رمضان في العهد العثماني: روحانيات ومباهج
شهر مميز دائمًا، لا يشبه إخوته إلا في عدد الأيام التي قد تزيد أو تنقص عن الثلاثين يومًا، ولكنه يختلف عنهم في الكثير من الملامح والمظاهر.
رمضان شهر القرآن والصيام، شهر المغفرة والقيام، فيه تُفتّح أبواب الجِنان وتُغلّق أبواب النيران، فيه ليلة القدر التي شرُفت فيها سماء الدنيا بنزول القرآن، ليلة تفوق في فضلها 83 عامًا من الطاعات والعبادات، فهل هناك في كل الشهور من يُشبه رمضان في كل هذه الخصال؟!
ولو أبحرنا في نهر التاريخ لنشاهد كيف كان الناس يعيشون الشهر الفضيل في عهود دول الإسلام، لوجدنا عادات واحتفالات تتشابه في جوانب وتختلف في أخرى، فأموية وعباسية ومملوكية وعثمانية، حملت كل فترة منهم ملامح وعادات ومظاهر رمضانية اتسمت بالخصوصية والبهجة والفرح والسرور، هذه الخصوصية التي نحاول في هذا المقال عرضها بما خُص به العهد العثماني من مظاهر وعادات اختلفت عن العهود الإسلامية التي سبقته.
بشكل عام كانت العادات والمظاهر تتشابه في مدن الدولة الكبيرة، مع وجود اختلافات قائمة بينهم، إلا أنه من الممكن أن نقول بأن هذه العادات كما وجدت في إسطنبول، فقد وجدت كذلك في القاهرة، وحلب، وسراييڤو.
نبدأ الحديث باستطلاع هلال شهر رمضان، فكان قاضي إسطنبول يُرسل العديد من الخبراء إلى مناطق مختلفة لاستطلاع ظهور الهلال، وفي حالة ظهوره كان المنادون يسيرون في الشوارع وينادون بأن الهلال قد ظهر، كما كان يتم تعليق شبكة الأضواء بين المساجد [فيما عُرف باسم الماهيه، وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا] كذلك لتنبيه الناس بأن الشهر قد دخل، وكان من نصيب أول شخص استطاع أن يرى هلال رمضان هدايا كثيرة تُخصص له من الدولة؛ لأنه أول من بشّر بدخول الشهر الفضيل.
القصر السلطاني
كان لشهر رمضان في قصر السلطان العثماني مظاهر وعادات أخرى، فبداية كان السلطان يُصدر وثيقة خاصة بالشهر من عدة نقاط لتنبيه الناس على مراعاة بعض القواعد التي يتم تطبيقها بحرص، فقبل حلول الشهر بخمس عشرة يومًا كان يأمر بتشكيل هيئة لمراقبة الأغذية في الأسواق وتنظيم أسعارها، كما كان يقوم بنفسه باختيار نوعية القمح الذي سيُصنع منه الخبز للناس، وتحديد وزنه وكمية الملح التي تضاف إليه، وإذا نال القمح بعد طهيه خبزًا إعجاب السلطان وأهل الخبرة في القصر، يأمر بأن تبدأ الأفران بخبزه وبيعه للناس.
كما كان من ضمن التنبيهات الموجودة بهذه الوثيقة ضرورة أن يقوم الوعّاظ بتذكير الناس بصلاة الجماعة في المساجد، والمنادون بتنبيه الأهالي في الشوارع، بألا يزور أحد منزلًا دون إخبار صاحبه أو دون دعوته، وألا يتناول أحد الأطعمة والمشروبات في الشوارع في نهار رمضان، وأن يدعو الناس أثناء صيامهم وفي صلواتهم بدوام بقاء الدولة العثمانية.
أما رئيس الفلكيين [رئيس من يشتغلون بالفلك في الدولة] في القصر السلطاني فيقوم بتحضير إمساكية رمضان قبل حلول الشهر المبارك بخمسة عشر يومًا، أو قبل انتهاء شعبان بعشرة أيام، وكان يقوم بتقديم الإمساكية أولًا إلى السلطان والصدر اﻷعظم [رئيس الوزراء]، ثم إلى بقية الأشخاص المهمين من رجال الدولة.
