجماعة في غزة يُعامل وكأنه أحد فروع الإخوان في محافظات مصر، رغم أن هذه العلاقة لم تكن واضحة، وبلغت نسبة تلاميذ الإعدادي والثانوي 70% من منتسبي الجماعة، وعدد ضئيل من الشباب الجامعي، ونشطت الجماعة في تكوين فرق كشافة وجوالة، وبعد ثورة يوليو انضم لها الكثير من الكبار في غزة ظنًا منهم أنهم يتقربون للسلطة الجديدة في القاهرة إلى أن وقع الصدام بين النظام والإخوان عام 1954 فانفضوا عنها.
واستقال صوان عن منصبه بعد لغط وقع بسبب رئاسته للبلدية وموقفها المؤيد للنظام بالطبع، ولم تقع اعتقالات للإخوان في غزة مثلما حدث لرفقائهم في مصر، وبسبب وجود عناصر إخوانية غير معروفة داخل سلاح الإشارة في الجيش المصري استطاع إخوان غزة أخذ احتياطاتهم من الضربات الأمنية المصرية.
وانتقل التنظيم للعمل السري ولم يستمر فيه إلا بضع مئات معظمهم من الطلاب الذين تلقوا تربية خاصة تحت إشراف الإخوان المصريين في العريش، وتم تقليص حجم الأسر الإخوانية إلى 3 أفراد فقط منهم مسئول الأسرة، واتخذ العمل النمط اللامركزي مع اتباع أساليب التنظيم السري كأخذ البيعة على المصحف، وكانت شخصية القائد غير واضحة لكنها تدور بين 3 هم هاني بسيسو وعبد الله أبو عزة وعبد البديع أبو صابر.
وكان بسيسو الأول على قطاع غزة في الثانوية العامة عام 1947، والتحق بكلية الحقوق بالقاهرة، وفي الأجازات الصيفية وغيرها تابع عمله التربوي، إذ ركز في عمله على 12 فتى ليعدهم كنقباء للإخوان، وفي مصر كان مسئولا عن الطلبة الفلسطينيين، وكان له مساهمة كذلك في ملف الطلبة الوافدين بصفة عامة.
وكان مطيع البغدادي طالبًا جامعيًا نشيطًا في مخيم الشاطئ، جمع حوله من 40 إلى 50 شخصًا لكنه كان مرتبطًا بعبد الرحمن السندي زعيم التنظيم الخاص للإخوان الذي توترت العلاقة بينه وبين مرشد الإخوان، حسن الهضيبي، فأوعزت الجماعة لأخيه بنقل ولاء هذه المجموعة للإخوان وليس لمطيع، وهو ما تم بالتعاون مع نائبه محمد أبو دية، وفي هذا المخيم نشأ الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس لاحقًا، وكان أبو دية يتابعه تربويًا.
وشهد عام 1955 حدثًا مهمًا وهو هجوم قوة إسرائيلية على الحامية المصرية في قطاع غزة، وتفجير محطة المياه فقتلت 39 منهم وجرحت 33 وعادت القوة الإسرائيلية سالمة، وتزامن الهجوم مع تسرب أنباء عن
مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين شمال غربي سيناء بالتعاون مع وكالة الأونروا بموافقة القاهرة، فاشتعلت مظاهرات صاخبة نظمها الإخوان والشيوعيون تصدت لها القوات المصرية بقوة السلاح لكنها في النهاية وافقت على المطالب وبذلك تم إسقاط مشروع التهجير، وتم اعتقال أبرز منظمي المظاهرات.
وخلال العدوان الثلاثي على مصر في نهاية أكتوبر/تشرين الأول احتلت إسرائيل القطاع، وبعد انسحابها مطلع مارس/آذار 1957 نظم الإخوان مظاهرات شعبية لتأييد عودة القوات المصرية بدلًا من تسليم القطاع لإدارة دولية.
