رمضان في سوريا: الإفطار وسط الأنقاض
رمضان كريم.. كل عام وأنتم بخير.. بهذه العبارات استقبل السوريون شهر رمضان المبارك، أرسلوا التهاني عبر شبكة الإنترنت، علّها تخفّف من وطأة واقعهم القاسي بعد عشر سنوات من الحرب، التي لم تكتف بسرقة مستقبلهم، بل أيضاً ماضيهم الجميل.
ارتفاع الأسعار.. انقطاع الكهرباء.. أزمة المواصلات.. سفر الأحباء.. والدمار الذي لحق بالمدن السورية، غيّر طقوس شهر رمضان في سوريا، أضحى السوريون يستقبلون الشهر الفضيل وفي قلوبهم حسرة ورغبة بعودة رمضان أيام زمان، وجعلهم يعيشون الشهر الفضيل كما لم يعشه غيرهم من جيرانهم في البلدان المجاورة.
دير الزور: لا أحد نقول له «رمضان كريم»
تنتظر السيدة جواهر أن تنضج شوربة العدس قبل موعد آذان المغرب، تقف أمام نافذة المطبخ علّها تلمح أحد الشبان المتطوعين يصل مع وجبة الإفطار ويدق بابها.
تعيش السيدة جواهر (65 عامًا) مع عائلتها في حي العرضي داخل مدينة دير الزور شرقي سوريا، تقول لـ«إضاءات»: لا يوجد حولنا سوى الدمار والأنقاض، نسكن وحدنا هنا منذ نحو عامين، عدنا إلى بيتنا المدمّر وضعنا ما بقي من أغراضنا، وما زلنا على حالنا منذ ذلك الوقت.
عاشت مدينة دير الزور الحرب بكل تفاصيلها، عانى أهلها من الحصار الذي فرضه تنظيم داعش على المدينة منذ عام 2014، إلى أن فُكَّ الحصارُ بداية شهر نوفمبر 2017 بعد إعلان التلفزيون الرسمي السوري أن القوات الحكومية استعادت السيطرة على المدينة، آخر المعاقل الرئيسية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.
وخلال الحرب دمرّت المعارك بين الجيش السوري وتنظيم داعش، معظم أحياء مدينة دير الزور وأسواقها السبعة، ما دفع الأهالي إلى مغادرة منازلهم إلى المناطقة القريبة بخاصة إلى محافظة الحسكة، وبعد زوال التنظيم بدأت بعض العائلات بالعودة، إلا أنها واجهت واقعاً قاسياً بالعيش في أنقاض منازلها الخالية من الخدمات.
ماذا عن طقوس شهر رمضان؟ تضحك وتقول: لا يوجد ناس لتحتفل بقدوم شهر رمضان، الظلام والدمار والأنقاض فقط، حتى القطط لم تعد تزورنا، ليس لدينا ما نطعمها، نعتمد على وجبة الإفطار التي تصلنا من منظمة الهلال الأحمر، وما يمكن أن ندخره كي لا نموت جوعاً.
تحاول فضة (27 عامًا) ابنة السيدة جواهر العودة باكراً قبل موعد الإفطار، حصلت على بعض الحلويات وقطعة لحمة زائدة عن إفطار اليوم السابق لعائلة ميسورة، تقول: منذ عودتنا من الحسكة إلى دير الزور، أعمل في تنظيف المنازل، أخي زكريا يشطف الحدائق، يحمل الأغراض للعائلات الميسورة، وفي رمضان تصلنا بعض المساعدات من هذه العائلات ومن الجمعيات الخيرية.
تتناول عائلة السيدة جواهر فطورها المكون من طبق من شورية العدس، مع وجبة إفطار رمضانية واحدة يقدمها الهلال الأحمر السوري، وصحن من الأرز «البايت»، كما تصفه فضة، مع قطعة دجاج غير ناضجة تماماً.
عندما ينظر الابن زكريا (30 عامًا) إلى منزلهم شبه المدمر، ثم إلى حي العرضي، يجده غارقاً في الظلام إلا من ضوء ينبعث من اللدة الكهربائية (سلك كهربائي يوصل مع بطارية ممتلئة بالكهرباء لإنارة المنزل، يستخدم عند انقطاع الكهرباء ساعات طويلة) التي أنارها في غرفة الجلوس، المغطاة نوافذها بالنايلون المرسوم عليه اسم إحدى المنظمات الإنسانية.
يقول زكريا لـ«إضاءات»: أحمل كل ثلاثة أيام البطارية لأشحنها في منزل أحد الاصدقاء في حي الحميدية، حيث تصلهم الكهرباء 5 ساعات يومياً، يكفينا شحنها لإنارة اللدة الكهربائية فقط، وعندما تفرغ من الكهرباء أعود لأشحنها مرةً أخرى.
