كان به في شهر رمضان موسم عظيم؛ لكثرة ما يُشترى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يُحمل على العجَل ويبلغُ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسْم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه.

المقريزي في وصفه لسوق الشمَّاعين في القاهرة في شهر رمضان – القرن التاسع الهجري


رحّالة في رمضان!

حين وطئ ابنُ بطوطة مصر في عصر سلطانها الأعظم الناصر محمد بن قلاوون في عشرينيات القرن الثامن الهجري، كان ذلك متوافقًا مع دخول شهر رمضان الكريم، لقد وصل الرحالة الكبير إلى مدينة أبيار في شمال المنوفية حينها، ونزل عند قاضيها عز الدين المليجي الشافعي في التاسع والعشرين من شهر شعبان، فوصف لنا استقبال طبقات الناس لهذا الشهر الفضيل في بيت القاضي وخارجه، قائلاً: «وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقفُ على الباب نقيب المتعمّمين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقّاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلا: بسم الله. سيدنا فلان الدين! فيسمعُه القاضي ومن معه فيقومون له، ويجلسه النقيبُ في موضع يليق به، فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعين وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقبُ الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبُسُط والفُرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقِدُ أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فعلهم كل سنة».

ولم تختلف نظرة الرحالة الأوربيين الذين نزلوا القاهرة في العصر المملوكي في شهر رمضان في وصفهم لتلك البهجة والاحتفالات والعادات عن وصف ابن بطوطة السالف؛ فقد شهد برنارد دي بريندباخ ليالي رمضان في القاهرة، فوصف وسائل السرور عند الناس، ومنها الأناشيد ودق الطبول طول الليل حتى تعذّر على ذلك الرحالة النوم. أما فابر الذي زار مصر سنة 1483م/888هـ فدُهش ليلة دخوله القاهرة لكثرة الأنوار والمشاعل في الطُرقات والفوانيس مختلفة الأشكال والألوان التي يحملها الكبار والصغار، ولما استفسر عن سبب كل هذه الجلبة قيل له: إن الشهر رمضان، وإن المسلمين يحتفلون به على ذلك الوجه.


أسواق القاهرة المملوكية

وفي ليالي شهر رمضان كانت أسواق المدن والأقاليم تزدهر احتفالاً بهذه المناسبة، وقد كانت المطاعم والمطابخ تظلّ مفتوحة طوال الليل لكي تستقبل زبائنها، كما كانت تنتعش أسواق الحلويات، فتُصنع التماثيل السُّكرية التي كانت تُعرف باسم العلاليق؛ لأنها كانت تُعلّق بخيوط على أبواب الحوانيت.

وكان نشاط سوق الشمّاعين في شهر رمضان عظيمًا لا يكادُ ينقطع لكثرة طلب الناس للشموع، فقد كانت العادة أن الدولة وأهل الخير يتكفلون بشراء الشموع لإنارة الطرُقات. وقد وصف العلامة المقريزي هذا السوق ضمن وصفه لأسواق مصر في ذلك العصر قائلاً: «وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشترى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يُحمل على العجَل ويبلغُ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسْم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه».


عادات مملوكية رمضانية

ويصف ابن الحاج في «المدخل» بعض عادات المصريين في ذلك العصر، فالناس كانوا يرتصون نيامًا في المساجد بعد صلاة الفجر، وهي مثلبة رآها ابن الحاج في المصريين، ولعل هذه العادة لا تزال حتى يومنا هذا. أما عادة السحور فقد وصف ابن الحاج عادة أهل القاهرة وأهل الإسكندرية في ذلك: فأهل القاهرة يتكفل المؤذنون بتنبيههم على السحور، «يقول المؤذِّنون تسحَّروا كلوا واشربوا وما أشبه ذلك على ما هو معلومٌ من أقوالهم، ويقرأون الآية الكريمة الَّتي في سورة البقرة وهي قوله تعالى: «يا أيُّها الَّذين آمنوا كُتب عليكم الصِّيام» [البقرة: 183] إلى آخر الآية، ويكرِّرون ذلك مرارًا عديدةً، ثمَّ يسقون على زعمهم ويقرأون الآية الكريمة الَّتي في سورة: «هل أتى على الإنسان حينٌ من الدَّهر» [الإنسان: 1] من قوله تعالى: «إنَّ الأبرار يشربون من كأسٍ» [الإنسان: 5] إلى قوله {إنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلا» [الإنسان: 23]». أما أهل الإسكندرية: «فيُسحِّرون بدقِّ الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم: قوموا كلوا».