أما في مصر نفسها فقد كان معظم أبناء قطاع غزة يذهبون إليها لاستكمال دراستهم الجامعية، وقد تشكلت «رابطة طلبة فلسطين» سنة 1949؛ وهيمن طلاب الإخوان عليها منذ نشأتها وحتى سنة 1957، وكان لطالب اللغة العربية بالأزهر، فتحي البلعاوي، الملقب بـ«أبو الوطنية»، دور ريادي في ذلك، لكنه اعتُقل وأبعد لغزة بعد تهجمه على الرئيس محمد نجيب في أحد اللقاءات، وحل محله في متابعة العمل الإخواني أبو إياد صلاح خلف.
وفي السنة الثانية طعم الإخوان قائمتهم بعناصر مستقلة مثل ياسر عرفات، وفي السنة التالية خسرت قائمة عرفات أمام الإخوان، وفي السنة الرابعة تولى بالتنسيق مع الإخوان رئاسة رابطة طلبة فلسطين في مصر وظل محتفظًا بموقعه حتى غادر مصر وخلفه فيه أبو إياد.
وبعد هجوم 1955 نظم الطلاب الفلسطينيون في القاهرة إضرابات ومظاهرات، واعتصموا في مقر الرابطة وأضربوا عن الطعام وطالبوا بتدريب الفلسطينيين وإلغاء نظام التاشيرات على قطاع غزة، وإعادة مواصلات السكة الحديدية بين القاهرة وغزة. وقابلوا عبد الناصر بالمطالب التي حملوها إليه، لكنه لم يستجب لطلب التدريب العسكري، وخلال العدوان الثلاثي أقيم معسكر في القاهرة لتدريبهم لكن كثيرًا منهم انسحبوا بعد شعورهم بعدم جدية الأمر.
إنشاء التنظيم
يغطي الفصل الثالث «الإخوان المسلمون الفلسطينيون – إنشاء التنظيم» الفترة ما بين عامي 1957 و1967، وكانت فترة كمون ركز فيها التنظيم على «حفظ النفس» وليس التوسع الدعوي، بل انتشرت حالات الانشقاق في ظل تضييق النظام المصري أمنيًا على الإخوان، وسافر كثيرون لدول الخليج وشكل البعض المجموعة التأسيسية لحركة فتح، وبحلول أوائل الستينيات كان عدد الإخوان في القطاع يُقدر بـ200 شخص فقط، وحينها برز دور أحمد ياسين الذي كان يعاني من إعاقة ويتعمد إخفاء علاقته بالإخوان تفاديًا للملاحقة الأمنية.
وتمت إعادة هيكلة الإخوان لينشأ تنظيم يشمل الإخوان الفلسطينيين في البلاد العربية عدا الأردن، وذلك بعد اجتماع عقد في القاهرة عام 1960، واجتماع ثاني عُقد في خان يونس بعده بسنتين أو ثلاث، بعد اشتداد حالات الانضمام لحركة فتح التي رآها البعض حركة إخوانية، فتم انتخاب هاني بسيسو مراقبًا عامًا للتنظيم وتم إرسال من أبلغه بهذا القرار حيث كان حينها يعمل مدرسًا في العراق، فوافق وانتقل للقاهرة تحت غطاء تحضير الماجستير، فأبلغوه بقراريهم رصد مرتب شهري له وضرورة حلق لحيته فرفض الاثنين لكنه وافق في النهاية على أخذ بعض الراتب مقابل تفرغه، واتسم العمل التنظيمي بسرية تامة في مصر.
إضافة إلى عمله في القطاع، افتتح تنظيم الإخوان الفلسطينيين مكاتب إدارية في مصر، وسوريا، والكويت، والسعودية، وقطر، أما الفلسطينيون في لبنان فكانوا مستوعَبين تقريبًا في الجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني للجماعة، وظلت العلاقة مع حركة فتح ملتبسة لكن مع تزايد انتقال الكفاءات الإخوانية لفتح واحتفاظ البعض بعضوية الجماعتين قرر الإخوان المفاصلة.
