يحكى أن «رشا رزق» قد بدأت الغناء منذ أن كانت بنت عامين، كانت الطفلة تدندن لحنًا لجارة القمر فيروز، ومنذ هذه اللحظة وحتى اليوم وهي تغني.

43 عامًا بالتمام والكمال على ميلاد رشا، صوت الملائكة الذي رافقنا في طفولتنا، والذي ﻻ يزال قادرًا على إثارة الحنين في نفوسنا وتذكيرنا بذواتنا قبل أن تأكل الدنيا على ظهورنا وتشرب.

لكن السؤال الأبرز هنا، لماذا نحب رشا رزق؟ نتحدث هنا عن محبة من نوع خاص، حيث يعتبرها محبوها أكثر من مجرد مغنية ومؤلفة، هناك رابط من نوع فريد. هذا ما سنحاول أن نتتبعه معكم في السطور المقبلة.


زمن سبيس تون: همساتها أحلى من ناي

مررتي بخاطري فكرة، عبرتي ظلت الذكرى، نسيتي الحزن شوقًا للغد الأفضل.

يتذكر أطفال جيل التسعينيات هذه الكلمات بوضوح تام. مر ما يزيد على العشرين عامًا على سماعهم لها للمرة الأولى، لكن الذكرى باقية. والذكرى هنا ليست مرتبطة فقط بشارة مسلسل «دروب ريمي» الكارتوني، ولكن بكلمات عديدة غنتها رشا رزق ووصلت لنا عبر قناة سبيس تون وشركة الزهرة لدبلجة برامج ومسلسلات الأطفال، هذه القناة التي شارك من خلالها جيل كبير من المبدعين السوريين في تربية ملايين من أطفال العرب، وفي القلب من كل هذا كانت رشا رزق.

كبر أطفال الأمس وأضحوا كبار اليوم. تقطعت السبل بينهم وبين آمال وأحلام الطفولة. انهزمت ثورة مصر وتشتت أهل سوريا، لكنهم ما زالوا يذكرون صوت رشا رزق، ولا أدل على ذلك من مطالبات الشباب وهتافاتهم بغناء إحدى شارات مسلسلات سبيس تون في إحدى حفلات رشا رزق التي تمت، مؤخرا.طلبت رشا منهم اختيار أغنية واحدة، كانت المنافسة شديدة بين شارة «عهد الأصدقاء»، وشارة «القناص»، بين «نملك الخيار وخيارنا الأمل»، وبين «قد لمعت عيناه، بالعزم انتفضت يمناه»، لكن شارة «القناص» صاحبة الكلمات الأكثر ملحمية ومبادرة، قد انتصرت مرة أخرى. عندما بدأت رشا في الغناء دون موسيقى مصاحبة، سكت الجميع، عاد كبار اليوم أطفالًا، في شوق لصوت حنون شاركهم زمن ما قبل التيه.

صوت يمكنك تذوقه

قال شاعرٌ فارسيٌّ ما معناه: إن الموسيقى كانت حوريَّة في سماء الآلهة تعشَّقتْ آدميَّاً وهبطتْ نحوه من العلو فغضبَ الآلهةُ إذ علموا وبعثوا وراءها ريحاً شديدةً نثرتْها في الجوّ وبعثرتْها في زوايا الدُّنيا ولم تُمِتْ نفسها قطّ بل هي حيَّة تقطن آذان البشر.
عن الموسيقى – جبران خليل جبران

كلمات جبران خليل جبران يمكن عكسها بشكل كبير على صوت رشا رزق، الذي يظل حيًا في آذان محبيها مهما مرت السنون، فالمميز في صوت رشا أنه صوت يمكنك تذوقه.

تذوق الأصوات والألوان هي حالة طبية تسمى «سيناسيثيا – Synesthesia» وهي حالة نادرة يحدث فيها دمج وتداخل بين الحواس المختلفة التي عادة ما تبقى منفصلة، فلا يستمع الأشخاص المصابون بهذه الحالة للأصوات وحسب، ولكنهم يشعرون بطعم مميز لكل صوت على ألسنتهم.

