بعيدًا عن الصور التي تبرز على السطح كلما حل شهر رمضان الكريم، متضمنة الابتكارات التجارية، والإعلانات وصخب السوشيال ميديا الذي لا ينتهي، يغفل الكثيرون عن ذلك السؤال الباقي دائمًا، ذلك الذي لا تطرحه الألسنة ربما بصورة مباشرة لكن العين تراه بوضوح، كيف يمكن أن يستقبل سكان الأحياء الشعبية شهر رمضان بأجواء احتفالية تغمر الجميع، وينتهي احتفال سكان المجتمعات الجديدة بعد العودة من التسوق؟

تلك الحقيقة الدائمة التي عايشها كل من جمع يومًا من الأيام بين السكن في حي شعبي، وكان من نصيبه الانتقال إلى أحد الأحياء الراقية، ليقضي بها أيامًا هادئة، بعيدًا عن صخب الأحياء الفقيرة، حقيقة سجلتها عيون التاريخ وعيون البشر وكذلك عيون الدراما، وهي أن رمضان في أحياء الكثافة والتجمعات الصاخبة أجمل بكثير مما سواه، فكيف عايش المصريون القصة؟


رحل الفاطميون وبقيت الحكاية

بعد أن دخل الفاطميون إلى مصر، وكأي نظام سياسي حينها، أرادوا أن يُثبِّتوا سلطانهم على المصريين، واتخذوا من الجانب العقدي والاجتماعي بوابة واسعة لتلك السيطرة، وكان كل من هذه الجوانب صالحًا وبشدة للاستخدام في الحالة المصرية، فالمذهب الفاطمي قبل أن يكون سياسيًّا فاتحًا حاكمًا هو مذهب ديني في الأساس يتخذ من اتباعه لريحانة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وابنته العزيزة السيدة فاطمة لافتة رئيسية، وكان ذلك مناسبًا بما يكفي ليقتنع المصريون بالفاطميين، فهم من أكثر الناس حبًّا لرسول الله وآل بيته.

أما عن الجانب الاجتماعي، فالمصريون منذ قديم الأزل كان الفقر – بصورته النسبية المتغيرة – هو حليف طبقتهم العامة، حتى في أكثر فترات مصر ازدهارًا، وهو ما لعب عليه الفاطميون جيدًا، فربطوا كل الاحتفالات العقدية بشتى أنواع الطعام والحلوى، وجعلوها جزءًا لا يتجزأ من جوهر الاحتفال بالمناسبات الدينية، ولأن المصريين لم يخالفوا الفقر أو يتركوه عبر تاريخهم؛ فقد كان من المنطقي أن يبقى الاحتفال عن طريق الطعام والحلوى بأنواعها هو السبيل الأكثر قدرة على البقاء، وتقديم السلوى في أوقات الحزن.

وعلى الرغم من طول فترة حكم الفاطميين نسبيًّا، فإنه بمجرد إعلان صلاح الدين الأيوبي إنهاء الوجود الفاطمي الشيعي في مصر، والعودة لحكم مذهب السنة، لم يواجهه أي مشاكل حيال ذلك، وانتهى الوجود الشيعي شكلًا وموضوعًا، لكن الاحتفالات العقدية بصورها المختلفة ظلت حاضرة في الأحياء الشعبية العتيقة التي عاصرت كل تلك القصص، وظلت العادة تُتوارث بين أصحابها جيلًا بعد جيل، باحثين في داخلها عن السلوى وبعض من السعادة الوقتية التي لا ينازعهم فيها أحد.


كيف يحتفل المصريون في رمضان؟

شهر رمضان في مصر هو نفسه في كل بقاع العالم شهر للصوم والعبادة، لكن العادة المصرية أبت إلا أن تجعله ذا طابع متميز، لا ينازعها فيه الكثيرون، وقد استطاع سكان الأحياء الشعبية على وجه الخصوص الإبقاء على ذلك الطابع، بدايةً من تزيين الشوارع الذي لم يتوقف عن الحضور، مندمجًا بـ «الفوانيس» التي ظهرت للمرة الأولى في عصر الفاطميين، إلا أنها بقيت حتى اليوم على الرغم من تغير أشكالها قليلًا بعد أن أصبحت صناعة غير مصرية.

لكن الملفت للنظر أن الكثافة السكانية في الأحياء الشعبية لطالما كانت سببًا رئيسيًّا في إحياء تلك المظاهر الاحتفالية، فتلك الكثافة والتشابك الاجتماعي الناتج عنها بين سكان الشارع الواحد والحي الواحد، ساعد في انتشار تلك الأجواء، كنوع من أنواع نشر السعادة بصورتها المُستطاعة.

