فيلم «Ran»: التنافس على الجزء الأكبر من المعاناة والألم
في 1951 خرج علينا المخرج الياباني أكيرا كوروساوا بفيلم Rashomon ويعد أول أفلامه الكاملة، رغم أنه الفيلم الثاني عشر في مسيرته. حصدت التجربة عدة جوائز في مهرجان البندقية السينمائي، وجائزة أوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي 1951.
لم يكن وقت ظهور كوروساوا مناسبًا، أو حتى مرحّبًا به في الولايات المتحدة خلال ذلك السياق الزمني. قبل حصول صاحب كيجيموشا على أوسكار بسنوات، كانت الحرب العالمية تضع أوزارها بكارثة إنسانية كبرى، ضرب هيروشيما وناجازاكي بقنبلتين ذريتين، بعد تجاهل الإمبراطورية اليابانية إنذار الاستسلام من قِبل الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، بعد الحرب العالمية الثانية تسلّمت السينما الأمريكية حيثيات القبض على صناعة السينما، وصدّرتها، بحسب أجندتها التجارية، للعالم كلّه. يشير كتاب «الواقعية الجديدة والنقد السينمائي» إلى دخول سينما هوليوود في السوق السينمائية الإيطالية، ومزاحمة جدّية جيل الواقعية الجديدة الإيطالي بتجارية السينما الأمريكية، وبشكل أكثر عمومية، عملت هوليوود على محاكاة احتياجات المجتمعات المفقرة بعد الحرب بتسويق أفلام تصدّر أكواد التحقق الذاتي والصعود الفردي والقدرة على الانسلاخ عن الجماعة وثقافة المكان، والارتقاء بنفسك لتكون مستحقًا رفاهية الاستهلاك الرأسمالي المتفحّش.
رغم كل ذلك، وضع كوروساوا لنفسه مكانًا بين فئة المخرجين العالميين الكبار، بفيلم شديد المحليّة، المجتمع الياباني يغرق في فقر مدقع وتسيّب أمني وتجاهل مؤسسي، يتم العثور على جثّة ساموراي، وتتعارض الحكايات حول هذه الحادثة، حتى ينتهي الفيلم بصاحب الرواية الحقيقية وهو يرويها لراهب بوذي في مكان بعيد، بعدما سرد حكاية كاذبة أمام المحكمة.
انعكست الآية على كوروساوا بعد فيلم راشومون بفترة، أو ربما انطفأ سريعًا نجم المخرج الذي دأب على نقل دواخل المجتمع الياباني المنغلق للعالم من خلال السينما.
حتى 1965 أخرج كوروساوا معظم أفلامه، لكنه منذ التاريخ المذكور، وحتى أواخر أيامه السينمائية، عمل على حوالي 6 أفلام فقط، كان من بينها ran، تحفته الأثيرة، وأكثر أفلامه قربًا له.
سجن داخلي
بعد مرحلة الذروة في حياة كوراساوا، كان نافذة الثقافة اليابانية على العالم يتصاعد طموحه لخلق أفلام أكثر، بتكليف إنتاجي ضخم، بخاصة بعد نجاح الفيلم الأيقوني The Seven Samurai ، التي أسس من خلاله أسلوبًا فيلميًا يقوم على محاكاة التاريخ الاجتماعي والسياسي للإمبراطورية اليابانية في العصور الوسطى. المعارك، عند كوراساوا كانت تستغرق وقتًا ضخمًا من زمن تصوير الفيلم، وكان يعوّل عليها، بشكل أساسي، باعتبارها ركنًا مركزيًا من أدوات نجاح الفيلم، وأيضًا لأنه لم يحاول الانبطاح لتقشفّات الإنتاج، والعمل على فيلم اعتمادًا على معطيات السوق بدلًا من أصالة القصة.
وقع كوروساوا في المنتصف، بين المجتمع الغربي الذي لا يفضّل أفلامه، باستثناء التقدير النقدي ونجاحات شحيحة في المهرجانات العالمية، وبين مجتمعه الياباني الذي لا يفضّل أفلامه لأنها طويلة، مملة، رغم انبثاقها دائمًا من قلب الثقافة المحليّة للبلد، وكذلك لم تجد تفضيلًا جماهيريًا من أبناء وطنه لأنه كان -غربيّ- في أسلوبه الفيلمي.