وعن استقبال الشهر فكان يتم ببهجة كبيرة في القصر، وبصحبة برقيات تهنئة إلى السلطان من سفراء الدول الأجنبية، كما كان يتم دعوة عامة المسلمين وغير المسلمين إلى الإفطار في القصر السلطاني؛ من أجل إرساء الألفة بين المسلم وغير المسلم. أما الأطعمة فكان يتم توزيع الوجبات المجانية على جميع الضيوف طوال شهر رمضان حتى ليلة القدر، وكان السلطان ورجال الدولة يأمرون بنحر الأضاحي المختلفة في الأماكن العامة والساحات الواسعة أو على أبواب إسطنبول، مع الأمر بتوزيع هذه اللحوم على الناس خاصة الفقراء منهم وذوي الحاجة.
وإذا انتقلنا إلى العبادات والطاعات في القصر، فكانت تظهر في إقامة صلاة التراويح بحضور السلطان، وفي ليلة القدر نجد السلطان والوزراء ورجال الدولة يقيمون صلاة هذه الليلة المباركة في جامع آيا صوفيا خاصة، ويأمرون بإضاءة الأنوار والمشكاوات الملونة بشكل كبير وواسع في الطرقات، وفي ساحة ميدان الطوبخانة بإسطنبول. وفي القرن الثامن عشر عام 1759 استحدث السلطان مصطفى الثالث [حكم من 1757 حتى 1774] في البلاط العثماني «مدرسة قرآنية» لحضور دروس في تفسير القرآن طيلة الشهر المبارك بحضور السلطان، الذي يجلس ليستمع إلى تفسير الآيات من علماء عصره، خاصة من تفسير البيضاوي الذي كان يُفضله علماء الدولة الأحناف، وهو اﻷمر الذي استمر حتى نهاية الدولة.
زيارة بُردة النبي عليه الصلاة والسلام
ومن العادات الرمضانية الخاصة التي ميزت العهد العثماني في قصر الحكم قصر «طوپ قابي»، هو زيارة السلطان لجناح يُعرف باسم جناح «الأمانات المقدسة» [وهو جزء من القصر يتم فيه الاحتفاظ بأغراض تعود لسيدنا مُحمد وصحابته] وذلك في يوم الثاني عشر أو الثالث عشر من رمضان، فكان يتم تنظيف غرفة تُعرف باسم غرفة «البُردة الشريفة» التي تحتوي على أغراض النبي [عليه الصلاة والسلام] مثل: بُردته، رايته الشريفة، خُصلات من لحيته – بكل احترام بالإسفنج وماء الورد وبمشاركة شخصية من السلطان. كما كان يتم الاستعداد جيدًا، فبعد يومين يحل يوم الخامس عشر من رمضان، اليوم الذي تتم فيه الزيارة الرسمية من السلطان ومن يدعوه للذهاب إلى جناح «الأمانات المقدسة» للقيام بزيارة إلى الغرفة المحفوظ بها بُردة النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك بمشاركة كبار موظفي ورجال الدولة وآخرين يبعث السلطان لهم ببرقيات خاصة لنيل شرف هذه الزيارة الرسمية التي تتم وفق احتفال وعادات معينة، مع تحديد وقت معين للحضور.
رجال الدولة
أما رجال الدولة والمسئولين الكبار في الحكومة العثمانية، فكانوا يتسابقون في رمضان لتقديم أفضل ما لديهم لعامة الناس، فأبواب منازلهم وقصورهم تُفتح ليفطر العامة وقت المغرب على مقاعد مخصصة لهم، كما كان يُقدم لهم بعد الانتهاء من الطعام هدية، وكانت تسمى بأجر الأسنان؛ بسبب إجابة الناس للدعوة مما يُكسب صاحب الدعوة الأجر والثواب.
أما أعمال الخير الأخرى التي نجد رجال الدولة يقومون بها فتتمثل في بتوزيع هدايا قيّمة وغالية من خزاناتهِم على خادميهم والعاملين لديهم، وقد ذكر لنا الرحالة العثماني الشهير أوليا چلبي عن الصدر الأعظم [رئيس الوزراء] ملك أحمد پاشا في عهد السلطان محمد الرابع [حكم من 1648 حتى 1687] أنه كان يقوم بتوزيع أشياء غالية الثمن ذات قيمة عالية من خزانته الخاصة على خُدَّامه والعاملين لديه في رمضان مثل: الملابس الجديدة، أوعية للطعام، أسلحة، دروع، بنادق مرصعة بالجواهر، سيوف، فراء السمور، مسابح مُرجانية، في مقابل أن يدعو له ويذكروه في صلواتهم. وقد كان هذا الوزير في كل مساء من يوم الإثنين والجمعة طوال الشهر يفتح أبواب منزله لعامة الناس لتقديم الأطعمة، وعصير الفواكه، والحلويات، والفستق واللوز، وذلك أثناء جلوسهم للاستماع إلى تلاوات من القرآن الكريم.