في حين أن المجتمعات العمرانية الجديدة بكل ما فيها من مميزات وتطور وخدمات غاية في الرفاهية، إلا أنه من النادر أن يستطيع سكانها تجربة هذه الأجواء التي لا تجدها إلا بين الحشود الموجودة في الأحياء الشعبية في ساحات صلاة التراويح وأمام محلات الحلوى – الكنافة والقطايف – باعتبارها الأكثر شيوعًا منذ أن ظهرت تلك الطريقة من الاحتفال في مصر.

لا يعني ذلك أن سكان المجتمعات الجديدة لا يمكنهم الحصول على ذلك النوع من الحلوى أو حتى التجمع في صلاة التراويح، لكن المتاجر في تلك التجمعات لا تقدم لروادها سوى السلعة بصورة غاية في النمطية تتركز على العلاقة البيعية، أما في الأحياء الشعبية فالخيام المنصوبة حول المتجر، بنقوشها الإسلامية القديمة وصوت الابتهالات والتواشيح الذي يخرج من مكبر صوتها، يُقدم للمستهلك بجانب الحلوى تلك الروح الاحتفالية، التي يصعب أن يجدها في مولات التسوق الشهيرة.


يد العزلة الاجتماعية تضرب

تلك الحالة النفسية التي تخلقها الحياة في المجتمعات الجديدة، والتي يمكن أن تكون غير مقصودة، تُشكِّل بمفردها نوعًا صعبًا من أنواع العزلة الاجتماعية أو الفردانية، ولو أردنا الاقتراب أكثر من تلك الحالة، فتجمع الأطفال في الشوارع للعب وممارسة الصخب لا يحدث في المجتمعات الجديدة؛ لأنه ببساطة لا مجال لحدوث ذلك في أي وقت، فواحدة من أهم المفاهيم التي تقوم عليها تلك المجتمعات هو الحياة الهادئة، ولذلك فأي محاولة لإحياء تلك الصورة الاحتفالية سيقابل بالوأد السريع قبل أن تتشكل.

حتى في الممارسات العقائدية، فمن الشائع أن ترى الحلوى المغلفة وأكواب العصير منتقلة بين صفوف المصلين، وفي صلاة العيد على وجه التحديد ربما ستجد أناسًا لا تعرفهم ولا يعرفونك يلقون فوق رأسك من النوافذ قطع الحلوى والبالونات، وقد أنهيت لتوك صلاة العيد في الساحة الكبيرة.

وكلها في النهاية صور احتفالية يقوم بها أصحابها دون انتظار مقابل ما، فهي في الحقيقة لا تُقدم أي مقابل مادي، لكن مقابلها يتركز على الصورة النفسية والروحانية، فشعور البهجة الذي ينتشر بين تلك الجموع، من المستحيل ألا ينعكس على من قام بنشره، بجانب الإيمان الراسخ بثواب إدخال السرور على قلب مسلم، وهي كلها في النهاية صور قد تجد مثيلاتها في الكثير من المجتمعات الجديدة ذات الطابع الراقي، لكنها وعلى استحياء تحاول الظهور، وهو ما يفقدها تلك الروح العفوية غير المتكلفة التي تخرج بها في نظيرتها الشعبية، هكذا دون تخطيط أو خوف من رد فعل غاضب غير مُتقبل.

بالتأكيد لا يمكن القول الجزم إن هناك مجتمعات أفضل من غيرها، وإن هذه سعيدة وتلك تعيسة، لكن العفوية المصحوبة دائمًا بقبول الآخر، يمكن اعتبارها كلمة السر في تلك الروح، التي تُميز دائمًا احتفال سكان المناطق الشعبية بواحدة من أعظم وأجمل المناسبات الدينية على الإطلاق طوال العام.

حتى إن الدراما المصرية بكل ما يمكن أن ينالها من انتقادات، حينما قدمت صور الاحتفالات الرمضانية، لم تجد صورة أكثر حميمية من الأحياء الشعبية بصورتها الطيبة، كما يمكن أن ترى في مسلسلات «المال والبنون» و«الليل وآخره» و«ليالي الحلمية»، وغيرها من الأعمال التي نجحت في أن تقترب كثيرًا من صورة الاحتفال الرمضاني القديم، الذي يأسرك بجماله وعفويته من الوهلة الأولى.