انقسم القطاع إلى خمس شعب إخوانية، وتولى عبد الله أبو عزة رئاسة المكتب الإداري لقطاع غزة، وتبعه إسماعيل الخالدي، ومع سفره للخارج عام 1967 تولى أحمد ياسين قيادة القطاع.
وظل هاني بسيسو في منصبه حتى تم اعتقاله مع عشرات الفلسطينيين عام 1965 ضمن حملة اعتقالات عبد الناصر للإخوان وعلى رأسهم سيد قطب، ورغم أن بسيسو حكم عليه بالسجن 3 سنوات فقط لكنه ظل فيه إلى أن مات عام 1970، بعد رفض النظام الاستجابة للمناشدات بحقه، ودُفن بقرية زوجته المصرية في بيلا بكفر الشيخ، ومنعت السلطات إقامة عزاء له.
وفي الكويت مارس نظام عبد الناصر ضغوطًا شديدة حتى تم إغلاق جمعية الإرشاد عام 1956 ، وتضرر العمل الإخواني، واضطر الإخوان لإعادة تكييف أوضاعهم في ظروف يشوبها التكتم والحذر، وغضت الحكومات طرفها عن نشاطاتهم السرية في بلدان الخليج، فتشكلت أطر تنظيمية مختلفة وفق جنسياتهم، فكان هناك تنظيم الإخوان الكويتيين، وتنظيم للفلسطينيين وآخر للمصريين… وأصبح يجمع بين هذه التنظيمات مجلس تنفيذي، حيث كان لكل قطر من الوافدين ممثل في هذا المجلس، وفي عام 1963 عاد الإخوان إلى العمل العام، من خلال جمعية الإصلاح الاجتماعي، وظل إخوان غزة في معزل عن القادمين من الضفة الغربية الذين استمروا ضمن إطار إخوان الأردن، وتفاقمت مشكلة ازدواج الانتماء ما بين الإخوان وفتح حتى قرر الطرفان عدم الاعتراف بهذه الازدواجية، ومع ذلك ظلت مجموعة داخل فتح تعتبر نفسها من الإخوان.
وفي سوريا لم يشكل الإخوان الفلسطينيون تنظيمًا خاصًا بهم في البداية بل عملوا مع الإخوان السوريين، وكان منهم محمود عباس أبو مازن، في أوائل الخمسينيات وفقًا لما ذكره عبد الله أبو عزة، ولعل هذا الانتماء كان لفترة ضئيلة أثناء إقامته في سوريا، وكذلك هاني الحسن، قبل أن ينضم الاثنان لحركة فتح.
وقاد العمل الإخواني الفلسطيني في سوريا طالبان تخرجا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وهناك تعرفا على إخوان غزة خلال الدراسة، وبصفة عامة كانت المخابرات السورية لا تعلم بوجود إخوان في المخيمات الفلسطينية لكن في 1972 تعرض الإخوان من الفلسطينيين والسوريين لملاحقات أمنية، وفي عام 1975 وصل الأمن لأسماء مسئولي الإخوان الفلسطينيين خلال مداهمة إحدى الشقق بدمشق ففر مسئول التنظيم إلى الأردن.
وقد شهد عام 1976 قرار اندماج الإخوان في الأردن وفلسطين، وتم تنفيذ القرار عام 1978، وسُمي تنظيم «بلاد الشام»، رغم عدم انضمام إخوان سوريا ولبنان له.
