قراءة في مفهوم الحاكمية عند «سيد قطب»
بالرغم من مرور ما يقرب من نصف قرن على وفاة الأستاذ «سيد قطب»، إلا أن ذكره ما زال يتردد -بالتزامن مع فعاليات الحركات الأصولية الإسلامية المعاصرة لا سيما الراديكالية منها-، وتتعدد وجهات النظر بين من يراه يمثل «الإسلام الحقيقي» وبين من يعتب عليه مثاليته الزائدة في التنظير دون النظر لواقع الحال، ومنهم من يراه مفكرًا ثوريًا لم ينهزم نفسيًا أمام ثورة الحداثة، ومنهم من يراه هو المسؤول الأول والأوحد عن تعانف بعض الحركات الإسلامية، بل إن حركة الإخوان نفسها – التي انتمى إليها قطب في أواخر حياته- انقسمت بشأنه، فمنهم من يؤيد طرحه تأييدًا تامًا، ومنهم من يضاده في كل أو جلّ ما ذهب إليه. وقد اشتهر عن المرشد الأسبق حسن الهضيبي تصنيفه لكتاب «دعاة لا قضاة» كطرح تقويمي لما قدمه صاحب الظلال.
سوف أتناول في هذا المقال رؤيتي الذاتية لما قدمه سيد قطب في مفهوم «الحاكمية» دون الاستعانة بمراجع أو مؤلفات تتحدث عنه، بل سأدعه هو يتحدث وأنا أسمع، وفي الأخير سأقدم ما فهمته عنه دون وسيط.
«الحاكمية» ركيزة أصولية حركية
لو تحدثنا عن الأصولية الإسلامية الحركية نستطيع القول بإنها تقف على دعامتين أو ركيزتين رئيستين:
1. الحاكمية: وهي تعني أن الله هو الحاكم الأوحد ذو السلطة المطلقة، وهذه الحاكمية نابعة من أنه الخالق للكون وللإنسان وأنه مستحق للعبادة والطاعة من هذه الزاوية. بل إن الطاعة حق ينفرد به الخالق حصريًا، ومن ثم يمنحه لمن شاء بالحدود التي يشاء، فالنبي والحاكم والأب والزوج طاعتهم ممنوحة ومشروطة. وقد أمر الله أن يتحاكم المجتمع إلى شريعته التي تصلح لكل زمان ومكان، وهي تملك الصلاحية الكافية لتقويم وصلاح ونفع أي مجتمع بإشاعة العدل والنفع والخير والبعد عن الأهواء البشرية.
2. التمكين: والمعنى تحصيل القوة اللازمة لتقويم المجتمعات وحملها على التحاكم إلى شريعة الله، وفي هذا يقول صاحب الظلال «إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه أيضًا، وهي من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه- وربوبيته للعالمين. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور؛ ذلك أن الحكم الذي مرّد الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض». [ظلال القرآن ص 1433]
في هذا النص الخطير يعلنها قطب صراحة أن مملكة الله على النقيض من مملكة الإنسان، فاذا قامت إحداهما انتهت الأخرى في شكل معادلة صفرية (ألا يذكر هذا بطرح أوغسطين في كتابه مدينة الله وإن على نحو مختلف؟!)؛ بالتالي: الأمر ليس دعويًا بقدر ما هو أمر ثوري جهادي.
في هذا المقال سنركز على الركيزة الأولى «الحاكمية»، التي تُعدُّ بمثابة الغاية بإزاء التمكين كوسيلة.
الذين سبَقوا «سيد قطب»
ليست الحاكمية من إبداعات سيد قطب الحصرية؛ فكتب أصول الفقه السنية التراثية تجعلها مبحثًا رئيسًا ضمن مباحث «الحكم الشرعي» والحاكم هو الله باتفاق. ومن ضمن إطار الحاكمية أن لكل فعل إنساني حكمًا شرعيًا يدور بين الأحكام الخمسة المشهورة (الوجوب- الندب- الإباحة- الكراهة- التحريم)؛ وبالتالي فإن لكل فعل حكمه، وإلا نكون قد جوّزنا أن الإنسان قد يُترك سدى (لا يؤمر ولا ينهى) كما نقل عن الإمام الشافعي. ويتفرع من هذا التنظير امتناع الإنسان عن “الحكم” إلا بسند شرعي (نص أو حمل على نص كالقياس ونحوه)، بل وعندما اعتبر الأحناف والمالكية أصل الاستحسان – وهو من أغمض المباحث الخلافية-، قال عنهم الشافعي «من استحسن فقد شرّع»، وقال عن الاستحسان ذاته إنه «تشهٍ وقولٌ بالهوى».
ومن المعروف تاريخيًا أن عبارة (لا حكم إلا لله) قالها المُحكّمة الأوائل – المعروفون تراثيًا بالخوارج-، وقد أجابهم الإمام علي بمقالته «كلمة حق يراد بها باطل»، فالعبارة ذاتها لم تمثل إشكالًا للإمام، وإنما الإشكال في الموقف الذي قيلت فيه عندما رفضت المحكمة التحكيم بين جيشي علي ومعاوية أثناء صفين وقد ناقشهم ابن عباس – على ما نقل لنا- في كيفية تبيان حكم الله، وأن الكتاب لا ينطق وإنما ينطق به الرجال، فيستحيل – عمليًا- الحكم والتنفيذ دون إقحام العامل البشري، ولكن حدود العامل البشري تتمثل في فهم مراد الله والحكم به وليس بآرائهم الشخصية.
