رشيد رضا: المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
المتفرنجون هم الذين يُقلِّدون الإفرنج فيما يستحسنونه من العادات وغيرها بالتكلف أولاً، ثم يتوسّعون في ذلك بالتدريج، حتى انتقل بعضُهم من التقليد في مُشخصات الأمم التي تُقوّى بها روابطها كالعادات في الأزياء والأكل والشرب وآداب المجلس، إلى ما هو من مقوماتها التي تَبقى ببقائها، وتفنى بفنائها؛ كاللغة والدين والشريعة وأصول الآداب والروابط الاجتماعية المنزلية والقومية.
أنواع المتفرنجين!
وهؤلاء المتفرنجون فريقان:
أحدهما: مَن كان تفرنُجهم أثر التعليم المصري والتربية الإفرنجية التي حُببت إليهم ما لقنوه وتربوا عليه من مقومات القوم ومشخصاتهم قبل أن يلقنوا ما لأمتهم من ذلك، ويتربوا عليه كما يجب، فكانوا كما قال الشاعر:
وثانيهما مَن يتفرنجون تقليدًا للفريق الأول من قومهم الحكام والأغنياء؛ تقربًا إليهم، وانتظامًا في سلكهم، وتمتُّعًا بمثل زينتهم ولذتهم، فهم مقلِّدة المقلدين، بغير شبهة ولا دليل، إنما كان سبب فشو هذا التفرنج في المسلمين؛ المدارس الإفرنجية والمدارس الوطنية الرسمية وغير الرسمية، التي أنشئت لتقليد الإفرنج في تربيتهم وتعليمهم بغير بصيرة ولا علم بموضع الحاجة، على حين كان العلم بمقومات الأمة الإسلامية ومشخصاتها قد قلَّ وضعُف بضعفها السياسي والاجتماعي، وما بقي منه أمسى مشوبًا بما ليس منه من البدع والدخيل، وساءت طريقة تعليمه، وأهملت فكرة التربية عليه بالتخلُّق والعمل.
لماذا تقدَّم الغرب وتأخرنا؟!
وقد قلتُ – في المنار – غير مرة: إنني لا أعرفُ في الدنيا مدرسة تُعلم فيها اللغة العربية التعليم الفطري، الذي به تكون مَلَكَة في ألسنة المتعلمين، بحيث يفهمون كلامها الفصيح في كل كتاب، ويقدرون على الإتيان به محاورة وخطابة وكتابة بغير تكلف، كما تُعلَّم اللغات الإفرنجية في بلاد أهلها، ولا على مقربة من ذلك كما تعلم في بلادنا، ولا أعرف مدرسة يعلم فيها الإسلام تعليمًا يُفهم به كتابه وسُنته وما فيهما من العقائد والأحكام والحِكَم والآداب فهمًا صحيحًا، يتمكن به المتعلمون من بيانه بالقول والكتابة، وإثبات قضاياه والدفاع عنه بالدليل والحجة، ولا مكانًا يتربى فيه النشء على أخلاقه وآدابه العالية، وإنما المدارس الإسلامية التي تدرس فيها العربية والدين معاهد تعالج فيها كتب في فنون العربية والعلوم الشرعية مما صُنِّفَ بعد ضعف العلم الاستقلالي أو موته قلما يوجد فيها من وضع الأئمة المجتهدين شيء، ولكن يقرأ في بعضها قليل من كتب التفسير بقصد التبرك الذي لا يُعقل معناه لا بقصد الاهتداء، وكل ما يُقرأ من الكتب في مدارس البلاد العربية يفسر باللغة العامية، وفي مدارس البلاد الأعجمية (كالهند والفرس والترك) يترجم بلغاتها.