دخل كوروساوا في مرحلة حزن طويل، وصلت إلى محاولة انتحار فاشلة في منتصف السبعينيات، كان وقتها قد تجاوز الستين سنة، يبحث عن إنتاج يقدّر أفلامه التي لا تتنازل عن الميزانية العالية. من قلب التجاهل الحزين، ظهر فرانسيس فورد كوبولا، بالتعاون مع جورج لوكاس، وساعداه في إنتاج فيلم Kagemusha في 1980، استعاد فيه الطابع الملحمي لأفلامه، ووثّق من خلاله، في موازاة بين الواقع وتطعيماته المتخيلة، معركة شهيرة في التاريخ الياباني (ناغانو- 1575م).
حصد كاجيموشا السعفة الذهبية في كان مناصفة مع فيلم All That Jazz، وتم ترشيحه لجائزة الأوسكار فئة أفضل فيلم. استعاد كوروساوا حضوره في صناعة الأفلام مرة أخرى، واكتسب ثقة مبدئية من جهات إنتاجية تجاهلته لفترة طويلة، وكان ذلك الوقت المناسب للعمل على مشروعه «Ran» المؤجل منذ فترة طويلة.
التأمل في ظلام البشرية
في حوار لـ كوروساوا عن تطور فكرة Ran، يقول:
علاقة كوروساوا بالأدب وطيدة منذ أول أفلامه، إذ هو ليس بمخرج فقط، بل كان كاتبًا أساسيًا، أحيانًا بشكل فردي وأحيانًا يستعيد بكتّاب آخرين، في كل أفلامه.
بعد الاقتباس مرة أولى من «ماكبث»، غوركي ودستويفسكي، ورغم أنها تجارب لم تنجح وجماهيريًا ولكنها بشّرت كوروساوا كفنّان متكامل. عمل صاحب dream على تضمين التيمة الأساسية لمسرحية الملك لير في مشروعه الأضخم، الذي كلّف حوالي 12 مليون دولار، ويعتبر الفيلم الأكثر تكلفة في تاريخ السينما اليابانية.
يعيش هيديتورا بين مقاطعاته الضخمة، له ثلاثة أبناء، وعلاقات جيدة مع أمراء آخرين، وبحكم أنه طاف الأرض حروبًا وانتصارات وتاريخًا دمويًا طويلًا، ولأنه أيضًا أصبح رجلًا عجوزًا يأمل في الراحة واستقرار المملكة من خلال ضخ دماء شبابية في شرايين الحكم، يعطي مقاليد الحكم لابنه الأكبر، بينما الولدان الآخران يحكمان قلاعًا فرعية.
تشتبك قصة Ran مع الملك لير من خلال الثيمة الأساسية فقط، حيث كان لير ملكًا أطاح به غروره وسوء توقّعه، بعدما أهدى أملاكه وحكمه لبناته الثلاث، اللاتي انقلبنَ عليه سريعًا. أخذ الملك سوء قراره إلى الجنون.
من خلال تضمينات الخيال والتوثيق المحلي التاريخي والمرجعية المسرحية على مستوييها المحلي والدولي، خلق كوروساوا فيلمًا مطّعمًا بتداخلات ثرية، أولها الاعتماد على استقطاب طبائع الملك لير، وإسقاطها، بشيء من المرونة، على الأمير هيديتورا، دون أن يتخلّى عن محاكاة جانبي البعد التاريخي والمعاصرة الوجدانية، ليحاكي دلالات القرن العشرين الذي كاد يدفع العالم في قلب الهاوية.
على مستوى أقرب للاشتباك المراوغ مع السيرة الذاتية، تمثّل شخصية الأمير في فيلم Ran نموذجًا قريبًا من كوروساوا نفسه، يشير الناقد السينمائي الأمريكي روجر إيبرت إلى الفيلم باعتباره نموذجًا لخيبات كوروساوا تجاه صناعة الأفلام.
علاقة كوروساوا بصناعة الفيلم مثلما ذكرنا كانت شديدة التخبّط، مرة يتوفر إنتاج للعمل ومرات كثيرة تظل أفكاره حبيسة رأسه أو الورق، وحتى مع إيجاد جهات إنتاجية متحمسة، كان يقع غالبًا في مشاكل تجاوز الميزانية المتاحة، لأنه كان يعوّل بشكل أساسي على تفاصيل المعارك ومحاكاتها للواقع الفعلي، وكان شديد الطموح والدقة في تصوير المشاهد الدموية.