العمل العسكري
يسلط الفصل الرابع الضوء على العمل العسكري للإخوان المسلمين الفلسطينيين في الفترة 1949-1956، فكان الإخوان يبررون وجود «النظام الخاص» بأن هدفه الدفاع عن فلسطين، وأرسل المرشد المؤسس، حسن البنا، لجامعة الدول العربية بأنه مستعد لإرسال عشرة آلاف مقاتل لفلسطين كدفعة أولى، وبعد أن عقدت مصر هدنة في فبراير/شباط 1949، استمر الإخوان في القتال فاعتقلت السلطات المصرية القيادي الإخواني كامل الشريف ورفاقه في رفح وظلوا في السجن حتى أوائل العام التالي.
وبحسب خليل الوزير أبو جهاد الذي انضم للإخوان عام 1951، فإن أغلب الناس في غزة كانوا يقولون إنهم قاتلوا في صفوف الإخوان، وهذا ما قوى علاقة الإخوان بالشباب في قطاع غزة آنذاك، وأشرف كامل الشريف، بمتابعة من مكتب الإرشاد، على تنظيم وتدريب مجموعات للمقاومة في غزة سُميت «النظام الخاص» وتلقت دعمًا فنيًا من النظام الخاص للإخوان في مصر، غير أنها لم تكن جزءًا منه ولا علاقة لها بخلافاته مع الجماعة.
وأيضًا لم تكن قيادة الإخوان الغزاوية الرسمية تعلم عنها شيئًا، وبعد ذلك عندما تولى القيادة شباب مثل هاني بسيسو وعبدالله أبوعزة وعبدالبديع أبو صابر لم يكونوا يعرفون كثيرًا عن النظام الخاص الغزاوي.
وظل كامل الشريف يدير النظام الخاص بمتابعة الشيخ محمد فرغلي في مكتب الإرشاد بالقاهرة، وكان العمل قطاع غزة مقسما إلى 3 مناطق، كان خليل الوزير أبوجهاد يتولى الجزء الشمالي.
وعندما تولى عبد المنعم عبد الرؤوف، قيادة كتيبة غزة، وكان من الضباط الأحرار وينتمي للإخوان، درب شباب الإخوان بغزة عسكريًا على يد ضباطه، وكذلك أدى الضابط المصري الإخواني كمال فودة دورًا مشابهًا، وأيضًا كان محمد الشقيق الأصغر لحسن البنا ضابطًا يخدم في غزة وشارك في هذا الأمر.
وتولى كامل الشريف تهريب الأسلحة لغزة مستعينًا بالبدو، وتلقى كميات من السلاح من الضباط الأحرار كعبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم قبل 23 يوليو 1952، وشن البدو، بإيعاز من الشريف، هجمات مميتة ضد الصهاينة أوقعت كثيرًا من القتلى، بينما كان النظام الخاص في طور التشكل والإعداد.
ووصل النظام الخاص الغزاوي ذروته عام 1953 وحينها انتقل كامل الشريف للقدس وأناب أخاه محمود لمتابعة الأمر، لكن في العام التالي طرد الأردن كامل الشريف من القدس وفر أخوه من سيناء بسبب حملات ملاحقة الإخوان، ونفذت مجموعة خليل الوزير عدة عمليات هجومية أواخر عام 1954 وفي النصف الأول من 1955 وفي نفس العام سافر للدراسة في مصر ثم استقر في الكويت، فتراجع العمل بشدة، ومع استهداف النظام المصري للإخوان يكاد يكون كل الأعضاء تركوا الجماعة عدا عناصر التنظيم الخاص.
ومن أبرز عمليات النظام الخاص تنفيذ هجوم في 25 فبراير/شباط 1955 على خزان ماء إسرائيلي، وهو الهجوم الذي ردت عليه تل أبيب بعد ثلاثة أيام بالعملية الشهيرة ضد الجيش المصري في غزة التي أشعلت مظاهرات شعبية غاضبة، فأرسلت القاهرة ضابط المخابرات مصطفى حافظ ليشرف على تنفيذ عمليات فدائية ضد إسرائيل.
