الراسبوتيتسا: هل تغوص روسيا في الوحل الأوكراني؟
نحن الآن في ربيع عام 1242م. بعد ما يقارب 7 سنواتٍ من الغزوات المغولية الكاسحة التي اجتاحت أوروبا الشرقية بعدما انساب عشرات الآلاف من فرسان المغول عبر السهل الأوراسي العظيم، وتمكنُّوا من احتلال العاصمة الأوكرانية الحالية كييف عام 1240م، وهيمنوا على معظم أرجاء روسيا الغربية وأوكرانيا وبولندا ورومانيا والمجر، لا سيَّما بعد الانتصارين الكاسحين على القوى الأوروبية في أبريل من عام 1241م في موقعتي لغنيتسا وموهي، وأصبحت أعين المغول مصوَّبة نحو فيينا، عاصمة النمسا، ومفتاح السيطرة على وسط القارة الأوروبية، لكن فجأة، انسحب المغول عائدين أدراجهم إلى أواسط آسيا، ومتخلين عن مغامرتهم الأوروبية الظافرة.
كان التفسير الأقوى حضورًا في المراجع التاريخية لهذا الانسحاب المغولي الصادم، هو وفاة الخان الأعظم المغولي أوغطاي خان بن جنكيزخان، وحاجة قادة الغزو في أوروبا، لا سيما أقواهم نفوذًا وطموحًا، باطو خان بن جوجي خان بن جنكيزخان، للعودة إلى معاقل المغول الآسيوية للاشتراك في تنصيب الخان الجديد الذي سيخلف أوغطاي. لكن كان هناك سبب آخر لا يقل قوة، إنه مستنقع الوحل الربيعي الذي غاصت فيه سنابك الخيول المغولية، وأصبح تحريك آلات الحصار الضخمة مهمة شبه مستحيلة.
في تلك الفترة، مرّ شرقي أوروبا بتغيراتٍ مناخية ساعدت الغزو المغولي بادئ ذي بدء، ثم خلقت له المصاعب. فبين أعوام 1238م و1241م، كان الجو أكثر جفافًا من المعتاد، مما ساعد أسراب المغول على الاجتياح السريع لمناطق عديدة، لا سيَّما الفرسان مطلقي السهام الذين كانوا عمود قوة الجيوش المغولية. ثم جاء شتاء 1241م شديد البرودة، فساعد تجمد الأنهار لا سيَّما نهر الدانوب، فرسان المغول على العبور، والتوغل في أعماق المجر وشمالي البلقان.
لكن في الربيع التالي من عام 1242م دفع المغول الثمن. فالجليد الكثيف بدأ في الذوبان، وأحال مناطق واسعة من شرقي أوروبا وأوكرانيا إلى مستنقعاتٍ طينية كثيفة، فتعذَّر استدعاء التعزيزات، وتوفير الإمدادات، كما أُحيطت الحصون الأوروبية الباقية بمساحات عازلة من الوحل الذي يُصعِّب كثيرًا أعمال الحصار، ففضل المغول الانسحاب قبل أن يحاصرهم الوحل بشكلٍ تام. واتخذ المغول في رحلة الانسحاب طريقًا أكثر جفافًا عبر صربيا فرومانيا فأوكرانيا ثم روسيا، يسمح لفرسانهم بالحركة بقدرٍ من الفاعلية.
والآن، بعد ما يقارب ثمانية قرونٍ من أحداث الغزو المغولي لشرقي آوروبا، يبدو أن الوحل الربيعي في شرقي القارة الأوروبية لا يزال يسهم في صناعة الأحداث، ويلعب دورًا من تغيير مجرى التاريخ.
هل يلحق بوتين بنابليون وهتلر؟
تلعب الظروف الطبيعية والمناخية أدوارًا جوهرية في حسم كثير من المعارك والملاحم العسكرية الكبرى، ويمتلئ تاريخ روسيا العسكري بنماذج عديدة لهذا الأمر، فقد لعب الشتاء دور البطولة في ملاحم عسكرية عديدة في التاريخ الروسي، لكن لعلَّ أشهرها تاريخيًا وأبرزها هو غزو نابليون بونابرت لروسيا عام 1812م، والغزو النازي لها عام 1941م. وفي الحالتين، لا مبالغة على الإطلاق في أن نقول إن الشتاء وأمطاره وثلوجه الذائبة وأوحاله أنقذت روسيا من الهزيمة والإذلال، وفي الحالتين أخطأت التقديرات العسكرية لخصوم روسيا.
