مسلسل رشيد: دراما تليق بالأمهات
أنا إنجي، أم لطفلين، كففت عن ممارسة عملي – الكتابة – منذ ما يقارب العامين كي أرعى الصغار وأطبخ المكرونة والبانيه وأصنع الكيك وأحضر اللانش بوكس وأغير الحفاضات، وفي أوقات فراغي التي أجلس فيها لأفكر في مهام اليوم أتابع الدراما، أصبحت الدراما رفيقاً جيداً للأيام الجيدة والصعبة، أنزع قابس مخي وأصل قابس التلفزيون وتنساب أمامي الحكايات، أستطيع التفريق بين الدراما الجيدة والدراما السيئة، وفي هذا الموسم الدرامي منذ بدء شهر رمضان هذا العام، وأنا أعرف أن مسلسل «رشيد» دراما جيدة، ورفيق مناسب لليالي السهر حتى للسحور ولف ورق العنب وحشو القطايف وصناعة الجلاش لإفطار اليوم التالي.
أمير الانتقام
شاب أرمل يستعد للزواج مرة أخرى من فتاة طيبة يحبها ابنه اليتيم ووالده المسن، الشاب يعمل في خدمة رجل أعمال ثري ويعتبره أباه، الرجل يغدق عليه من الخيرات ويحبه ويقدره ويستودعه أسراره كلها، فجأة تنقلب حياة هذا الشاب رأساً على عقب عندما يقتل رجل الأعمال وتلصق به التهمة ويكتشف أن صديقه المقرب هو من فعلها، تمر السنوات في السجن ثم يتمكن من الهرب والانتقام واستعادة ابنه، المسلسل من بطولة محمد ممدوح وريهام عبد الغفور وخالد كمال وإخراج مي ممدوح وتأليف وسام صبري.
قصة مكررة تماماً، وفي تتر البداية يقول صناع العمل بوضوح أن مسلسل رشيد هو معالجة درامية للرواية الكلاسيكية (الكونت دي مونت كريستو) للكاتب العالمي (ألكسندر دوما)، وقد فعلها من قبل كثيرون، بداية من أنور وجدي وفريد شوقي وصولاً لمحمد رمضان، البطل المظلوم الذي يدفع ثمناً لشيء لم يرتكبه، ثم يتمكن من إثبات براءته وينتقم ممن ظلموه.
المسلسل عرض في النصف الأول من رمضان واتخذ (فورمات) الخمس عشرة حلقة، الذي انتشر، مؤخراً، كطوق نجاة من مرض المط والتطويل الذي كاد يصيب المشاهدين جميعاً بالاختناق من قصص لا تحتمل الثلاثين حلقة، وقد جاء إيقاع رشيد مضبوطاً جداً، الرتم سريع والأحداث كثيرة في كل حلقة، الحلقة نفسها مشبعة درامياً فمدة الحلقة الواحدة حوالي إحدى وأربعين دقيقة بالتترات، التترات التي صنع موسيقاها راجح داوود، وعلى الرغم من الأخطاء التي وقع فيها المسلسل في الحبكة أحياناً بخاصة في النهاية فإن التجربة بشكل عام كانت جيدة جداً وكانت مرضية تماماً للمشاهد.
دائرة الانتقام
قلنا في البداية، إن قصة رشيد مكررة وإنه ليس هناك مفاجآت في الحبكة من أي نوع، في نفس الوقت كان المسلسل جيداً وحاز على إعجاب المشاهدين، إذن كيف حدث ذلك؟
القصة تأليف/ معالجة وسام صبري، وقد بذل مجهوداً حقيقياً في جعل الكليشيهات مستساغة لا تنفر المشاهد، ولا تشعرك أنك ترى شيئاً معاداً، رسم الشخصيات ببراعة فنرى مثلاً شخصية أسماء/ ريهام عبد الغفور التي تتحول من الفتاة الغلبانة إلى الفتاة المذعورة إلى المرأة المتورطة في أعمال منافية للآداب، كل مشاهد الشخصية تقريباً كانت جيدة حتى مشهد نهايتها، الذي لم تتفوه فيه بحرف واحد، مرسوم جيداً وقد قامت به ريهام عبد الغفور بنضج أصبح يميزها مؤخراً.
كل الشخصيات تقريباً مرسومة ببراعة في المسلسل، بدءاً من (بالتة) الصديق الأمين المزور السابق خفيف الدم، الذي يحفظ جميل رشيد، إلى شخصية المهندس فاروق الذي كانت له حوارات غاية في العمق والتفلسف عن الحق والعدل والرضا بينه وبين رشيد الذي قام بدوره الفنان أشرف عبد الغفور بطريقته السلسة المعهودة التي لم تكن مفاجأة على الإطلاق، حتى شخصية (الظني) وشخصية المعلمة (أشجان) اللتين كانت مشاهدهما معدودة ولكنها كانت جيدة جداً أسهمت في إكمال الصورة النهائية الجيدة للعمل، وحسن مالك الذي كان مفاجأة حقيقية في دور سيف ابن رشيد، الذي كان إيقاعه مضبوطاً تماماً كما لو كان ولد ليكون جامايكا الديلر الذي يتوق للتوبة وللزواج من شيماء.