الإخوان الفلسطينيون ونشأة فتح
يتناول الفصل الخامس والأخير موضوع علاقة الإخوان الفلسطينيين بنشأة حركة فتح، حيث صار اسم الإخوان يثير القلق والنفور نتيجة الملاحقات الأمنية المصرية، فتراجع نشاطهم بشدة، ورأى أهل غزة كيف شن اليهود هجوم 1955 دون أن يصابوا بأذى، وانهارت الدفاعات المصرية بسرعة في العدوان الثلاثي 1956، وقرر عبدالناصر وقف العمل الفدائي في غزة بعد انسحاب إسرائيل منها عام 1957، فرأى الشباب كيف خلت ساحة العمل المقاوم وبدأوا يفكرون في مسار آخر للعمل.
وتواصل خليل الوزير أبو جهاد مع كمال عدوان، وكلاهما من الإخوان، في هذا الأمر، وكانت تربطهما صداقة بياسر عرفات الذي كان رئيس رابطة طلبة فلسطين، وقدم أبو جهاد مذكرة لهاني بسيسو، زعيم الجماعة في غزة، في صيف 1956 بعد انسحاب إسرائيل بنحو 4 أشهر، يقترح تأسيس حركة لا تحمل لونًا إسلاميًا في مظهرها، بل ترفع شعار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، لفتح الأبواب المغلقة بين الإخوان والجماهير، والتغلب على حصار عبد الناصر للحركة، لكن يبدو أن المذكرة تعرضت للإهمال ولم يتلق ردًا، فعاد إلى القاهرة ومضى مع رفاقه في تأسيس حركة فتح.
وأسهم إهمال الإخوان للعديد من كوادرهم المصنفين كـ«عناصر غير منضبطة تنظيميًا» في إتاحة المجال لحركة فتح في جذبهم، وكان «النظام الخاص» مَنجمًا وجدت فيه فتح كثير من الكفاءات المهملة من جانب الإخوان.
وفي عام 1958 سافر عرفات وأبو جهاد إلى الكويت للعمل، ومن هناك بدأوا في تجنيد الشباب الفلسطيني في حركة فتح، وفاتحوا العديد من كوادر الإخوان فوافقوا لكن الإخوان الفلسطينيين الوافدين إلى الكويت بعد ذلك كانوا يرفضون الانضمام إلى فتح، وبعد ذلك بدأت جماعة الإخوان تحذرهم من الحركة الناشئة واهتمت بتنظيم أوضاعهم.
ومثلت قطر حالة فريدة فقد تبوأ الفتحاويون فيها مناصب خاصة في وزارة التعليم، وتعاطف معهم الإخوان المصريون ولم يقتنعوا بقرار الإخوان الفلسطينيين التمايز عن فتح.
وفي لبنان أيضًا كان الوسط الإخواني محط عيون فتح، وكان عرفات يذهب بنفسه إلى هناك ويبيت في بيوت الإخوان، وكانت جمعية عباد الرحمن غطاء لعمل الإخوان، ونجحت فتح في ضم توفيق حوري، نائب أمين الجمعية وصهره، وأسهم في إصدار مجلة «فلسطيننا»، ووفر للحركة معسكر تدريب سري، وهو الذي صاغ البيان الأول لانطلاقة الحركة مطلع 1965، وحينها أضاف عرفات للبيان جملة متعلقة بأحرار وشرفاء العالم.
وفي سوريا نشط هاني الحسن في الإخوان ثم غادرها إلى فتح وعندما سافر إلى ألمانيا نشط في الوسط الطلابي الفلسطيني أواخر الخمسينيات ووضع قاعدة لانتشار الحركة في أوروبا.
وبصفة عامة حرص الفتحاويون الأوائل على التواصل مع القواعد والقيادات الإخوانية والاستفادة من دعمها في البدايات، ونشأت الحركة في حاضنة إخوانية حتى أن انضمام فاروق قدومي المعروف بخلفيته البعثية كان مثار جدل كبير لمخالفته للجو العام آنذاك.