في أثناء هويّ الأمة الإسلامية في هذه الهاوية من الجهل من عدة قرون كان الإفرنج يصعدون في مراقي العلم الاستقلالي والتربية الاجتماعية على علم ونظام، يهتدون فيه بسنن الله في خلق الإنسان والأكوان، وقد جعلوا لكل علم وكل فن ولكل صناعة وعمل جماعات تُعنى بترقيته وإتقانه، حتى أن الجمعيات الدينية فيهم تملك ألوف الألوف من النقود الذهبية. ولكن كان جُلّ ارتقائهم في العلوم والفنون المادية والمالية والحربية وطرق استعمار الممالك واستخدام الشعوب لمنافعهم، وأقله في الفضائل الدينية والأدبية التي ترجح الحق على القوة، والعدل على الشهوة، حتى خاف عاقبة ذلك عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، وقال أكبر وأشهر فيلسوف اجتماعي فيهم، وهو هربرت سبنسر، لأكبر وأشهر حكيم فينا، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده – ما معناه أن ضعفَ الفضيلة وتغلُّبَ الأفكار المادية على أوربة سَتَدُعُّها؛ أي تدفعها بعنف إلى حرب مجتاحة ليظهر أيّ أممها الأقوى، فيسود العالم. {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7).
وإن مظاهر الغنى والقوة لغَرَّارة خداعة، فالفقراء يُعظِّمون الأغنياء، وإن منعوهم رِفدهم، وهضموهم حقهم، والضعفاء يخضعون للأقوياء، وإن أرهقوهم عسرًا، واستذلوهم عدوانًا وظلمًا، ولا يزالُ بعض الشعوب على إرث ما من سلفهم الذين عبدوا الملوك، واتخذوهم آلهًة وأربابًا، وإن زالت تلك الدعوى وعفت مظاهرها الباطلة، فيظهر أثر هذا الإرث في كثير من أفرادها، وإن تبوّأوا مقاعد الرياسة فيها. وأما ولوع الأمم المغلوبة على أمرها بتقليد الغالبين – في كل ما يسهل التقليد فيه من العادات وشئون الحياة – فهو سُنة من أظهر سنن الاجتماع، وقد بسط الكلام فيها حكيمنا ابن خلدون في مقدمته، فهي لا تخفى على قراء العربية، الذين يُعنون بالأمور الاجتماعية، والتقليد في الأمم كالتقليد في الأفراد، هو توطين لنفس المقلد على أن يكون تابعًا للمقلد في بعض ثمرات اجتهاده، غير طامع في مساواته، فهو يستلزم تعظيمه له واحتقاره لنفسه وقومه.
أوهام المتفرنجين!
قد يشتبه أمر بعض المتفرنجين بما يدعو إليه المصلحون من الاعتبار بما أوتي الإفرنج من العلوم والفنون، وما أتقنوا من الأعمال، والبحث في أسباب ذلك وطرقه، والاستقلال في اقتباس ما تحتاج إليه أمتهم منه؛ لتقوى به، وتكون أمة عزيزة قوية مثل أممهم، وإنما تقوى الأمة إذا حافظت على ما كانت به أمة كاللغة والآداب والعادات والشرائع التي تمتاز بها، وإذا كان بعض العادات باطلاً ضارًّا، فينبغي إزالته وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة، والتربية العملية النافعة، بشرط أن لا يشوب ذلك شيء من تحقير الأمة في أنفس أهلها، ولا إذلالها بإشعارها باستعلاء غيرها عليها، وأن لا تُحْمَلَ على تقليد أجنبي عنها، وإنما تلقَّن الحكمة مع إقناعها بفضلها ونفعها، وبأنها يجب أن تكون أحق بها وأهلها، كما ورد في حديث أبي هريرة عند الترمذي: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها) ، ومن المتفرنجين مَن يدعي هذا الإصلاح، ويتوهم أنه صادق؛ لأنه لا يميز بين الإصلاح والإفساد، ومنهم مَن يدعيه بمحض الكذب والرياء، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 204-205).
جدلية المُصلح والمتفرنج، الإسلاميون والعلمانيون!
