محتوى مترجم
المصدر
Philosophy has a lot to learn from film
التاريخ
2017/07/03
الكاتب
Sam Haselby

تصور الآتي: رجل من محاربي الساموراي يُقتل في بستان، ويمثُل كل من له علاقة بالواقعة أمام محكمة. يحكي الحطاب عن الرعب الذي لف أطرافه عندما تعثر بالجثة. يشهد الكاهن بأنه رأى الرجل في وقت سابق ويحدد مشتبهًا به محتملًا، ومن ثم يؤتى بالقاتل «تاجومارو» قاطع الطريق إلى المحكمة، فيزعم أنه أحكم وثاق محارب الساموراي وضاجع زوجته على مرأى منه، ثم أجهز عليه في منازلة بالسيف.

لعل بعض القراء الآن قد تعرفوا على الحبكة. إنه فيلم «راشومون»، تحفة المخرج «أكيرا كوروساوا» السينمائية (إنتاج 1950)، الذي يُدخل المشاهدين إلى تجربة من طراز فريد؛ هي التفكير على الشاشة، والتفلسف، لا عبر محاججة منظمة ولا باستخدام لغة معقدة، وإنما من خلال سرد روائي هو آية في الإبداع، مازجًا بين التصوير وفن السينما المبدع.

يحين بعد ذلك دور زوجة الساموراي لتقديم شهادتها. وبحسب روايتها، فقد اغتصبها «تاجومارو» وذهب دون أن يقتل زوجها، ثم حلت هي وثاق الأخير وفقدت الوعي بعدها، فقط لتفيق فتجد جثة زوجها المنتحر مسجاة بجانبها.

إن الأحجية الفلسفية في جوهر فيلم «كوروساوا» واضحة بما يكفي: ماذا إن كنا لا نستطيع أن نعرف ما يجري ونرويه، إذا كانت رواية أي منا عن العالم هي عالم قائم بذاته، والروايات جميعًا متباينة، فيما لا توجد طريقة للتثبت من أي الروايات هي الصواب؟

أما فصل الخطاب فهو رواية الساموراي الفقيد نفسه، التي نسمعها عبر وسيط روحاني: بعدما ضاجع «تاجومارو» زوجته توسل إليها كي تهرب معه، وهو ما وافقت عليه الزوجة شريطة أن يقتل زوجها، لكن «تاجومارو» انحاز فجأة إلى الأخير، واستطاعت هي بشكل ما الهرب، ثم حل قاطع الطريق وثاق الزوج وذهب، فقط ليقدم الأخير على الانتحار.

إن شخصيات «كوروساوا» تنظر إلى ذات العالم، لكن لاعتبارات أخلاقية أو إدراكية تتبدى رواية كل منهم عما رآه عالمًا قائمًا بذاته، جاعلة من معرفة أي عالم منها هو الواقع ضربًا من المستحيل. إن الرسالة النهائية للفيلم هي أننا بالأساس غير قادرين على «قول الحقيقة».

ما نسمعه بعد ذلك هو رواية الحطاب المختلفة كليًا. لقد رأى كل شيء لكنه لم يخبر المحكمة، وهو يسرد روايته بعد المحاكمة تحت بوابة معبد راشومون: بعدما ضاجع «تاجومارو» الزوجة توسل إليها كي تتزوجه، فقامت هذه برباطة جأش وحلت قيود زوجها وتحدته أن ينازل قاطع الطريق، ليلتحم معه في قتال بالفعل ويلقى حتفه.

ورواية الحطاب هي الرواية الأخيرة، لكن لا يسعنا الجزم بصحتها؛ فلو كان هنالك المزيد من الشهود لكان هنالك المزيد من الروايات، وكل منها تختلف عن الأخريات. فلسفيًا، لا جديد في الأمر؛ فمن تفكيك الحقيقة في ضوء مفهوم «إرادة القوة» لدى «فريدريك نيتشه»، إلى تصور «ريتشارد رورتي» حول كون الحقيقة «مصنوعة أكثر منها موجودة»، إلى «البناء الاجتماعي» الذي نصطنعه في عصرنا الحديث لكل شيء، فقد تكيفنا مع عالم يبدو وكأنه زهد في معرفة أين تكمن الحقيقة. إن فيلم «كوروساوا»، برسالته المزعجة كما يجب أن تكون على المستوى الإنساني، ينضاف إلى جدال دائر راهنيًا في الفلسفة الغربية.