في المقابل نجد المماليك يستعدون لدخول هذا الشهر بالاستعدادات المختلفة، ففي عصر السلطان ركن الدين بيبرس (ت 658 – 676هـ) كان يأمر بتهيئة ميدان القلعة (ميدان صلاح الدين الآن) لتدريب المماليك على فنون القتال والحرب، وكان الناس يتطوعون في تهيئة الميدان وتسويته برش المياه؛ رغبة منهم في الاستمتاع برؤية تلك الفنون والمهارات القتالية التي انفرد بها المماليك، وفي 26 رمضان سنة 672هـ/إبريل 1274م أمر الظاهر بيبرس «بركوب جماعة لطيفة، من كل عشرة اثنان، وكذلك من كل أمير، ومن كل مقدّم لئلا تضيق الدنيا بهم. فركبوا في أحسن زيّ، وأجمل لباس، وأكمل شكل، وأبهى منظر، وركب السلطان ومعه من خواصّه ومماليكه ألوف، ودخلوا في الطّعان بالرماح، فكل مَن أصاب خَلع عليه السلطان (أعطاه هدية)، ثم ساق في مماليكه الخواصّ خاصة، ورتّبهم أجمل ترتيب، واندفق بهم اندفاق البحر، فشاهد الناس أُبهة عظيمة».

السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون (709 – 741هـ)، ارتفع الإنفاق على المطبخ السلطاني في شهر رمضان بصورة لافتة، خاصة لشراء السكر، وكانت العادة أن المطبخ السلطاني يوزع على بيوت الأمراء وعلية القوم أنواعًا مختلفة من الأطعمة والحلويات كل يوم، حتى ارتفع استعمال السكر من ألف قنطار إلى ثلاثة آلاف قنطار، فضلاً عن مختلف الأطعمة الأخرى بمبلغ قدّره المقريزي بثلاثين ألف دينار مصري، وهو مبلغ كبير يُعادل 4.5 مليون دولار بسعر اليوم تقريبًا أو يزيد، حتى إن طباخ المطبخ السلطاني وولده حصر المقريزي مكاسبهم في تلك العزائم الرمضانية وغيرها فقدّره ب800 درهم مصري أي ما يُقابل ألف دولار يوميًا!.

وفي عصر أولاد الناصر محمد بن قلاوون، كانت لدى بعضهم عادات غريبة في شهر رمضان، فقد اشتُهر عن المظفّر حاجي بن الناصر محمد (746 – 747هـ) شغفه الشديد بتربية الحمام، وكان يستغل قدوم شهر رمضان حيث انشغال الناس بالعبادة والصيام والاحتفالات، فيأمر كبار الأمراء بعدم الحضور إلى القصر السلطاني حتى ينتهي شهر رمضان؛ رغبة منه في تمضية وقته في اللهو واللعب بالحمام، ويصف ابن تغري بردي بعض عاداته الغريبة في ذلك قائلاً: «أعاد حضير الحمام وأعاد أرباب الملاعيب من الصّراع والثقاف والشباك، وجري السّعاة، ونطاح الكباش، ومناقرة الدّيوك، والقمار، وغير ذلك من أنواع الفساد. ونودي بإطلاق اللعب بذلك بالقاهرة، وصار للسلطان اجتماع بالأوباش وأراذل الطوائف من الفراشين والبابية ومُطيّري الحمام، فكان السلطان يقفُ معهم ويُراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانيّة. وبينما هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام، وقد سيّبها إذ أذّن العصرُ بالقلعة والقرافة فجفَلت الحمام عن مقاصيرها وتطايرت، فغضب وبعث إلى المؤذّنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم، ويلعب مع العوامّ بالعصىّ، وكان السلطان إذا لعب مع الأوباش يتعرّى ويلبس تبّان جلد، ويُصارع معهم ويلعب بالرّمح والكرة، فيظلّ نهاره مع الغلمان والعبيد، وصار يتجاهر بما لا يليق به أن يفعله». لذا كانت عاقبة هذا السلطان أن خلعه كبار الأمراء من السلطنة؛ فقد كان غير كفء بالمرة لهذا المنصب الخطر.

وهكذا تنوعت العادات المملوكية في شهر رمضان الفضيل في مختلف الطبقات الاجتماعية في العصر المملوكي، وفي مقالنا القادم سنقف مع طبقات أخرى لنرى كيف تنوعت عوائدها، واختلفت مشاربها التي كونت في نهاية الأمر صورة لا تزال راسخة ورائقة عن شهر رمضان الكريم.

المراجع
  1. 1- المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان – لندن، 2013م.
  2. 2- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب المصرية – القاهرة.
  3. 3- ابن الحاج العبدري: المدخل، دار التراث – القاهرة.
  4. 4- رحلة ابن بطوطة، تحقيق عبد الهادي التازي، أكاديمية المملكة المغربية – الرباط، 1996م.
  5. 5- سعيد عبد الفتاح عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، دار النهضة العربية – القاهرة، 1992م.