بل وقد سبقه الشيخ الباكستاني «أبو الأعلى المودودي» في التنظير للحاكمية إبان إنشائه للجماعة الإسلامية.
يتجلى رأي قطب في الحاكمية في تفسيره لآية «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما» [النساء: 65].
فيقول في تفسيرها «ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام، يقرره الله سبحانه بنفسه ويقسم عليه بذاته فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وهي أن هذا القول مرهون بزمان وموقوف على طائفة من الناس، وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئًا ولا يفقه من التعبير القرآني قليلًا ولا كثيرًا، فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد، وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو تحكيم شخصه، إنما هو تحكيم لشريعته ومنهجه، وإلا لم يبقَ لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته، وذلك قول أشد المرتدين ارتدادًا على عهد أبي بكر – رضي الله عنه-، وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين، بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير، وهو مجرد عدم الطاعة لله ولرسوله في حكم الزكاة، وعدم قبول حكم رسول الله فيها بعد الوفاة. وإذا كان يكفي لإثبات (الإسلام) أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله، فإنه لا يكفي في (الإيمان) هذا ما لم يصحبه الرضا النفسي والقبول القلبي وإسلام القلب والجنان في اطمئنان، هذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان، فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان» [في ظلال القرآن، ص: 696-697، طبعة دار الشروق].
في رَحِم الموروث: من التشريع إلى العقيدة
المبدأ السابق ذاته، يقرره قطب في آية المائدة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
فيقول «والعلة هي التي أسلفنا، هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله إنما يرفض ألوهية الله، فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية ومن يحكم بغير ما أنزل الله يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدّعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر. وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟، وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان والعمل – وهو أقوى تعبيرًا من الكلام- ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟» [نفس المرجع ص 898].
ويقول «والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه، وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل. وليست تعني قومًا جددًا ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى، إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل ومن أي قبيل. الكفر برفض ألوهية الله ممثلًا هذا في رفض شريعته والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه، فهي صفات يتضمنها الفعل الأول وتنطبق جميعها على الفاعل ويبوء بها جميعًا دون تفريق» [نفس المرجع، ص: 901].
يذكرنا النص الأخير بالمفهوم الذي قرره ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب من بعده في قسمة التوحيد لقسمين (توحيد ربوبية – توحيد ألوهية) فتوحيد الربوبية – بالمعنى التيمي- هو الإقرار لله بالخلق والرزق ونحوهما. أما توحيد الألوهية فإفراد الله وحده بالعبادة والطاعة دون شركاء أو أنداد أو حتى وسطاء. واستدل ابن تيمية بأن كفار قريش كانوا يقرون لله بالخلق (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)، ولكنهم كانوا يقحمون وسطاء ليقربوهم من الله زلفى. وبما أن النص القرآني كفّرهم باتخاذهم الوسطاء، فالتوحيد، إذن، لا يكتمل إلا بنفي الطاعة والعبادة عما سوى الله.
أما نص قطب السابق فإنه يرفع الشريعة لمرتبة العقيدة، ويعتبر أي قانون إنساني (وضعي) محاولة لتأليه البشر يجب أن تجابه بكل صرامة حتى يتم توحيد الله (ربوبية + ألوهية)، فمن انفرد بالخلق ينفرد كذا بالأمر.
قد نجد جذورًا لهذا المفهوم في العقيدة السنية أيضًا كما وجدنا له جذورًا في الفقه التيمي، فأهل السنة (أو الأشاعرة تحديدًا) يقولون بالحسن والقبح الشرعيين، فلا تتمايز الأفعال إلى خير وشر بذواتها وإنما باختيار الله لها، فبالتالي من يحكم أفعالنا هو النص حصرًا، وليس للعقل مدخل في معرفة الحسن والقبح، وفي هذا الموقف يتم نفي العقل البشري كليًا وتحكيم النص الإلهي حصريًا.
لا نزعم أن قطب يقر بعقيدة (التحسين والتقبيح الشرعيين) كما هي، وإنما نبحث عن جذور فكرة الحاكمية في التراث السني ونزعم أنها لم تخلق عند قطب من فراغ وإنما نمت عنده كبذرة كامنة في الموروث.
كشفنا في هذا المقال عن الركيزتين اللتين ترتكز عليهما الأصولية الإسلامية (الحاكمية – التمكين)، وأن أولاهما غاية والأخرى وسيلة، وحاولنا تبيان الغاية بقدر الطاقة في مساحة محدودة، وكشفنا كذا عن (بعض) الجذور التراثية التي مهدت لتلك الغاية وأكسبتها المشروعية.
وبناء على ما سبق، يحق لنا التساؤل: هل اختلاف المختلفين مع قطب – من علماء الإسلام- هو اختلاف في الغاية أم في الوسيلة وما يلابسها من عنف وتكفير؟، وهل لهذه الغاية من وسائل أخرى تنسجم مع الواقع المعاش (الدعوة مثلا)؟، وهل هذه الغاية وما يلابسها من وضع العقل الإنساني والخبرة البشرية بإزاء إرادة الإله تؤول إلى صلاح المجتمع؟.
وبالأخير: هل يتحمل قطب مسئولية العنف والتكفير وحده ونغض الطرف عن الجذور الحقيقية للأزمة؟.