قراءة في الانتخابات التركية وأثرها على تركيا والمنطقة
بدأ البارحة توافد الدبلوماسيين الأتراك المرافقين لصناديق الاقتراع المخصصة للأتراك المقيمن بالخارج ، حيث أدلى قرابةالمليون مواطن تركي بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها في الداخل التركي يوم السابع من يونيو الجاري. و بجانب الدبلوماسيين يرافق صناديق الاقتراع عدد من ممثلي الأحزاب ومسؤولي اللجنة العليا للانتخابات. ستظل هذه الصناديق مغلقة بمعية لجنة الانتخابات حتى تفتح لفرزها مع انتهاء التصويت عشية يوم السابع من يونيو.
هذه المشاركة الكبيرة -وربما الغير مسبوقة- من أتراك المهجر في هذه الانتخابات تأتي في ظل الأهمية الكبيرة التي تحوزها الانتخابات القائمة وما ستمثله نتائجها من أثر بالغ على تشكيل مستقبل تركيا.
استطلاعات الرأي
تدور نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة -التي أجرتها شركات ومراكز الأبحاث في الداخل التركي- لأهم الأحزاب المشاركة في الانتخابات حول النسب التالية:
حزب العدالة والتنمية 42-47%
حزب الشعب الجمهوري 25-27%
حزب الحركة القومية 14-16%
حزب الشعوب الديمقراطي 8-12%
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول:
أن يحصل العدالة والتنمية على أغلبية تؤهله لتشكيل الحكومة منفردا للفترة الرابعة على التوالي:
يتطلب ذلك السيناريو حدوث أحد احتمالين:الأول عدم نجاح حزب الشعوب الديمقراطي -ذو الخلفية الكردية- في تجاوز العتبة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان (10% من إجمالي الأصوات) مما يعني أن الأصوات التي حصل عليها حزب الشعوب سيتم إعادة توزيعها على الحزب الفائز التالي له في الشعبية في المناطق الكردية والذي هو العدالة والتنمية؛ الأمر الذي قد يمنح العدالة والتنمية نسبة تتجاوز 60% من مقاعد البرلمان ما يؤهله إلى إعادة كتابة الدستور منفردا وطرحه للاستفتاء الشعبي.
أما الاحتمال الثاني فأن يتمكن حزب الشعوب من تجاوز العتبة الانتخابية لكن شريطة أن يحصل العدالة والتنمية على نسبة عالية تقارب الـ 50%من مجموع أصوات الناخبين.
السيناريو الثاني.. الحكومات الائتلافية:
الائتلافات الممكنة لتشكيل الحكومة:
(1) العدالة والتنمية والحركة القومية: سيستلزم قيام مثل هذا الائتلاف أن يضحي العدالة والتنمية بهدف التحول إلى النظام الرئاسي -الذي وضعه في أولويات تصوره لـ”تركيا الجديدة”- بالإضافة إلى تراجع ملف عملية السلام القائمة مع الأكراد نظرا لموقف الحركة القومية المتشدد تجاه المسألتين.
(2) الشعب الجمهوري والحركة القومية: يستلزم تحقيق هذا الائتلاف الحكومي أن يحصل الحزبان على ما يفوق مجموعه محصلة الأصوات التي حصل عليها العدالة والتنمية وأن ينضم حزب الشعوب الديمقراطي لهذا الائتلاف أو يصوت على الأقل بمنحه الثقة نكاية في العدالة والتنمية. ولكن على الرغم من أن لا شيء اليوم مستحيل، إلا أنه يصعب تصور قيام تحالف برلماني كهذا يضم معا -إلى جانب حزب الشعب الجمهوري- كلا من حزب الحركة القومية -المتعصب للقومية التركية والمعارض لعملية السلام مع الأكراد- مع حزب الشعوب الديمقراطي ذو الخلفية الكردية.
(3) العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي: من الصعب أيضا إنشاء مثل هذا التحالف لاسيما في ظل التصعيد الحاد ولغة العداء والاتهامات المتبادلة بين الحزبين.