ربما يأخذ البعض على حبكة المسلسل أن القضية التي حبس رشيد على إثرها أصلاً لم تكن محكمة قانونياً، أو بعض التفاصيل الخاصة بحادث تخليص ابنه من تجار الأعضاء، أو أصلاً إقحام تجارة الأعضاء في الموضوع، كلها تفاصيل يمكن إدراجها تحت بند دعني أخدعك دعني أنخدع أو حائط الإيهام الذي يوافق المشاهد ضمناً على وجوده عندما يتعلق الأمر بالدراما، عيوب يمكن التغاضي عنها بسهولة أمام القصة الشيقة رغم تكرارها والرتم السريع والتمثيل الممتاز.
أمير الدهاء
أما رشيد نفسه أو محمد ممدوح، فقد قام بكل ما هو مطلوب منه بكفاءة يحسد عليها، بخاصة أن كثيراً من مشاهد الحزن الكثيف اختارت المخرجة مي ممدوح أن تصورها عن قرب شديد، فنرى رشيد ملقى في الزنزانة الانفرادية يهلوس وهو يتحدث لابنه المفقود وأبيه الميت والكاميرا لا تبعد عن وجهه سوى سنتيمترات معدودة، أنت ترى روح محمد ممدوح عبر الشاشة، تلمس العذاب والمعاناة التي يعانيها البطل والتي تصر المخرجة الجيدة جداً التي تخرج أول أعمالها على إيصالها مكثفة وحقيقية وحارقة، ويتمكن البطل– أخوها– من أدائها فيبكي المشاهد ببساطة.
استطاع محمد ممدوح وأخته أن يبكيا المشاهدين عندما مات أبو رشيد وذهب ليدفنه وهو مكبل، واستطاعا أن يبكوهم عندما عرف أن ابنه ضاع، واستطاعا أن يبكوهم حتى في آخر مشاهد المسلسل، ثلاث نظرات في آخر مشاهد المسلسل نظرهم محمد ممدوح/ رشيد للكاميرا في آخر مشهد أثناء حفل خطبة ابنه، ثلاث نظرات حارقة لروح تعذبت ولن تلتئم جروحها مرة أخرى أبداً، ثلاث نظرات نظرها رشيد لعيون المشاهد مباشرة، زفرات خارجة من قلب رشيد لتلفح قلب المشاهد المتعاطف.
ربما لو لم تكن مخرجة العمل أنثى لما تمكنت من تكثيف الحزن بهذه الصورة النبيلة وتقديمه للمشاهد بسلاسة، هذه الحساسية للمأساة تتطلب عين امرأة كي تلتقطها، وتخصيص المشاهد الطويلة القريبة وتركيزها على البطل في أعماق جب اليأس تستلزم امرأة حساسة، نعم تمكن محمد ممدوح من أداء الانفعالات بحساسية شديدة وحافظ على الشعرة الرفيعة جداً بين اللطميات والبكائيات و(الشحتفة) الفجة والتراجيديا ولكن هذا يتطلب مخرجاً يستطيع توجيه الممثل جيداً.
كان مسلسل «رشيد» مسلسلاً أمهاتياً بامتياز، المرأة المرهقة مستنزفة الأعصاب التي تبحث عن تسلية جيدة تشغل بها عقلها قليلاً وفي نفس الوقت لا تصيبها بالبلاهة، تتعاطف وتحزن جداً وتذرف الدموع المتكومة بداخلها جراء كل ما يحدث في يومها وتتخذ رشيد ذريعة مناسبة لتفريغه ولكن دون أن تنجرف وراء السذاجة التي أصبحت سمة لا يمكن التغافل عنها في الإنتاجات الدرامية مؤخراً، كان مسلسل رشيد دراما الأمهات اللاتي يعرفن ما معنى الحزن، وما معنى الخوف، أمهات يبكين ضياع سيف ثم يبكين رجوعه، ويبكين أكثر وهو يرقص في حفل خطبته على شيماء وهو يتقافز فرحاً، أمهات لا يتوقفن كثيراً أمام تورط سيف في تجارة الأعضاء ولا يعددن هذا سقطة درامية بل يرضين تماماً أنه عاد لحضن أبيه ولا يفكرون في الموضوع كثيراً، المهم أنه سالم الآن، أمهات يتسامحن تماماً مع كل ما اضطر رشيد لفعله حتى وإن سقط ضحايا، لأنه (يا عيني مظلوم وشاف في السجن كتير) أمهات شاهدن أمير الدهاء ودائرة الانتقام وأمير الانتقام والظالم والمظلوم والثأر، وربما قرأن الكونت دي مونت كريستو، ولكنهن أيضاً كن يتفاجأن في كل حلقة بما يحدث مع رشيد، وكن يترقبن الحلقة الأخيرة ويدعين لرشيد بقلوب صادقة أن يتمكن من النجاة.