ومن أهم دعوات الإفطار دعوة الصدر الأعظم رجال الدولة للإفطار على مائدته، ولم تكن هذه الدعوة تُقام إلا في اليوم الرابع من شهر رمضان؛ كي يُفطر رجال الدولة مع عائلاتهم في الأيام الأولى، وكان العلماء من أوائل المدعوين لهذه المائدة، التي كانت تنتهي في اليوم الرابع والعشرين من الشهر.
وتؤكد المستشرقة والكاتبة الإنگليزية دورينا نيڤ التي قضت 26 عامًا من حياتها في إسطنبول على استمرار هذه العادات في رمضان بالمدينة حتى نهايات القرن التاسع عشر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني [حكم من 1876 حتى 1909] بقولها:
العادات الاجتماعية في إسطنبول ومدن الدولة الأخرى
أما مجتمع المسلمين الذين يعيشون على الأراضي العثمانية، فكانوا يستعدون قبل قدوم شهر رمضان بأسابيع، بتنظيف البيوت بشكل كامل، كما يتم التحضير لإعداد أطعمة وأنواع مختلفة من المخبوزات خاصة بالشهر. وعند حلول الشهر ومن أول أيامه، كانت موائد «الإفطار» تُزين بأنواع مختلفة من الأطعمة والمشروبات، التي نجدها في المنازل الخاصة كما نجدها على موائد الإفطار الخيرية الجماعية التي يقيمها الأعيان ورجال الدولة، حيث يتم استضافة الفقراء والشحاذين والغرباء وغيرهم لتناول الطعام، وتوزيع الصدقات والهدايا عليهم.
وإذا نظرنا إلى يوم إسطنبول في رمضان نجد أن محلات ومقاهي المدينة كلها مغلقة في الصباح قبل ميعاد الإفطار، في مقابل عمل هذه المحلات من بعد الإفطار وحتى آذان الفجر على ضوء المصابيح، وإذا رغب أحد المارة في الشوارع أن يشرب عصيرًا أو شرباتًا، فما عليه إلا أن يذهب إلى سبيل من الأسبلة العامة التي يؤمر بأن تُملء بالشربات و العصائر بدلًا من الماء طوال الشهر الكريم.
أما الألوان والزينة وعلامات البهجة في عاصمة الدولة، فنجدها مُتجسدة بصورة رئيسية فيما عُرف في التاريخ العثماني باسم «الماهيه Mahya»، وهي الزينة التي تُعلق ما بين مآذن الجوامع الكبيرة بشبكات من المصابيح الزيتية على شكل جملة أو رمز يرمز إلى الشهر الفضيل، مثل كلمة «بسم الله»، و«ما شاء الله»، و«ليلة القدر»، وكلمة «الفراق» عند نهاية الشهر. ولا نعرف بدقة متى تم البدء في استخدام الماهيه، ولكننا نرى في سيرة السلطان مراد الثالث في أواخر القرن السادس عشر [حكم من 1574 حتى 1597] أن هناك ذكر للماهيه، كما ذَكر وصف للماهيه المبعوث الألماني إلى إسطنبول سالومون شڤايجر عام 1578.
صورة حديثة لـ «الماهيه» أو شبكة إضاءة مآذن المساجد في تركيا
وتقول جوليا باردوي الرحالة والمؤرخة والأديبة الإنگليزية عند زيارتها لإسطنبول في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عن أضواء المدينة في رمضان: «إن الأنوار في إسطنبول لا تشبه الأضواء في أي عاصمة أوروپية أخرى»
أما العبادات وممارسة الشعائر الدينية فلا تظهر كما تظهر في شهر رمضان، فهو شهرها المخصص، فعلى امتداد أراضي الدولة تجد العلماء والفقهاء يعملون على تلاوة القرآن في الجوامع والمساجد طوال الشهر حتى قدوم عيد الفطر المبارك. ونجد أن المسلمين يملؤون المساجد أثناء الصلوات ويجلسون للاستماع إلى الدروس الدينية، بينما يقضي جزء آخر بعض الوقت مع الدراويش بداخل التكايا للاستماع إلى الذكر أو المشاركة فيه.