إن الفرق بين المتفرنج المقلد وبين المصلح المستقل مما يخفى على غير العارفين بالحقائق، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في مصر، فقد بيَّن في كتابه (مصر الحديثة) من فضائح المتفرنجين المصريين ما فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا، وإن كان لم يكتبه لأجلنا، ولا نحن عرفنا كيف نستفيد منه، وقد أشار إلى مذهب المصلحين الإسلاميين فيما يستحدثون لقومهم من شئون الحضارة بما قاله في أحد تقاريره عن مصر عند ذكر وفاة الأستاذ الإمام، وهو أن الشيخ وحزبه المعتدل يشترطون في ذلك المحافظة على أصول الإسلام، خلافًا لمن لا يبالون في هذه السبيل بالدين ولا ما دونه من مقومات الأمة التي نشؤوا فيها. ولا يرجى من أجنبي غير مسلم أن يقول في كلمة استطرادية أكثر من هذا، في بلد له السيطرة على حكومته، وجل من تعتمد عليهم حكومته من رجالها هم المتفرنجون، كما بيَّن ذلك اللورد نفسه في كتابه (عباس الثاني).
المتفرنجون أصناف، فمنهم المعتدلون والغلاة، ومن الغلاة: المارقون من الدين الذين يحاربون أصوله وفروعه، وينفثون سموم الكفر والفسق في أهله، والمارقون الذين لا يحبون أن يعرف حالهم، فلا يتكلمون في أهل الدين ولا يحبون أن يتكلم هؤلاء فيهم؛ إما لاعتقادهم أن فشوَّ الكفر مفسدة تزيد أمتهم ضعفًا وفسادًا، وإما لكراهتهم للخوض في أمثال هذه المسائل وما تجرُّه من القيل والقال. ومن المعتدلين: الثابتون على عقيدتهم التي نشأوا عليها، والذين لهم ضرب من الآراء الجديدة فيها، وإنما تفرنج هؤلاء في أبدانهم، لا في عقلهم ووجدانهم، ولا نحاول استقصاء ما يكون به التفرنج وأصناف أهله في أفراده، بل نقول بالإجمال: إنه قسمان: صوري ومعنوي، ظاهري وباطني، والمعنوي الباطني، يستلزم الصوري الظاهري، وأما هذا فلا يستلزم ذاك، ولكنه يؤثر فيه بعض التأثير، فكل منهما يمد الآخر في ذلك وفي غيره ويستمد منه؛ لذلك ترى بين أصحاب كل قسم من التعارف والتآلف ما لا نجده بينهم وبين المخالفين لكل منهم، فهو لذلك يسري في الأمة سريانًا تدريجيًّا، لا يشعر به الجمهور، وإنما يفطن له الأفراد من العارفين بشئون الاجتماع المراقبين لسير الأمم وتقلبها، وما يطرأ عليها من التغيير.
صراخ الجماهير!
أما ما يشعر به الجمهور ويتألم له من بعض شذوذ الغلاة من هؤلاء المتفرنجين وجهر بعضهم في إنكار ما عليه الأمة من العقائد أو العادات المحترمة، فمثله فيه كمثل العامي الجاهل الذي يُصاب بالداء الإفرنجي، يتألم لكل قرحة تعرض له من أثر الداء ويطلب لها الدواء، ولكنه لا يعرف خطر الداء في عامة بدنه، ولا فعله في تسميم دمه، ولا يطلب له العلاج في غير أوقات التألم من الأعراض الحادثة، ولا يصبر على تناول الأدوية التي يرجى أن تنقي دمه من ذلك السم في الزمن الطويل.