يبدو جنون الأمير الياباني في الفيلم، هو الهاوية التي كاد يقع فيها كوروساوا في رحلته مع أفلامه، لأنه كان يعمل على الفيلم الواحد، كأنه أول أفلامه، وكذلك كأنه آخرها، فيضع كل أدوات عمل الفيلم، منذ الكتابة وحتى المونتاج، بصورة مثالية وحادة، وغير قابلة لأي مرونة تتماشى مع طلبات الإنتاج.
بسبب التعددية والتركيب الحاصل في شخصية الأمير هيديتورا، عمل كوروساوا على الاختباء وراءه، ليحكي خيباته الشخصية تجاه عالمه السينمائي، وكذلك ليحكي خيباته الشخصية، كفرد تجاه العالم في ذلك القرن الحزين.
ولد كوروساوا في 1910، وعمل على فيلم Ran في 1985، خلال هذه السنوات حفل العالم بكوارث كبرى، حربين عالميتين وإبادات جماعية، أكثرها وحشية كان في موطنه. تم العمل على الفيلم خلال الثمانينيات التي شهدت صعود «الحلم» الأمريكي، والتباهي بثقافة الاستهلاك، لم نعد بحاجة إلى التزام إنساني، لم يعد العالم أيضًا معنيّ بأي مفاهيم كونية، ليس عليك سوى أن تدور في وضعك المعاصر، مغتربًا، لتحقق أكبر قدر من الارتقاء المادي، وذلك ما يعمل بشكل أساسي على تحديد قيمتك وقدرتك على الاستهلاك.
يتجلى بعد النظر إلى وضع البشرية، المظلم والمتجه نحو الهاوية في القرن السابق، من خلال الصعود المتتابع ناحية الكارثة في الفيلم.
حينما يتنازل الأمير عن حكمه لأبنائه، يفاجئه ابنه الأكبر، الأمير الجديد في المملكة، بتجريد أبيه من كل المسمّيات الملكيّة، ثم قام بنفيه، وحينما يذهب الأمير هيديتورا إلى ولده الآخر يُفاجأ به يرفض استضافته، لأن الأمير الجديد أعطى أوامر بنفي والده خارج مساحة المقاطعات.
مفتقد ألوهية الحكم ومحاولًا الهروب من جحيم الماضي، يندفع الأمير مع مهرّجه في أفق الفراغ البعيد، ينتقل هنا وهناك، وهو يشرف على الجنون، من شدة أهوال تصاعد الحرب والمكيدة بين أبنائه، الذين بالفعل يدمرون المملكة وأنفسهم من خلال هذه الصراعات.
في مسرحية الملك لير، نقرأ «كالذباب للأولاد الفاسدين ، كذلك نحن للآلهة. يقتلوننا لرياضتهم» وتعود هذه الإشارة إلى تمتع الملوك والأمراء في مرحلة كتابة الملك لير بالقرار الإلهي المطلق، لذلك يسقط لير، ليس من خلال ماضيه، لكن من خلال تفحّش فخره، الذي انعكس عليه ودفعه نحو الهاوية.
هاوية هيديتورا تختلف، لأن ما أطاح به ليس فخره الكبير، بل ماضيه الذي ظل يراوغه، ويخرج عن سياقات الزمن، حتى استقر مستعيدًا نفسه في أبنائه.
يدرك هيديتورا ذلك من خلال رؤيته لتصاعد الصراع المخيف، وتفتت مملكته بسهولة غريبة، بدت أسرع بكثير من صعوبة جمعها واستقرارها، ونرى اعترافًا أخيرًا على لسان أحد الشخصيات يمكننا جعله عنوان العالم في نفس مرحلة الفيلم، وربما أيضًا الآن «إنهم يتنافسون على الجزء الأكبر من المعاناة والألم».
ذلك التدافع الدموي، والحرب التي تشتغل من دون أي إيذان بالتوقف إلا عند الهلاك، لا يتداركها أو يوقفها جانب ألوهي، حتى بوذا، الذي يظهر بعد تفحّش الكارثة في آخر الفيلم، معلّقًا على صورة تحرّكها تيارات الهواء، تقف ممسكة بصورته المعلّقة سيدة على حافة هاوية بعيدة.