السيناريو الثالث:
فشل الأحزاب في التوافق على تشكيل حكومة/ ائتلاف حكومي -نظرا للتباين الكبير بين أجندة كل حزب في القضايا الحساسة- أو تشكيل ائتلاف ضعيف سرعان ما ينهار مما يقود البلاد في المحصلة إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة بما يستتبعه ذلك من عدم استقرار اقتصادي وسياسي، المواطن التركي في غنى عنه.
القضايا الشائكة التي تحسمها نتائج الانتخابات
(1) عملية “المصالحة الوطنية” مع الأكراد:
في حالة نجح حزب الشعوب في تجاوز العتبة الانتخابية فسيعد بهذا الرابح الأكبر من هذه الانتخابات إذ سيحصل على عدد من المقاعد يبلغ ضعف عدد النواب الأكراد الموجودين حاليا بالبرلمان مما سيقوي موقف الحزب ويعيد تشكيل الأسس والشروط التي تسير عليها المفاوضات مع الحكومة التركية.
على الصعيد نفسه، فقد هدد رئيس الحزب صلاح ديمرطاش في أكثر من خطاب جماهيري بأنه إن فشل حزبه في الوصول إلى البرلمان فـ”سينزل الحزب إلى الشوارع” -وذلك بالتزامن مع إحياء ذكرى مظاهرات ميدان تقسيم الذي وصفه ديمرطاش بأنه “مكان مقدس كالكعبة”- وسيقوم بإنشاء برلمان شعبي خاص بالأكراد في ديار بكر، مما يعني تعطيل مفاوضات عملية السلام وإعادة البلاد إلى دائرة العنف.
(صلاح ديمرطاش رئيس حزب الشعوب الكردي)
هذا “الابتزاز السياسي” استدعى من أردوغان أن يخرج في خطاب موجه إلى الناخبين الأكراد بصفة خاصة داعيا إياهم للإدلاء بأصواتهم “للحزب الذي ترونه مناسبا ويقابل تطلعاتكم” مؤكدا على أن حزب الشعوب في حال خسارته “لن يقدروا على فعل أي شيء” وأنه “لن تتأثر عملية المصالحة الوطنية في البلاد أيا كانت نتائج الانتخابات البرلمانية. فإننا لم نبدأ مفاوضات عملية المصالحة مع حزب الشعوب الديمقراطي، ومن الطبيعي ألاننهيها معهم“.
الأمر الجدير بالذكر أيضا أن حزب الحركة القومية يتبنى موقفا متشددا تجاه مفاوضات السلام القائمة حاليا مع الأكراد مما يعني أن دخوله في أي ائتلاف حكومي سيؤدي إلى تباطؤ عملية “المصالحة الوطنية” إن لم يكن توقفها تماما.
(2) اللاجئون السوريون:
صرحت قيادات حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية في مختلف المجمعات الانتخابية عن اعتزامها إخراج اللاجئين السوريين من تركيا و”إعادتهم إلى بلادهم”.
بإمكاننا عزو هذا الموقف إلى عدة عوامل منها محاولة الاستفادة من الأصوات المتذمرة في تركيا من اللاجئين والعبء الذي يلقونه على الاقتصاد التركي، وأيضا بالطبع إلى خلفية كل حزب إذ يترأس حزب الشعب الجمهوري العلوي كمال كليتشدار أوغلو صاحب العلاقة الجيدة بنظام بشار الأسد، بينما يستبطن حزب الحركة القومية تعصبا للقومية التركية يظهر بوضوح في اسم الحزب نفسه. إلا أن هناك جانبا آخر لهذه القضية يكمن في الخوف من تطبيق قوانين الجنسية التركية على اللاجئين السوريين الذين أمضوا في أراضي تركيا الفترة اللازمة للحصول على الجنسية -الأمر الذي أشار إلى احتماليته بعض الكتاب المقربين من الحزب الحاكم- مما سيغير من توازنات الثقل الانتخابي لصالح حزب العدالة والتنمية.