يشعر زكريا أن حي العرضي مليء بالأشباح وبأرواح الأموات، يقول: إذا صرخت عالياً يتردد صدى صوتي، وينتقل بين الأبنية المهدمة الفارغة المظلمة، نسكن في أنقاض منزلنا، وكأننا في مقبرة.
يختم حديثه بالقول: نصوم ونصلي ونزور الجامع، لكن لا يعني هذا أننا احتفلنا بقدوم شهر رمضان، حتى الكليجة (أقراص من الكعك المحلى المشهورة في دير الزور كحلويات شعبية) لم نتذوقها، لا يوجد أحد ليقول لنا: رمضان كريم، كل ما نراه صور الأحباء بقايا بيوتهم وأغراضهم.
%80 من الأحياء مدمرة
أكدت حلا المشهور منسقة مركز الأعمال السوري في دير الزور لـ«إضاءات»، أن 80% من أحياء مدينة دير الزور مدمّرة بسبب الحرب، بخاصة الموجودة في قلب المدينة، على عكس الأحياء الواقعة في أطرافها كالضواحي الجديدة والقديمة، ومنطقة غازي عياش، ما زالت المنازل موجودة فيها.
وتضيف المشهور: قامت الدولة السورية بفتح الطرقات والشوارع العامة في الاحياء المدمّرة، وأزالت بعض الأنقاض، لكن ما زالت المدينة تحتاج لشبكة صرف صحي وكهرباء وماء في معظم أحيائها التي تفتقر إلى هذه الخدمات، ومنها حي العرضي وعلي بيك والشيخ ياسين وغيرها.
«ماذا عن دور المنظمات الدولية؟»، أجابت حلا: تزور هذه المنظمات الأحياء المدمّرة، عندما ترى عائلة تسكن في أنقاض منزلها، تقدم لها بعض المساعدات، كتركيب نافذة أو باب، منها منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، التي تقوم بتركيب خزان مياه لكل عائلة عادت إلى منزلها المدمّر، لكن ما زال عدد العائلات قليل جداً لانعدام الخدمات.
وعن دور المنظمات خلال شهر رمضان تقول المشهور: تعمل المنظمات الدولية وفقاً لمعايير خاصة، مثلاً منظمة RSR الألمانية المخصصة لإعادة الإعمار، أما المساعدات الإنسانية، فتقدمها منظمة الهلال الأحمر، حالياً في شهر رمضان توزع وجبات إفطار رمضانية في الأحياء المدمّرة وفي الجوامع، أيضاً مؤسسة الشهيد المحلية تقدم وجبات إفطار لكل عائلة سجلت اسمها لديها.
حلب: ما جبرك على المُرّ غير الأمَرّ
وسط سوق الفردوس الشعبي في مدينة حلب، يفرش العم أبو عبدو (60 عاماً) بَسْطته، ينادي على بضاعته ليشجع الزبائن على شراء خضاره وفاكهته، يحاول أن يجمع ثمن وجبة الإفطار. يقول لـ«إضاءات»: عدنا إلى منزلنا المدمّر في حي كرم حومد شرقي حلب، وضعنا شادراً جعلناه سقفاً لبيتنا، ها هو شهر رمضان يهل علينا، وما زال الوضع على حاله.
تعرضت مدينة حلب لدمار كبير خلال الحرب، بخاصة الأحياء الشرقية والشمالية منها، وغادر الأهالي منازلهم خوفاً من عمليات القصف المستمرة بين الفصائل المسلحة، إلى أن استطاعت قوات الجيش السوري بدعم من الحليف الروسي دخول مدينة حلب وإعلان سيطرتها عليها في عام 2016.
وفي المقابل أطلقت تركيا عملية «درع الفرات» في 14 آب 2016 وسيطرت على جرابلس والراعي والشريط الحدودي بينهما وصولاً إلى مدينة الباب شمال شرقي حلب بمؤازرة الميليشيات المسلحة الموالية للحكومة التركية التي استبدلت أسماء بعض القرى السورية بأسماء تركية، وما زالت تسيطر على هذه القرى إلى الآن.
أشعلت الزوجة أم عبده فانوسًا صغيرًا، وضعته أمام المنزل ليكسر حدة الوحدة والظلام اللذين يخيمان على المكان، تقول لـ«إضاءات»: نعيش في حينا المدمّر نحن وعائلة واحدة فقط، جئنا تقريباً في الفترة ذاتها، جلسنا في منزلنا رغم خوفنا أن يقع فوق رؤوسنا في أي لحظة.
رغم قساوة الحال، لم تتوقف أم عبده (55 عامًا) عن ممارسة طقوس رمضان تقول: تصلنا يومياً وجبة إفطار من إحدى الجمعيات الخيرية، أمنح جارتي القليل منها، التي تبادلني بإرسال بعض التمر وعصير قمر الدين (عصير المشمش من المطبخ العربي يستهلك عادة خلال شهر رمضان المبارك)، أستقبل منها هذه العصائر وأضيفها إلى مائدة رمضان.