اللون والأداء والصورة
يمكن فصل أفلام كوروساوا من ناحية الصورة، على مرحلتين، الأولى كانت أفلام الأبيض والأسود، والثانية كانت مرحلة الألوان. ظهرت تجليّات الظل والضوء في مرحلة كوروساوا الأولى، كمادة حكائية موازية انفعالات الشخصيات، قادرة على التعبير عن الطابع العمومي للمشهد وكذلك دواخل الشخصيات الداخلة فيه. الجزء الثاني، ظهرت فيه إمكانيات كوروساوا الفنّية أكثر. نشأت علاقة مخرج Ikiru بالفن من خلال الرسم، ولفترة طويلة كان لديه طموح أن يصبح رسّامًا، وخلال مرحلة اهتمامه بذلك الفن أنتج لوحات كثيرة، ولم يتخل عن مادته المرئية الأولى للعالم في السينما.
اعتاد كوروساوا على رسم أجزاء من كادراته، وأحيانًا مشاهد كاملة، خلال مرحلة كتابة السيناريو، لكنه في Ran رسم جزء كبير من الفيلم أثناء المراحل الأخيرة للكتابة، يظهر ذلك بوضوح في الاعتماد الأولي على الألوان كأداة مدخلية للأشخاص.
تم تمييز الأبناء الثلاثة بألوان محددة، من خلال شعار كل ابن ولون أزياء جيشه، وتم الاعتماد على التصوير الخارجي في أجزاء كبيرة من الفيلم، مساحات خضراء واسعة، تبدوا جميلة مبدئيًا، لكنها تستحيل إلى حصار على مالكها السابق الذي يجوبها، بينما الجنون ينخر رأسه.
يعمل كوروساوا على استخدام اللون في تعريفه الأولى، كنتاج فيسيولوجي من انعكاس الضوء على العين. ذلك “الانطباع” الذي يستخلصه العقل، هو أداة التفعيل التي يؤسس كوروساوا مادته المرئية عليها، كل تداخل لوني، على شخص، أو يتسيد مشهد، هو دلالة متعمّدة، لتعزيز الحكاية ببعد\ انطباع\ تفاعل تجاه المشاهد.
انطلاقًا من فكرة أن كل موضوع ابن لمكانه، يعتمد كوروساوا على الإرث المسرحي الشعبي في اليابان، كمرجع متداخل دائمًا في أداء ممثليه، أو استقطاب فن بعينه وتكوين شخصية سينمائية من خلاله. في Ran، يتبع الأمير مهرج اعتاد الحضور معه، وبعد فقدان المملكة يظل بجواره، الأداء المسرحي، مكوّن شخصية المهرّج الأساسية هو فن «الكابوكي» الذي ظهر في القرن السابع عشر وتم ضمّه لنشاطات البلاط الملكي، ويتكون من تمازج بين الرقص والأداء المسرحي لتقديم حكاية، يحكيها المؤدّي من خلال اللغة وحركات جسده الأدائية.
ثمّة نوع آخر استقطبه كوروساوا مع صبغة حداثة في العرض، وهو فن «النوه»، شخص يرتدي قناعًا، ويحكي حكاية يتم الاعتماد على الموسيقى كإيقاع يضبط الحكي. اعتاد الناس أن تكون القصص المروية من خلال ذلك الفن، إعادة إنتاج الحكايات التاريخية وإسقاطها المعاصر على المجتمع.
اعتمد كوروساوا عامة في معظم أفلامه وبخاصة في Ran على استقطاب الجانب المركزي من النوه، وهو أن تتوجه الحكاية السينمائية دائمًا لتغطي جانبين كونيين، واحد يتعلق بالمحليّة، وإعادة إنتاج الوضع المعاصر من خلال تواريخ فارقة في عمر الامبراطورية اليابانية، وآخر يتعلق بكونية الحكاية، أي لا يكون المشاهد «الآخر» غريبًا عنها، وقادر على الاشتباك معها والتأثر بها، ليس من خلال مفردات الحكاية المحليّة الخاصة، ولكن أيضًا من خلال مفردات المشاهد نفسه.