رابونزل: في البدء كان البقدونس
دعتنا ديزني، فتحدث السحر، عشنا المعاناة حتى إسدال الستار بالسعادة دائما وأبدا، لكنها لم تكن أول من أرسل الدعوة، كتبت الحكايات قبلا، للأخوين جريم النصيب الأكبر من الشهرة، فقد قص الأخوان كثيرا من الحكايات الشعبية، وعاشت الحكايات من خلال قصصهم، ثم اقتبست ديزني واقتبس آخرون، لكن الأخوين جريم لم يكونا أول من حكى، إحدى الفتيات كان لها شعر ذهبي طويل، واسمها رابونزل، لكن قبلها بأعوام عدة وجدت أميرة فارسية بشعر أسود طويل.
أبو القاسم الفردوسي
في القرن العاشر الميلادي، قص أبو القاسم الفردوسي بالشهانامة -كتاب الملوك- الحكاية الفارسية، وتبدأ عندما قرر الأمير زال ابن سام أن يتجول ليرى المملكة، حتى وصل إلى كابول، ونصب خيمته، جاءه مهراب ملك كابول لتحيته، كان مهراب رجلا بهي الطلعة، حسن المنطق، أعجب به زال كثيرا، حتى حكوا له عن رودابه ابنته، ومدحوا كثيرا في جمالها الأخاذ، فملكت عليه قلبه وهام بها حبا.
عاد مهراب لبيته، وقص على ابنته وزوجته أمر زال، مدح في هيئته، قوته، وشجاعته، وصفه كثيرا حتى امتلأ قلب رودابه بحبه، وظلت تفكر به ليل نهار، أسرت لجواريها بعشقها؛ فلُمْن عليها ذلك وحذرنها أن يعرف الملك، عنفتهن وباحت بما يحمل قلبها، فلانت قلوبهن، ووعدنها أن يجمعا بينهما، ولذلك ذهبت الجواري لقطف الورد قرب خيمة زال، وتعمدن أن يعرف أنهن جواريها، ولما عرف أرسل مع جارية هدايا نفسية لرودابه، وطلب أن يقابلها، ثم عدن للقصر راويات لها عن صفاته، فواقفت على اللقاء.
جهزت رودابه جناحها بالعنبر والمسك، وزينته بزهور البنفسج،النرجس، والياسمين، وأقفلن الجناح وخبأن المفاتيح، وزينت نفسها فكانت كشمس ساطعة، مشي زال حتى وصل لشرفة رودابه، رأت أنه تماما كما وصف لها، حيته، وأسفت له على المسافة التي مشيها فآلمت قدميه، حياها كذلك واصفًا إياها بالقمر، طالبا أن يصعد لها، فقامت رودابه بإلقاء ضفائرها السوداء الطويلة له، وطلبت أن يستخدمها كحبل ليصعد عليها، دهش زال، وأخذ يقبل شعرها رافضا أن يصعد عليه فيؤلمها، وأخذ حبلا من غلامه، عقده، رماه على الشرفة، وصعد عليه، جمع بينهما الغرام طوال الليل حتى افترقا على وعد باللقاء ثانية، تكرر اللقاء وتواعدا بالزواج.
زواج زال و رودابه
كان أمر زواجهما معقدا، كلاهما عرف ذلك وخشاه، فمهراب من نسل الضحاك القاتل الطاغية، وبين العائلتين عداوة قديمة، كما أن ملك الفرس الذي يعيش سام تحت كنفه لن يوافق على تلك المصاهرة، بعد استعطاف زال لأبيه، واستعطاف أم رودابه لمهراب، وقراءة الطالع عن هذا الزواج، والذي أخبر أنه خير وأن نسلهما سيحكم الدنيا، ضمن تعقيدات كثيرة تمت الموافقة على الزواج.
تزوج زال من رودابه في حفل عظيم، واستمرت قصتهما، وأنجبنا رستم أشهر وأشجع من حكي عنهم بالشهانامة.
حسنا؛ يصنف الدارسون الحكايات الفلكلورية/الشعبية إلى متشابهات، مثلا: سندريلا، الجمال النائم، القطط كمساعدات، الأمير الضفدع، وهكذا، هذه القصة تصنف تحت عنوان العذراء في البرج، ولذلك يرجع البعض أصل القصة للقديسة باربرة التي تقع كنيستها بمصر القديمة، حيث أسكنها والدها ببرج وهي صغيرة كي يحميها من الناس، مثل قصص كثيرة حيث وقفت العذارى بالنوافذ منتظرات أن نسمع حكاياتهن.
كروادبه الأميرة التي امتلكت من الشجاعة لتقرر مصير حبها، وكباربرة القديسة التي ضحت لأجل إيمان اقتنعت به، كانت رابونزل، فطنة، ذات روح حرة، ساندتها إرادتها كما فعل السحر معها.