وفي غزة كان صلاح خلف أبو إياد يحاول تجنيد شباب التنظيم الخاص، حيث عمل مدرسًا في مدرسة قرب مخيم النصيرات قبل أن يسافر للكويت عام 1960، وانضم لفتح شباب بارزون في إخوان غزة مثل فتحي البلعاوي وأسعد الصفطاوي وسليم الزعنون وهاشم الخزندار وعبد الله صيام ورياض الزعنون ومحمد يوسف النجار.
وفي الأردن والضفة الغربية انضم عدد من الإخوان لفتح في ظل ضبابية المشهد، وحين كانوا يسألون الفتحاويين الأوائل عن علاقتهم بالجماعة كانوا يجيبون إجابات مختلفة من قبيل إن العلاقة ممتازة، أو أن الجماعة لا تريد الدخول في هذا الميدان، وهكذا، وساعدهم كامل الشريف بعلاقاته ونفوذه، وحضر المؤتمر التأسيسي في الكويت عام 1962 وكان حينها سفيرًا للأردن في نيجيريا.
وانعقدت مفاوضات بين فتح وقيادة الإخوان الفلسطينيين في غزة، فطلبوا من الحركة الناشئة 3 شروط هي الالتزام بخط الإسلام دون إعلان، وعدم السير في ركاب أي نظام حاكم أو حزب قائم، وأن يكون ثلاثة أعضاء من خمسة أعضاء اللجنة المركزية لفتح من الإخوان، فردت الحركة بأن هذه الشروط متحققة بالفعل، فاشترط الإخوان في غزة أن يختاروا هم هؤلاء الثلاثة، فرفضت فتح وانتهى الأمر للمفاصلة، وصار تقييم هذا القرار محل جدل وخلافات بين الإخوان، وإن كانت الجماعة شاركت في المقاومة المسلحة تحت غطاء فتح ما بين عامي 1968 و1970 فيما عُرف بـ«معسكرات الشيوخ».
وبصفة عامة فإن حركة فتح أخذت الراية من الإخوان الفلسطينيين وتصدرت واجهة المقاومة الفلسطينية وصار دور الإخوان أثرا بعد عين إلى أن استعادت حركة حماس ذلك الزخم لاحقًا بعد عقود وأضحت اليوم في مقدمة مسيرة النضال الفلسطيني.
ورغم الجهد الهائل المبذول في إخراج هذا العمل وتوثيق العديد من الشهادات الشفوية لأحداث لم تنل حظها من التوثيق، ومثابرة الكاتب في مقارنة الروايات ببعضها وعرضها على الوثائق والكتابات التاريخية لبيان مدى اختلافها أو توافقها معها، فإن الكتاب ينحاز بشكل واضح إلى الرؤى الإخوانية ولا يكتفي بالتوثيق بل تبرير قرارات الجماعة معللًا ذلك بمحاولة أصحاب الاتجاهات الآخرى الحط من دورها وإثارة الشبهات حول توجهاتها وقراراتها.
ولا يمكن اعتبار الكتاب رواية لمسيرة النضال الفلسطيني بل محاولة لإبراز الجانب الإخواني فيه وتسليط الأضواء على أبعاده وتفاصيله بعدما ذهبت دواعي إخفاء بعض المعلومات في أزمنة سابقة، ويحمل الكتاب أحكامًا قيمية كثيرة ودروسًا رآها الكاتب مستفادة من أحداث هذا التاريخ، دون أن يعطي مساحة معقولة للكتابات المنتقدة للجماعة وسلوكها في مراحلها المختلفة، فهذا مما لم يهدف الكتاب إلى تحقيقه، بل عمل على إعادة تكرار شرح مبررات قرارات الإخوان من جديد كلما تجدد ذكر الوقائع الخلافية التي كثر حولها الجدل.