ترى هذا الجمهور الذي ضربنا له المثل يصيح ويشكو قولاً وكتابةً عند كل صوت يجهر بمخالفة دينه وآدابه وعاداته: فلان كفر، فلان فجر، وأما العالم بشئون الاجتماع فهو كالعالم بالطب أو بحفظ الصحة، كلاهما يهتم بالعلل العامة وأسبابها والعلاج الذي يستأصلها لا بأعراضها التي تظهر تارة وتخفى أخرى. ويا ليت الجمهور يتبع الطبيب الاجتماعي الذي يستصرخه عند كل صيحة تؤلمه من مهاجميه في عقائده أو غيرها من مقوماته الملية، كما يتبع مريض البدن طبيب الأبدان، إذًا لسهل التوقي من خطر هؤلاء الذين تقطعت الأسباب وانفصمت العُرى التي تربطهم بأمتهم، وتعذر عليهم الاتصال بأمة أخرى يكونون أعضاءً حية فيها، ففقد جمهورهم الشعور بالحياة القومية والملية، فأمسى لا يهتم إلا بلذَّاته الشخصية، ومنها أن يكون محترمًا مكرمًا بين مَن يعيش معهم، فهو يدعوهم إلى أن يكونوا مثله مُدَّعِيًا أن ذلك خير لهم، كما أنه يكون عونًا لكل ذي سلطان عليهم، يساعده على كل ما يريده منهم، ومن دون هذا الجمهور أفراد يعز عليهم أن لا يكون لهم أمة، فهم لشدة حاجتهم إلى الأمة التي انفصلوا منها في الباطن يريدون أن يجذبوها إليهم، ويجعلوها أمة أخرى بمقومات ومشخّصات مذبذبة، لا هي إسلامية صحيحة ولا هي إفرنجية خالصة؛ ليكونوا أعضاءً رئيسة لها في هذا الخلق الجديد المتخيل، بعد أن صاروا فيها كالأعضاء الأثرية وزوائد الأظفار والأشعار التي جرت العادة بقصها وإلقائها، وهؤلاء الأفراد الذين يفكرون في تكوين الأمم قليلون، ولكن الذين يلغطون بهذه الألفاظ كثيرون، ولم يظهر في متفرنجينا فرد صَلُحَ لتكوين أسرة صالحة، أو تأسيس جمعية نافعة، فأين هم من إفناء أمة كبيرة وإعادتها خلقًا جديدًا؟، إلا أنهم بضعف الأمة في نفسها، وبمساعدة القوى الغريبة لهم عليها. ليستطيعون شيئًا من الهدم دون البناء، ومن الإماتة دون الإحياء.
قلنا: إن جمهور المسلمين يشكو ويتألم من كل صوت يسمعه من هؤلاء الذين يدعون إرادة إصلاحه وإحيائه، وإنما يشكو من أعراض الداء لا من سمه وأسبابه. ونقول أيضًا: إنه كلما سمع صوتًا منكرًا من تلك الأصوات يفزع إلى مَن يثق بهم من العلماء والكُتَّاب: انصروا الدين، ردّوا على الملحدين، ويقنعه كل ما يقال، ويكتب بعنوان الرد، وإن كان من قبيل الطعن والسب.
إظهار الحق رغم الرقيب!
وقد سُمع في هذه الأيام صوت من هذه الأصوات، لولا حالة الحرب وما اقتضته من المراقبة على المطبوعات لكان الجهرُ بالشكوى منه أضعافَ ما عُهد في أمثاله؛ ذلك صوتُ رجل من أعضاء النيابة، أُلقي على جمهور عظيم من رجال القضاء بأسلوب الخطابة، ثم طُبع في رسالة، ووُزِّع على الناس كافة، موضوعه: وضعُ قاعدةٍ لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولتغيير أصول الشريعة الإسلامية، وقد رَغب بعض الفضلاء في الرد عليه، ويكفي في وجوب ذلك مجرد اطلاعنا عليه، وكنا سنتكلمُ في تلك القاعدة أو القواعد كلامًا علميًّا شرعيًّا، ولا نقول في شخص وضعها شيئًا، وإن الغرض بيانُ الحق في نفسه، ومَن عرف الحق عرف أهله.
- نُشر هذا المقال في مجلة المنار بالقاهرة أثناء الحرب العالمية الأولى، عدد 30 شعبان 1336هـ/ مايو 1918م.