قدمتها ديزني في فيلم صدر بعام 2010، وكانت فيه بشعر طويل يمتلك قوة سحرية، مخطوفة من ساحرة شمطاء تستغل سحر رابونزل في أن تبقى شابة للأبد، تستغل سذاجتها أيضا في الإبقاء عليها سجينة، وبالمؤامرة حتى تفقد الثقة بالناس وتبقى معها، لكن روحها الحرة، والحب أنقذاها، وقدمتها ديزني كإحدى شخصيات العروسة باربي قبلا في العام 2002، وقدمت نسخة تشبه نسخة جريم إلى حد كبير في فيلم «بالغابة into the woods» بالعام 2014.
لكن الحكي قديم، وشعر الفتاة الذهبي الطويل لم يحمل قوى سحرية، ولم تكن دوما ساحرة شمطاء، ولم تكن شريرة في كل الوقت، الشر نسبي، ورابونزل في الحكايات المكتوبة خذلها حتى أبواها.
تعني رابونزل بالألمانية خس النعجة، وهو نبات وإن لم يبدُ على الاسم ذلك، غريب أن تسمى رضيعة جميلة باسم كهذا، لكن إن رجعنا لبطلات القصة السابقات فسنجد أنهن جميعا تسمين باسم نباتات أيضا، بتروسنيلا الإيطالية، وبرسينت الفرنسية، وكلاهما تدعى بقدونس إن تُرجم الاسم للعربية.
عنّون الكُتّاب قصصهم بأسماء البطلات، بالترتيب؛ بدأت الحكايات في 1634 حين حكى الإيطالي جيامباستيتا باسيل قصته بتروسنيلا (petrosinella/parsely)، بعد ثلاثة وستين عاما، في 1697 حكت الفرنسية شارلوت روز دي كومنت دي لافورس قصتها برسنيت (persintte)، ثم في 1790 ترجمها للألمانية فرديريك شولتز، وأسماها رابونزل (rapunzel)، وأعاد الأخوان جريم رواية القصة وكان عنوانها رابونزل (rapunzel) في 1812.
«رابونزل، ألقي بشعرك»
نعود لسبب التسمية، ونعرف أيضا كيف خذل الأبوان الرضيعة. بالقصص الأربعة يتجاور بيتان، لأحدهما حديقة مزورع بها البقدونس/خس النعجة، وبالبيت الآخر امرأة حامل ترى النبات من النافذة فترغب به أيما رغبة، لو حدث هذا لك ستفكر أولا أن تطرق باب جارتك تطلب منها بأدب أن تعطيك بعضا، أو حتى تطلب شراءه، أو تذهب للسوق، أي شيء إلا السرقة، لكن أم بتروسنيلا الإيطالية، وآباء كل من برسنيت الفرنسية ورابونزل الألمانية قرروا سرقة النبات، بل أعادوا سرقته مرارا حتى ضبطتهم الجارة وطلبت تعويضا، وكان التعويض أن تأخذ الطفل متى ولد، الأم وافقت، والآباء وافقوا ظنا أن الوعد الكاذب منجٍ، لكنّهم خذلوها وأخذت الجارة الفتاة فعلا، الجارة صاحبة الوعد هي البطلة الثانية للقصة.
رابونزل التي نعرفها تربت في برج عالٍ وسط غابة لا سلم له ولا باب، وكان شعرها الطويل سلّما لمربيتها، بالجملة الشهيرة «رابونزل، ألقي بشعرك» كانت تنادي المربية/الجارة، فتلقي الفتاة وتصعد المرأة، وصفت الجارة بالغولة في قصة بتروسنيلا الإيطالية، وكانت جنية في قصتي برسنيت الفرنسية ورابونزل الألمانية التي حكاها فريدريك، ثم جعلها الأخوان جريم جنية ثم مشعوذة، وهي من وضع الفتاة بالبرج.
الشر نسبي، والجارة قد تكون شريرة فعلا احتجزت الفتاة وحيدة ضد طبيعة الحياة، الغولة في الحكاية الإيطالية أيضا استخدمت تعويذات ثلاثة على شكل كرات بلوط حتى لا تهرب الفتاة، لكن جنية الحكاية الفرنسية كانت تحب برسنيت كثيرا، جهزت البرج بالكتب، أدوات الرسم، الأطعمة اللذيذة، وكل الأشياء التي تجعل فتاة مراهقة سعيدة، هل شعرن ناحية الفتاة بالأمومة، هذا وارد جدا، خاصة أنه لم يذكر أي من الكتاب أية شيء عن استغلال الفتاة أو معاناتها، بل تربين ليكبرن واسعات الحيلة، جميلات الهيئة والروح، إلى أن يصل الأمير بالطبع.