في صيف عام 1812م، وتحديدًا يوم 24 يونيو، اقتحم نابليون روسيا بأكثر من 650 ألف مقاتل، في مواجهة ما يقارب مائتي ألف جندي روسي فحسب. كانت تقديرات نابليون أن العملية العسكرية ستستغرق 6 أسابيع على الأكثر، وبالتالي تنتهي في أغسطس، قبل بدء الشتاء الروسي الخطير، لكن كان للقادة العسكريين الروس رأي آخر، فقد انسحبوا سريعًا من أمام الجيوش النابليونية إلى أعماق الأراضي الروسية بعد أن أحرقوا القرى والمدن في طريق الغزو، حتى لا يستفيد منها قوات نابليون، وأدت سياسة الأرض المحروقة تلك إلى استنزاف الفرنسيين كثيرًا، والذين أصبحوا ينتظرون الإمدادات التي تصل إليهم من وسط أوروبا على مسافة مئات الكيلومترات، والتي أخذت مع حلول الخريف في التعطل كثيرًا عندما بدأ هطول الأمطار التي أحالت كثيرًا من الطرق إلى مستنقعاتٍ طينية.
وصل نابليون إلى العاصمة الروسية التاريخية موسكو – كانت العاصمة السياسية آنذاك هي سان بطرسبرج في أقصى الشمال- في سبتمبر 1812م، ليجدها شبه فارغة إلا من النيران التي تلتهم مخازنها ومنازلها. لسوء حظ نابليون، أتى شتاء روسيا القارص مبكرًا في هذا العام، وفقد عشرات الآلاف من جنود نابليون أرواحهم متجمدين، أو غارقين في الوحل الذي قطع عنهم الإمدادات، بينما أثخنت فيهم أعمال الكر والفر وحروب العصابات التي شنَّتها القوات الروسية.
شرعت قوات نابليون في الفرار من روسيا تجرّ أذيال الهزيمة والموت في شتاء 1812م، في واحدة من أسوأ عمليات الانسحاب العسكري في التاريخ. ومنح البطء الشديد لعملية الانسحاب عبر المستنقعات الطينية الفرصة كاملة للروس المتمرسّين في التعامل مع تلك الظروف، لإيقاع أكبر قدرٍ ممكن من الخسائر بالغزاة المندحرين. وكانت تلك الهزيمة القاسية في روسيا هي قاصمة الظهر لمجد نابليون العسكري وسيادته على أجزاء واسعة من أوروبا، ليُهزَم عام 1813م في لايبزيج، ثم 1815م في موقعة واترلو الفاصلة الشهيرة، ويُنفَى بعدها إلى جزيرة سانت هيلانة حيث لقي حتفه عام 1821م.
بعد نحو 130 عامًا، وفي نفس اليوم تقريبًا الذي بدأ فيه غزو نابليون لروسيا، بدأت قوات ألمانيا النازية بأوامر أدولف هتلر في الثاني والعشرين من يونيو عام 1941م هجومًا كاسحًا من ثلاثة محاور ضد الاتحاد السوفيتي. كان هتلر واعيًا لخطورة الشتاء الروسي وأوحاله، وكانت خطته الأصلية تقضي ببدء الغزو في منتصف الربيع بعد أن يسحب الشتاء أذياله بشكلٍ تام، لكنه أضاع فرصة الربيع لحسم الوضع العسكري في صربيا، وسيكون ثمن هذا التأخير في غزو روسيا لشهر أو أكثر، باهظًا فوق ما كان يتخيل أشد المتشائمين في معسكر هتلر.
بالكاد كانت شهور الصيف الثلاثة كافية للنازيين لاحتلال بولندا الشرقية وبيلاروسيا وأوكرانيا، والتوغل في شمالي القوقاز جنوبًا، والاختراق شمالًا لفرض الحصار على سان بطرسبرغ التي كانت تحمل آنذاك اسم لينينجراد. بدأ الهجوم الألماني الأهم في روسيا في السابع من أكتوبر 1941م، عندما أعطى هتلر إشارة البدء في عملية تايفون العسكرية الهادفة لاحتلال العاصمة الروسية موسكو. رغم خسارة الروس للملايين من جنودهم في الصيف الصعب في مواجهة التفوق العسكري الألماني النوعي، فإنهم نجحوا في حشد مليون جندي وألف دبابة ومئات من قطع المدفعية للدفاع عن موسكو.