يبدو صوت رشا رزق محفزًا على هذه الحالة، والمثير للتأمل أنها غنت أيضًا عن ذلك من كلمات وألحان اللبناني خالد مزنر في فيلم «سكر بنات» للمخرجة اللبنانية نادين لبكي: «عجقة سير وسيارات وصوت سكر بنات».

هنا تغني رشا في وصف صوت يبدو كسكر البنات، تلك القطع القطنية التي تذوب في الفم، حلوى الصغار المفضلة، وصف يبدو أول ما يبدو متطابقًا مع مشاعرنا تجاه صوتها هى بالتحديد، وصف يبدو مناسبًا أيضًا لفيلم نادين لبكي الأول عن حكايات وردية لنساء حالمات وتواقات للحب.

يبدو صوت رشا رزق في عصر «سبيس تون» كصوت أمهاتنا، تهويدات وهمسات في آذان صغار حالمين، فيما يبدو صوتها في أغاني فيلمي نادين لبكي «سكر بنات»، و«هلأ لوين؟» كصوت أميرات القصص الخيالية، صوت الحبيبات الأسيرات في أبراج عالية. تظل قطع سكر البنات القطنية في التشكل والذوبان، تترك مذاقًا حلوًا، لكنه سرعان ما يختفي، ليبقى أثر الحنين المر المختلط بحلاوة ذكريات اللقاء.


والآن: سكرو الشبابيك

سكرو الشبابيك، قفلو الأبواب، نزلو الستاير،غمضوا العيون، نوم الهنا، كل شي منيح.

الآن تحيا رشا رزق خارج بلادها. تركت دمشق التي كانت تعمل فيها كأستاذة في الغناء الأوبرالي بالمعهد العالي للموسيقى، وهاجرت حينما زادت وتيرة الاعتقالات وقرارات منع السفر بحق المواهب والعقول السورية الثمينة. وبعد رحلة قصيرة في مصر ثم لبنان، استقرت رشا رزق حاليا في باريس، عاصمة النور، والتي تتنقل بينها وبين برلين في مشروعها لتكوين كورال غنائي من المهاجرين السوريين، كما تقدم حفلاتها برفقة فريقها الموسيقي الذي يشاركها فيه رفيق حياتها الموسيقي، السوري إبراهيم سليماني.

بدأت رشا مشوارها الغنائي بعيدًا عن شارات مسلسلات الكرتون منذ تكوينها فريق «Horizon» في منتصف التسعينيات، ثم فريق «إطار شمع»، والذي لا يزال برفقتها حتى اليوم. درست الغناء الأوبرالي ثم أصبحت أستاذة فيه. مثلت وغنت أوبريتات بالعربية والإنجليزية والفرنسية، لكنها ما زالت تحمل غصة الخروج هربًا من أرض وطن تم تدميره.

تذكر رشا بالتأكيد ذكرياتها في دمشق، أغاني الطفولة في شركة الزهرة، البدايات الأولى في المعهد العالي للموسيقى، زيارة زياد رحباني وحفلته الأسطورية في دمشق، دعوته لها لتشاركه غناء أغنيته الشهيرة «بلا ولا شي». سجلت الأغنية عقب ذلك في الأسطوانة الخاصة بالحفل ليصبح التسجيل الأشهر والأكثر جماهيرية للأغنية. ماذا كان سيحدث يا ترى لو امتد تعاونها مع زياد لما هو أبعد من ذلك؟

أطلقت رشا رزق في نهاية عام 2017 ألبومها الأول في باريس بعنوان «ملاك» وبرزت فيه بشكل خاص أغنية «سكرو الشبابيك» التي ظهرت فيها رشا من خلال فيديو غنائي بسيط، ولكن ذو مغزى. ظهرت رشا وباقي أفراد فرقتها في أزياء سوداء. الأغنية نفسها يمكن تصنيفها كأغنية روك.

الجديد هنا أيضًا أننا يمكننا الشعور بحزن وغضب دفينين في صوت رشا الذي تعودنا عليه دافئًا حنونًا، توشحت قطع الحلوى القطنية إذا بالسواد، تطالبنا رشا بالنكران، «كل شي منيح»، علينا فقط أن نغمض أعيننا، فيما تخرب العواصف العالم خارج شبابيكنا، نوم الهنا.