ترى أم عبده أن ظُلمة منزلهم أفضل من التشرد والنوم في الحدائق والطرقات، تقول: لا نقوى على دفع الإيجارات الشهرية، لكن ما جبرك على المُرّ غير الأمَرّ، تجربة الحياة في حي فارغ مدمّر لا يمكن أن تُنسى، بخاصة عندما تسجلها ذاكرة الأطفال، تضيف: حزينة على أحفادي، طفولتهم مليئة بالظلام والجوع والدمار.
لا تسمع عائلة أم عبدو أي صوت حولها سوى بعض الطيور التي تزورها أحياناً بحثناً عن خبز أو قمح، تقول: عندما أسمع حركة في الخارج، أعلم أن زوجي عاد، أو جارتي جاءت لتزورني، نجلس على صخرتين، نشرب الشاي بعد الإفطار، يلعب الأطفال يصومون ويفطرون وينامون وسط الدمار.
جمعية ساعد الخيرية: وزّعنا 4 آلاف وجبة إفطار
تعمل جمعية ساعد الخيرية منذ نحو تسع سنوات في مدينة حلب، تضم عدداً من المتطوعين الشباب، تقدم يومياً وجبات إفطار للصائمين خلال شهر رمضان المبارك.
يقول المسؤول عن المتطوعين في الجمعية محمد بظة لـ«إضاءات»: تضم الجمعية نحو 60 متطوع/ة، يعملون من الساعة الحادية عشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً، نقوم بتوزيع وجبات غذائية على المناطق الأشد فقراً في حلب، يصل عدد الوجبات يومياً إلى أربعة آلاف وجبة.
وعن نوعية الوجبات يقول بظة: لا بد أن تتضمن الوجبة الأرز أو اللحوم، وبكمية كافية، مع بعض المقبلات واللبن، ويمكن لأي عائلة الحصول على وجبة غذائية من خلال زيارة مركزنا الرئيسي في حلب.
حمص: لا مسلسلات رمضانية لنشاهدها
تُنير فوانيس الخيمة الرمضانية سماء حي جورة الشيّاح في حمص، تفوح رائحة القهوة العربية منها، بينما يركض مروان بطبق حلاوة الجبن (حلوى تقليدية تشتهر في سوريا خاصة في حمص) إلى والده الذي ينتظره مع أصدقائه، يقول مروان لـ«إضاءات»: تعود هذه الصورة إلى ذاكرتي كلما عاد شهر رمضان، وعندما أفتح عيني أجد نفسي مع عائلتي وحيداً في حي معظمه مدمّر بلا خدمات تُعيننا على استقبال الشهر الفضيل.
يسيطر الجيش السوري على مدينة حمص بالكامل منذ عام 2017 بعد خروج المجموعات التي حملت السلاح من حي الوعر والريف الشمالي إلى مدينة إدلب، وتبلغ نسبة الدمار في المدينة بحدود 20% وتتركز في أحياء جورة الشياح، والخالدية، والبياضة، والقرابيص، وجزء من حمص القديمة.
عاد مروان مع عائلته إلى منزلهم منذ عدة سنوات، رغم التحسينات التي أجروها، ما زال المنزل شبه مدمّر، يقول مروان (45 عامًا): قمنا بطلاء الجدران، وضعنا شادراً لحمايتنا من برد الشتاء وشمس الصيف، لكن ما زالت مشكلة المياه تشل حركتنا، وتزداد صعوبة خلال شهر رمضان، نحتاج إلى المياه من أجل الغسيل والوضوء والصلاة، أيضاً من أجل تحضير الطعام، وتنظيف المنزل.
يتكون منزل مروان من غرفتين وصالة نصفها مدمّر، جدرانها متشققة، بينما أودت المعارك بجزء من سقف المنزل، حصلت العائلة على بعض المساعدات، لكنها لم تكن كافية لتأهيل المنزل بالكامل.
تقول ميساء زوجة مروان (38 عامًا): نشعر بالوحشة والسكون، بخاصة عندما تغيب الشمس، نقضي معظم وقتنا في الظلام، لا مسلسلات رمضانية لنشاهدها، نفتقد صوت المدفع، ومسحر رمضان، نتمنى أن نعيش طقوس رمضان، نزور الأسواق، نشتري المعروك (نوع من أنواع المعجنات المشهورة في بلاد الشام وسوريا بخاصة) وخبز رمضان، نشعر بالحنين إلى الماضي وسط ظلام الحاضر.
«ماذا عن وجبة الإفطار؟». تجيب ميساء: لدينا القليل من المؤونة كالبرغل والأرز والخبز، يعمل مروان في محل ألبسة وسط حمص، يكفينا راتبه لتحضير وجبة إفطار يومية متواضعة، وتصلنا بعض المساعدات تضحك وتختم حديثها: الله لا ينسى عباده.