ولعلك تتساءل: ما عسى مخرج سينمائي فاعلًا بالانضمام إلى جدل فلسفي؟ من وجهة نظر خط فكري لا يزال إلى اللحظة هامشيًا – وإن كان يزداد تأثيرًا باطراد – فإن «كوروساوا» يفعل بالضبط ما يجدر بكل مخرج محنك أن يفعله؛ أي حض المشاهدين على تجاوز ما يرونه على الشاشة، والاشتباك مع أسئلة كبرى حول الحالة الإنسانية، والخروج بنتائج فلسفية عبر السينما كوسيط. ومن «جيل دولوز»، و«ستانلي كافيل»، إلى «ستيفن مولهول»، و«روبرت سينربرينك»، تطورت حجة مفادها أن «الفيلم يمكن أن يكون فلسفة».

وفي الحقيقة، يمكن للسينما أن تخدم الفلسفة، لا من موقع التابع – مثل عرض رسوم توضيحية لمشكلات فلسفية في صف دراسي – وإنما من خلال طبيعتها الخاصة وباستخدام وسائلها الخاصة، وبأسلوب يستعصي على اختزاله في المذاهب الفلسفية التقليدية. وغني عن القول إنه ليست كل الأفلام فلسفية على نحو بارز، لكن بعضها كذلك، وهذا كاف بذاته. وكما يفصّل «مولهول» في كتابه «عن الفيلم» (2001)، فإن؛

أفلامًا كهذه ليست مادة خامًا للفلسفة، ولا مصدرًا لزخارفها، وإنما هي بالأحرى تمارين فلسفية، الفلسفة كفعل، الفيلم باعتباره ضربًا من التفلسف.

إن الفلاسفة ليسوا على شيء ما لم يكونوا جداليين، ولذا فإن «الطرح الجريء» لفيلم ما باعتباره فلسفة يجري الإلمام به على نحو مناسب. ويذهب نقاد هذه النظرية إلى أن الفيلم لا يمكن أن يكون فلسفة، إذ إن اشتغاله لا يكون بالحجج والبراهين مثل الفلسفة، وإنما بالصور والعواطف وما إلى ذلك.

وبعبارة أخرى، فإن المخرجين لا يمكن أن يكونوا فلاسفة بينما يقصُرون عن فهم الفلسفة باعتبارها صناعة الحجج واستباق الحجج المضادة. لكن بذلك، وفي ضوء هذا التعريف، يغدو لدينا عدد وافر من الفلاسفة الذين ليسوا بفلاسفة؛ إذ لا يتسع هذا التعريف لأمثال «هيرقليطس» أو «ديوجينيز»، فضلًا عن «كونفوشيوس»، و«نيتشه».

وبغض النظر عن أي الأفلام يستوفي شروط التعريف الفني للفلسفة، تظل الحقيقة أن الأفلام قد تُحدث فينا ذات الأثر الذي للأعمال الفلسفية العظيمة والخالدة؛ أي هزنا وإيقاظنا، وبعث حيوات جديدة في عقولنا، وفتح طرق جديدة أمامنا لرؤية ذواتنا والعالم من حولنا. ولا يقل ما يسم أعمال «أندريه تاركوفسكي»، و«إنجمار بيرجمان»، و«كوروساوا» من وضوح الرؤية وعمق النظرة ونفاذ البصيرة عما لأعمال أعظم الفلاسفة.