صمدت قوات الدفاع عن موسكو في الأسابيع الأولى، فامتد القتال إلى نوفمبر، حيث أحالت الأمطار الغزيرة الطرق والمُقتَرَبات إلى موسكو إلى مستنقعاتٍ من الوحل، وعلقت دبابات البانزر الألمانية في الطين، ولم يستفد الألمان من سرعتها وكفاءتها النيرانية، وأصبح وصول الإمدادات إلى القوات الروسية المتقدمة من العسير بمكان بعد أن استحالت الطرق إلى كمائن موحلة. وبدأ الروس في ديسمبر 1941م هجومهم المضاد ضد الألمان، ودفعوهم إلى الانسحاب بعيدًا عن موسكو.
ورغم معاودة الألمان الهجوم في الصيف التالي عام 1942م، فإنهم تعثَّروا هذه المرة جنوبًا أمام مدينة ستالينجراد الشهيرة، على ضفاف نهر الفولجا، ليحاصرهم فيها الشتاء بثلوجه بأوحاله، يبدأ الموقف العسكري في الحرب العالمية الثانية في الانقلاب ضد هتلر منذ ربيع عام 1943م، ويكون فشل غزوه لروسيا هو كلمة السر في هزيمة المشروع النازي بأكمله.
ورغم أن التاريخ يعيد نفسه، فإنه قد يخلط الأوراق ويقلب المواضع في تلك الإعادات، ولعل هذا ما نشاهده الآن في الغزو الروسي لأوكرانيا فبراير-مارس 2022م، والذي يبدو أنه قد يحمل لروسيا بعضًا من المرارة التي طالما ذاقها أعداؤها.
اقرأ: معركة كييف 1941م .. عندما فقد الروس نصف مليون جندي.
ربيع 2022م: روسيا في الوحل الأوكراني
في الرابع والعشرين من فبراير/شباط من عام 2022م، فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرين حول العالم باجتياح أوكرانيا. اقتحم أكثر من 150 ألف جندي وضابطٍ روسي الأراضي الأوكرانية من كافة الاتجاهات، تدعمهم آلاف مؤلفة من الدبابات والمدرعات والمدافع وراجمات الصواريخ مع تفوق جوي كبير. توقع البعض أن الفارق الكبير في الإمكانات البشرية والعسكرية بين الدولتيْن، إلى جانب عنصر المفاجأة، سيجعل الأمر أشبه بنزهةٍ عسكرية بالنسبة للروس، لكن بعد مضي أكثر من 3 أسابيع على بداية المعركة، اتضح مدى خطأ هذا التصور.
رغم كثافة الضربات الجوية والصاروخية الروسية للمواقع العسكرية والمدنية الأوكرانية على حد سواء، والتقدم الجزئي على الأرض، واحتلال بعض المدن الصغيرة مثل خيرسون الجنوبية، وإطباق الحصار على بعض المدن الإستراتيجية كماريوبول الساحلية (جنوب غربي أوكرانيا) وخاركيف (ثاني أكبر المدن الأوكرانية، الواقعة على بعد 30 كم فحسب من الحدود الشمالية الشرقية مع روسيا)، فإن كثافة المقاومة الأوكرانية، قد ألحقت بالقوات الروسية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، بعضها موثق بالصور والفيديوهات، بلغت وفق أوسط التقديرات الغربية حتى يوم 17 مارس 2022م ما يقارب 7 آلاف قتيل، بينما لم يُحدِّث الروس خسائرَهم البشرية بعد بيانٍ يوم 2 مارس والذي أعلن عن وجود 500 قتيل روسي في الأسبوع الأول.