الأمير بهذه القصة رد فعل، لا يفعل سوى إيقاظ مشاعر الحب بالفتاة، وهي تفعل كل شيء آخر، هذه حكاية نسائية بالمقام الأول، المهم؛ يصل الأمير للحكاية بأن يذهب للصيد بالغابة، فيرى أو يسمع الفتاة تغني، يقع في الحب لتوه، ويقترب حتى يعرف للوصل طريق، بتروسنيلا الإيطالية لا تخاف منه، يلاطفها حتى تقع بغرامه وتتفق أن يقابلها بالبرج ليلا، تدس شراب الخشاش الغولة فتنام، ليجمعها اللقاء مع حبيبها، لكن بقية الفتيات تخاف من الأمير الشاب، برسنيت الفرنسية مثلا أخبرتها الجنية أن الرجل وحش يقتل من نظرة عين واحدة، حتى رابونزل خافت، بالنسخ التي تخاف فيها الفتيات كان لابد للكُتّاب أن يجدوا حلا للأمير كي يدخل البرج، فصار يراقب أياما حتى عرف كيف تدخل الجنية/المشعوذة البرج، وقلد صوتها، صعد وأوقع الفتاة بحبه.
هنا يحتدم الصراع، لدينا حب ناشئ لابد أن ينتهي باجتماع المحبين على السعادة دائما وأبدا، حسنا؛ ربما كان على الأمير أن يخطب الفتاة من مربيتها، لكن ماذا لو وافقت ببساطة؟ سينتهي الأمر سريعا بلا صراع أو دراما، وعليه كان على الحكي أن يستمر في طريق آخر، ظل الحبيبان يلتقيان بالسر، ثم:
الفتاة الأولى الإيطالية بتروسنيلا قررت أن تهرب معه ليتزوجا، خاصة بعدما اكتشفت الغولة سرهما، فنزلا بحبل من البرج، وأخذت كرات البلوط الثلاثة، تبعتها الغولة لكن السحر بالكرات ساعدها وتغلب على تعويذات الغولة، ماتت الغولة وتزوج الحبيبان.
أما الفتاة الثانية الفرنسية برنسيت وافقت على طلب الزواج عندما طلب منها الأمير أن تتزوجه، تزوجا بالبرج، وحملت وإن لم تفهم معنى هذا، ولم يفهمها أميرها الشاب، لكن الجنية كشفت أمرها، عاقبتها بقص شعرها ونقلها لبيت بعيد، وخدعت الجنية الأمير بتعليق الشعر على النافذة ليصعد، وألقته من البرج، فوقع على الشوك وآذى عينيه وأصبح أعمى، لكنه ارتد بصيرا بعد سنوات عندما التقى بصاحبته أخيرا، تحديدا شفته دموعها،غضبب الجنية ثانية وحولت كل شيء لصخر، لكن قلبها لان قبل أن يموتا من الجوع، وذهبت بهما مع طفليهما لبيت الملك حيث عاشا في سعادة دائما وأبدا.
الأخوان جريم
هذا المصير أيضا هو ما واجهته الفتاة الثالثة، الألمانية رابونزل التي قص حكايتها فريدريك شولتز، أما عن رابونزل الأخوان جريم فحارت في أمرها، وتبدل مصيرها بتبدل الجمهور الذي يصغي للحكاية، الألمانية رابونزل وليدة قصص جريم عام 1812 واجهت مصيرا مشابها لمصير الفتاة الفرنسية برسينت، فقط لم يذكر الأخوان أي شيء عن طلب الأمير بالزواج، وكشف حمل الفتاة بأن سألت رابونزل الجنية بسذاجة عن سبب ضيق ثيابها، الأمير ألقى بنفسه من البرج، والقصة انتهت عندما شَفَتْ دموع رابونزل عمى عينيه، وعاشا بالطبع مع الطفلين بسعادة.
عالم الأخوان جريم ساحر، قبل أن يسحر الأطفال بالسينما وألوانها، أغانيها وحيواناتها الظريفة ، سحروا بقص جريم للحكايات الشعبية، وعليه كانت تجري تغيرات مستمرة مع كل إصدار في القصص لتناسب براءة طفل، مثلا أن تصبح الأم الشريرة زوجة أب شريرة كما في قصة بياض الثلج، أو ألا تضيق ثياب رابونزل عليها من الحمل دون زواج، ففي النسخة التي صدرت بالعام 1857 تحول المسار لأن ترغب الفتاة بالهرب، وتطلب من الأمير أن يأتي بحبل من الحرير كل ليلة حتى يتكون حبل طويل تنزل به من البرج، لكنها أخطأت يوما وهي تحمل المشعوذة وسألت: «يا مشعوذة؛ لم أنت ثقيلة كهذا على عكس الأمير الشاب؟»، هكذا بسذاجة بالغة لم تناسب أبدا ما أبدته من فطنة، عوقبت رابونزل، وأصيب الأمير بالعمى ثم شُفي، ثم بالطبع عاشا في سعادة دائما وأبدا، ليس هذا فقط، بل عاشا مع طفليهما، أينعم رابونزل كانت حاملا.