بيد أن الأهم من ذلك هو أنه بالنظر إلى الهاجس المرضي لدى الفلاسفة بالعقلانية، يمكن للمخرجين أن يخبروا هؤلاء عما يعني أن يكون المرء إنسانًا؛ عن أساليبنا الفوضوية ومدى قدرتنا على أن نكون دهاة معقدين ولاعقلانيين كليًا. إننا ننساق إلى العواطف والمشاعر كما إلى المنطق، ونوظف الخيال الأسطوري كما التفكير الجدلي. ولعله في صالح الفلسفة أن تكون أكثر سخاءً في توسيع تعريفاتها وأكثر تواضعًا أمام مجالات أخرى؛ فلربما أمكنها أن تتعلم من الأفلام الشيء الكثير، مثل حرارة العاطفة الإنسانية والضرورة الاجتماعية والنفاذ مباشرة إلى القلوب، فإن السياقات الفلسفية فقيرة إلى هكذا أمور.

وهذا بالضبط ما يفعله فيلم «راشومون»، تحفة «كوروساوا»؛ إذ لا يجسد التصور القديم حول كون الحقيقة صناعة بشرية فحسب، وإنما يكثفه ويقدمه في قالب درامي، وهو ما تقصر عنه الفلسفة منفردة. و«راشومون» بارع في تعريفنا بالشعور الذي يورثه العجز عن الإمساك بالحقيقة؛ فالروايات المتضاربة تُسرد بطريقة الفلاش باك، معيدة إلى السطح القضية المحورية عن علاقة الحقيقة بالذاكرة والنسيان والتذكر الدقيق والمشوه، والفيلم في ذلك يستعين بالسرد وأسلوب التصوير وأداء الممثلين وتكوينات المشاهد وما إلى ذلك، حيث التذكر والحكي سيل دافق متصل.

وها هنا يبدو كل شيء في العالم، بما فيه الواقع والحقيقة وذواتنا، سائلًا؛ فالموقع الذي تُستعاد فيه الذكريات هو أطلال معبد خرب، مذكرًا – إذا دعت الحاجة – بأن «الإله ميت»، أو هو على أقل تقدير صامت ومُعرِض عن التدخل.

وفي المحكمة لا نرى وجوه القضاة مطلقًا، لكننا نرى وجوه أولئك المدعوين للشهادة، الذين يقدمون إفادات شديدة التضارب، نراهم لأنهم يخاطبوننا نحن، ونحن هنا القضاة وعلينا أن نتولى أمر كل شيء. وعبر توجيه عدسة الكاميرا مباشرة نحو الشمس، يولد إحساس مستمر بالعمى والتشوش. كل ذلك موظف لترسيخ الانطباع الطاغي بأن ما نشهده من عجزنا عن رواية الحقيقة هو مأساة ذات أبعاد كونية؛ حيث بكائية الكاهن البوذي تطاردك أينما حللت:

الحرب.. الزلزال.. العواصف.. النيران.. المجاعة.. الطاعون.. لسنوات متلاحقة لم يكن هنالك من شيء سوى الفواجع. وقطاع الطرق يهبطون علينا كل ليلة. لقد رأيت الكثير من الرجال يُقتلون كما لو كانوا حشرات، لكنني لم أسمع قط بقصة مريعة كهذه. أجل.. مريعة إلى أبعد حد. وهذه المرة أوشك أخيرًا على فقدان إيماني بالروح الإنساني، وهذا أسوأ من قطاع الطرق والطاعون والمجاعة والنيران والحرب.

إن كل ذلك بالتأكيد «مجرد فيلم»، بل إن هنالك قدرًا كبيرًا من الهزل ينبع من فكرة كون الحقيقة صناعة بشرية، حيث كل شيء قابل للاختلاق والهدم بلا نهاية؛ الكثير من المرح هنا، لكن يبقى أن أوان دفع الثمن قد يؤون أبكر مما توقعنا. ولأن الحكومات حين تجبرنا على ابتلاع الأكاذيب، لا كأكاذيب وإنما كـ«حقائق بديلة»، نعرف حينها أن الإطار المرجعي لم يعد «رورتي»، أو «نيتشه»، وإنما رائعة «جورج أورويل»؛ 1984 (الصادرة في 1949)، ونعرف أن هذه لم تعد رواية خيالية نقرأها وإنما نبدأ بالعيش فيها.

لقد كان يتوجب علينا أن نرى الكارثة القادمة، ففي نهاية المطاف كان «راشومون» يلح بشدة في تحذيرنا.