ويعتبر رمضان كذلك موسم لزيارة الأماكن المباركة وأضرحة الأولياء، فكان يتم زيارة ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري في إسطنبول، ويتم تكريم شيوخ الطرق الصوفية بشكل خاص، وكان كثيرًا ما يتم إعطائهم معاطف مُبطنة بالفراء كنوع من أنواع الهدايا الفاخرة.
أما تناول السحور فكانت له عادات مميزة وجميلة، فنجد مدافع الحواضر الكبرى في الدولة مثل إسطنبول والقاهرة، تنطلق بعد تجاوز الساعة منتصف الليل؛ لتنبيه الناس بأن ميعاد تناول وجبة «السحور» قد بدأ وذلك حتى أذان الفجر، أما في المدن الصغيرة والقرى فكان «المسحراتي» يمر على المنازل بآلات التنبيه لإيقاظ المسلمين لتناول السحور.
وقبل انقضاء وقت السحور بقليل، يستمع الناس إلى الصلوات على النبي من مآذن المساجد كمقدمة قبل أذان الفجر، فيكون هذا بمثابة تنبيه لمن يأكل بأن وقت «الإمساك» عن الطعام قد شارف على الدخول، ثم يتم إطلاق مدفع «الإمساك» للتأكيد على الناس بأن وقت الإمساك قد عن الطعام قد بدأ، فيبدأ المسلمون بعد سماع الأذان بالجهر بنية صيامهم هذا اليوم الجديد، وهو أمر يختلف باختلاف المذهب الفقهي الذي يتبعه كل فرد عن الآخر من حيث الجهر أو السرية.
الفنون الترفيهية
أما وقت الترفيه الذي يأتي في المساء بعد الإفطار، فهو من أجمل الأوقات التي يقضي فيها الناس أوقات مرحة مليئة بالبهجة، فبعد الإفطار تزدحم الشوارع بالمارة الذين يتوزعون على أماكن مختلفة، فمنهم من يقضي وقته بداخل المقاهي يتناول «الأرجيلة» ويستمع إلى «راوي» الحكايات، ومنهم من يتجول بداخل الحدائق ويجلس بداخلها على أضواء القمر لأكل بعض الكيك والحلويات، وتناول القهوة، بينما آخرون يقومون بالذهاب إلى عروض مسارح العرائس لمشاهدة العروض التي تُعرف باسم «الكاراجوز».
و«الكاراجوز» أو خيال الظل هي إحدى الفنون الشعبية التي يتم فيها عمل عرض مسرحي على مسرح للعرائس، وتقول إحدى الروايات التاريخية بأن هذا اللون من الفنون ظهر في أراضي الدولة في عهد السلطان بايزيد الأول في القرن الرابع عشر [حكم من 1389 حتى 1402]، أما الرواية الثانية فتقول بأنه انتقل إلى عاصمة الدولة وأراضي الأناضول بعد ضم «مصر» إلى الدولة العثمانية في عهد السلطان «سليم الأول» في القرن السادس عشر [حكم من 1512 حتى 1520]. وقد مثلت هذه العروض المسرحية الفن الترفيهي الرئيسي في الشهر الكريم، فكانت تعرِض كل يوم قصة مختلفة لمدة 28 يومًا حتى الانتهاء من الشهر، وعُرف من هذه الشخصيات الكرتونية ما يقرب من 50 أو 60 شخصية مختلفة، مثلت طبقات وأعراق المجتمع العثماني، في مجموعة من القصص المتنوعة.
ومنذ القرن التاسع عشر، دخلت ألوان جديدة من الفنون الترفيهية الرمضانية بجانب عروض «الكاراجوز»، وحكاوي المقاهي، مثل فن المسرح، الذي أحتل موقع هامًا من ضمن الفنون الترفيهية، ليصبح رمضان موسمًا رئيسيًا لتقديم عروض مسرحية خاصة، وذلك منذ مطلع القرن العشرين.