وتتجلى معارضة الحزبين في تنديدهم المتكرر ببرامج التأهيل والإدماج التي يشرف عليها العدالة والتنمية لإعادة تأهيل اللاجئين السوريين ضمن مجتمع العمل التركي وتشمل تدريس اللغة التركية والتأهيل الحرفي ومنح الدراسة في الجامعات التركية.
وعلى العكس من حزبي الشعب والحركة القومية فإن حزب الشعوب يتفق في هذه النقطة مع الحزب الحاكم ويعود ذلك إلى أن نسبة لا بأس بها من اللاجئين السوريين في تركيا هم من الأكراد؛ الأمر الذي سيزيد من القبول الاجتماعي والثقل الانتخابي لحزب الشعوب الديمقراطي أيضا.
(3) الوضع في منطقة الشرق الأوسط:
هدأت في الأيام الأخيرة الاتصالات الدبلوماسية السعودية التركية والتي كانت قد شهدت ازدهارا كبيرا في ظل النظام السعودي الجديد بقيادة الملك سلمان. هذا الهدوء لا يعود إلى انشغال السياسيين الأتراك بالأيام الأخيرة قبيل الانتخابات فحسب؛ بل هو أيضا ترقب من النظام السعودي وبقية أنظمة المنطقة والعالم لما ستسفر عنه نتيجة الانتخابات التي قد تعزز من الحزب الحاكم مفسحة المجال لداود أوغلو ليواصل مسيرة “العمق الاستراتيجي”، متوجا إياها بلعب دور أساسي في تشكيل “سوريا ما بعد الأسد” ورسم صورة جديدة للمنطقة وتحالفاتها، أو أن تعود بتركيا مرة أخرى إلى سياسة الانكفاء على الذات في خطوة سيكون الرابح الأكبر منها هو النظام الإيراني.
(4) الدستور والنظام الرئاسي:
على الرغم من أن هناك إجماع بين الأحزاب الكبرى على ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد إلا أن تصور أي من تلك الأحزاب لا يتطابق بحال مع تصورات الأحزاب الأخرى. فبالنسبة للقضية الأكثر إثارة للجدل، قضية النظام الرئاسي، يرى حزب العدالة والتنمية أنه ركن أساسي في إصلاح منظومة إدارة الدولة الحالية للوصول إلى هدف “تركيا الجديدة 2023”.
في المقابل أعلنت أحزاب المعارضة رفضها التام للتحول للنظام الرئاسي ، بل إن حزب الشعوب الديمقراطي اعتمد في دعايته الانتخابية بوضوح على أن تجاوزه حاجز الـ 10% سيحول دون نجاح العدالة والتنمية في تعديل الدستور وتحويل البلاد للنظام الرئاسي؛ الحقيقة التي دفعت أردوغان للقيام بنفسه بتنظيم جدول زيارات موسع لمختلف المدن التركية موجها عددا من الخطابات أمام حشود جماهيرية كبيرة -كان من أبرزها خطابه بجوار داود أوغلو في احتفالات ذكرى فتح اسطنبول التي عقدت بميدان يني كابي وحضرها قرابة المليون مواطن- في صورة مطابقة لما كان يقوم به إبان رئاسته للعدالة والتنمية داعيا الجماهير للتصويت لصالح “تركيا الجديدة” وعدم العودة بالبلاد إلى عصور الائتلافات الحكومية الهشة والأزمات الاقتصادية المتتالية وعدم الاستقرار والعنف.
تحول البلاد لنظام رئاسي يعزز من إدارة أردوغان.. زعامة داود أوغلو للحزب واستمراره في رئاسة الحكومة.. وحدة وتماسك حزب العدالة والتنمية في ظل عدم ترشح عدد من كبار قياداته لفترة برلمانية أخرى.. مستقبل عملية السلام مع الأكراد وإلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح بصورة نهائية.. مستقبل صلاح ديمرطاش السياسي ومصير عبد الله أوجلان.. مستقبل تركيا والمنطقة بأسرها..
كلها أسئلة ستجد إجاباتها عشية السابع من يونيو.
اقرأ المزيد:تأثير الانتخابات التركية على العلاقة مع الكيان الصهيونيهل تؤثر الانتخابات البرلمانية علي الدور التركى في سوريا؟