جذوة الصلب والترائب: قراءة في شعر الأنوثة عند جيهان بركات
شاعرة تلعب بالحروف، تغازلها، تقتات من دلالاتها المتباينة، تعزف بها ألحانا عذبة، وقصائد شعر مخاتلة، لا تروم الوصول إلى حرفانية الصوفية، وتعميتهم، بقدر ما تميل إلى المغازلة والمقاربة من عالم الحرف الثر اللطيف، تتعامل الشاعرة جيهان بركات مع الحرف باعتباره عالما من الأسرار والرموز، تصل من خلاله إلى تماسك نصها الشعري بدءًا من العنوان حتى آخر كلمة، في انسجام وترابط بعناصره الفنية الأخرى.
قرأت ديوان جذوة الصلب والترائب للشاعرة جيهان بركات، ولمست فيه قدرة كبيرة على التكثيف والإيجاز، والولع بالحرف في هيئة ودلالته، حتى احتل مكانة كبيرة في العناوين، والقصيدة التي معنا هي إحدى قصائد الديوان شغفًا بالحرف، واتكاء عليه. بنت الشاعرة قصيدتها على حرف الشين، وأعطت له دلالة خاصة به، بناء على حالتها ومكونها الثقافي والفكري، وحرف الشين منه يكون: الشوق، الشجن، الشر، الشك، الشلل، الشعر، الشبق، الشوك،… وهو من الحروف غير النورانية، فهو يتضمن معاني العذاب والقلق والشجن، وكلها معان مقصودة من الشاعرة فليس خفيا عليها ولا على المتلقي المعاناة التي تمور في وجدانها جراء الغياب لحروف البهجة والحبور والنور، فهي تفتقد كثيرا من هذه المعاني، ومن ثم راحت تنشدها في الغياب، وتتوق إليها كلما عنّ لها ذلك.
كرست الشاعرة طاقتها الفنية للتكثيف والتركيز، وعدم الإطالة، بغية إنشاء نص محكم، منسجم دلاليا وفنيا مع معطيات التكوين النفسي للتجربة، فعلى الرغم من قصر النص نسبيا فإن الشاعرة منحته أبعادا كثيرة قابلة للتأويل، «فأي قراءة إلى يومنا هذا يجوز لها أن تند عن الخضوع لسلطان التأويل، وإلا فلا كانت قراءة.. »(). فغياب الشوق، والحب ما هو إلا غياب للقيم والأخلاق التي غابت عن المجتمع المصري بأسره، حتى بات في عراء وخواء منها، وهي ما تزال منتظرة عودة هذه القيم والمثل، انتظارا لمحبوب طال غيابه، كم تزينت وتهيأت في انتظار أوبة الفارس المظفر. كأنها روح أنثوية تبحث عن معشوقها في قبر!
أخلصت الشاعرة جيهان بركات للحرف والكلمة والصورة والموسيقى، وأدركت أهمية كل العناصر الفنية المؤسسة للشعرية باعتبار قصيدتها قصيدة حديثة فعليا، وفي الحداثة «لا بد للكلمة من أن تعلو على ذاتها، أن تزخر بأكثر مما تعد به وأن تشير أكثر مما تقول، فليست الكلمة في الشعر تقديما دقيقا أو عرضا محكما لفكرة أو موضوع ما، ولكنها رحم لخصب جديد»، وبما أن النص قابل للتأويل فإن الخاصية القصدية هنا ليست إجبارية، بل لها أن تتنوع وتتعدد وفقا لحمولة النص، فالنص رغم قصره نسبيا فإنه مكتظ بالأفكار التي تحتمل التأويل، فالحبيب يمكن أن يكون حبيبا حقيقيا، وعندئذ تتوازى التأويلات ولا تتقاطع ولا تتماس. «فليس للنص معنى مفرد وإنما هو يفصل المتلاحم ويجمع المتباعد وهو على وجه التدقيق يشكل النص في فضائه لا في خطيته»().
في النص إشارات ومتعاليات نصية توحي بأكثر مما هو مخطوط، فالنص أنثوي من داخله وخارجه، أنثوي في إشاراته وتلميحاته، أنثوي في جمرته المتقدة نحو المحب، أنثوي في وصف أدوات الزينة الأنثوية، أنثوي في فحواه ومغزاه، في شكله وجوهره. وعندما نقول إن النص أنثوي فإنه يُعنَى بقضايا النساء في المقام الأول، ولذا برز النوع الشعري وطفا على السطح بشكل لافت، من خلال تعشيب النص بعبارات وألفاظ وصور متقدة تنم عن جمرات تحت الرماد، فإذا نبشنا عنها اشتعلت وتوهجت فكلمة (الشبق) في النص جمرة، وإشارة، وكلمة (سر) جمرة وإشارة، وكلمة (تراودني) جمرة وإشارة، وكذلك (لثم الخد)، و(تعتق الشوق).
ولعلنا نلحظ شاعرية متدفقة في بداية النص في استخدامها نسقا غير تقليدي ساعد في خلق الشاعرية وتجليها، وهذا النمط مستقى من المستوى النحوي لترتيب الجملة، فالترتيب المنطقي للجملة من الفعل والفاعل والمفعول يقلل من شعرية الأبيات، بينما انزياح الشاعرة للترتيب المنطقي في السطرين الأولين، وجنوحها إلى التقديم والتأخير وانحراف ترتيب الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، أدى إلى خلق شعرية بشكل لافت عما انتظمت به في باقي الأسطر.
ومن ثم يكون المستوى النحوي للأسطر ساهم في شعرية النص. واستكمالا لهذا المستوى ننظر في شعرية الأفعال بأزمانها المختلفة نجد أن المضارع يحتل بؤرة المركز الزماني ومن ثم مركز الشاعرية، حيث ورد ثماني مرات (أنتظر- يحيط- أنزع- أحس- تراودني- تسقط-تأبه- تلثم) ومع اعتماد الشاعرة على المضارع فإنه لم يدل على الحاضر أو المستقبل لا القريب ولا البعيد بقدر ما دل على الماضي بأحداثه حيث أصبح حلما وأمنيات متفرقة للحضور واللقاء.
ويشير هذا المستوى النحوي إلى زاوية أخرى، هي استخدام الضمائر بأنواعها المتعددة، لكنها تستقطب ضمير المتكلم بنسبة أكبر من ضمير الغائب والمخاطب، وتتضافر ضمائر المتكلم مع ضمير المخاطب بصورة لافتة وموحية بجدلية ضميرية تمثل بؤرة أخرى للشعرية المتدفقة في الأبيات، فالضمائر عصب النص، ومحورها الأساس، ترتكز عليها الشاعرة جيهان بركات بغية خلق شعرية جديدة عمادها الرئيس هو الضمير وتشير هذه الضفيرة المتجادلة بين ضمير المتكلم والمخاطب من أول النص إلى آخره لتلقي الضوء على أثر الغياب في النفس، وما عساه أن ينتج جراء شعرية الغياب والحضور في النص.
واستنادا إلى ما سبق فإن البنية الكبرى في النص تتمثل في الغياب والحضور، غياب مضامين حرف الشين من شوق وشبق وشعر وشقاء نظرا لغياب المحبوب، وتتحول هذه الشقاوات إلى أمنيات وأمان متفرقة للحضور .