وفي الأيام الأخيرة تكاثف في وسائل الإعلام الغربية مشاهد صادمة لعشرات الدبابات الروسية السليمة التي هجرتها طواقمها بعدما غاصت جنازيرها حتى النخاع في طبقاتٍ كثيفة من الطين، ومشاهد أخرى لأضعافِها من الدبابات والآليات المُدمَّرة بينما يبتلعها الوحل، ليبدو وكأن الدور قد جاء على روسيا لتُخطئ في الحسابات والتقديرات، وتذوق بعضًا مما أذاقته مرارًا وتكرارًا لغزاتها على مر القرون.
الراسبوتيتسا، وهي كلمة روسية، تمثل الاسم المحلي لموسم الوحل السنوي في شرقي القارة الأوروبية، والذي يأتي مع مطلع الربيع كل عام، عندما تبدأ طبقات الجليد في الذوبان، مختلطة بالأمطار الكثيفة، فتحيل مناطق واسعة إلى مستنقعاتٍ مفتوحة من الوحل، ويتعذر الحركة خارج طرق الأسفلتْ المُعبَّدة جيدًا.
في تقرير صدر عام 1985م عن الأحوال الداخلية في الاتحاد السوفيتي السابق، أشار الكاتب جون واينشتاين إلى أن موسم الراسبوتيتسا من أبرز التحديات الاقتصادية في الدولة، ويستدعي جهدًا كبيرًا وإنفاقًا واسعًا على شبكات الطرق الحديثة، والسكك الحديدية، وصيانتها بشكلٍ دوري، إذ تستحيل الحركة لأسابيع على الطرق غير الممهدة والترابية.
أدى تأخر الحسم الروسي للمعركة في أوكرانيا، إلى بدء موسم الراسبوتيتسا بينما لا تزال المعارك على أشدها، والقوات الروسية بحاجة لتحريك المئات من آلياتها ودباباتها في اتجاهات مختلفة، وكذلك الحفاظ على وصول قوافل الإمداد والذخائر من روسيا وبلاروسيا بشكلٍ يومي لدعم القوات المتوغلة في العمق الأوكراني.
في تحقيق صحفي مصوَّر نُشر يوم 18 مارس 2022م في «فايننشال تايمز» البريطانية، أشار الكاتب إلى مساهمة مهمة للوحل الأوكراني في تباين نتائج الغزو الروسي بين الجزءيْن الشمالي والجنوبي من الجبهة. ففي جنوبي أوكرانيا، لا تزال معظم الأراضي جافة، فسهَّلت تحرك الأرتال الروسية في اتجاهاتٍ مختلفة، وحقَّقت القوات الروسية تقدماتٍ أفضل كمًّا وكيفًا، بينما في الشمال، غاصت معظم القطع العسكرية الروسية في الطين بمجرد محاولتها القيام بالالتفاف خارج الطرق المُعبَّدة بالأسفلت.
والآن تجد قيادة القوات الروسية نفسها أمام اختيارين أحلاهما مر في التعامل مع موسم الوحل الصعب، إما الالتزام بالحركة على الطرق السريعة الرئيسة، المحاطة بالغابات والعمائر السكنية، فيكونون عرضةً لاستهدافات القوات الأوكرانية عبر الكمائن المزوَّدة بالصواريخ المضادة للدروع المحمولة على الكتف مثل الجافلين والنلاو، أو بالاصطياد عبر الطائرات المسيرة، كالبيرقدار بي 2 تركية الصنع، أو اللجوء في بعض المناطق للخيار الصعب بمحاولة الاختراق عبر الأراضي الزراعية والغابات، ومجابهة خطر الغرق في المستنقعات الطينية، وتعرض دباباتهم ومدافعهم للاستهداف مثل البط السمين في مرمى الصيادين.
وقد أضاف الأوكرانيون المزيد من المصاعب أمام الروس على الأرض، بتدميرهم للعديد من الجسور والكباري الحيوية على الأنهار والتقاطعات المهمة، وبث العوائق والحواجز والحفر في العديد من الطرق، لا سيَّما المُقتربات المهمة من العاصمة الأوكرانية كييف. وإزاء كل هذا، فيبدو أن الحرب لا يزال أمامها أشواطٌ طويلة على الأرض، وانتظار الروس أسابيع حتى ينتهي موسم الوحل لاستكمال عمليتهم العسكرية بفاعلية هو اختيار قاتل، فكل يومٍ إضافي من العقوبات الدولية والخسائر على الأرض يكلفهم ماديًا وبشريًا فوق ما يطاق.