دراما رمضان: كيف وصلنا لموسم 2015 ؟
كيف وصلت الدراما المصرية إلى ما هي عليه اليوم؟ سؤال علينا أن نطرحه على أنفسنا لأن الدراما ليست فقط إحدى أنشطة الإبداع المحورية في الحياة الفنية، ولكن لأنها من أكثرها قربا من الجماهير وأثرا على حياتهم. ولكن لكي نحكم على دراما هذا العام وما إذا كانت قد تطورت عن العام الماضي، وما إذا كان هذا التطور نتاج لتغيرات سابقة ويمثل انتقالا للدراما من مرحلة لمرحلة، وتغيرا في عقلية ونوعية صناع الدراما؛ علينا أن نرجع قليلا إلى الأعوام السابقة ونستعيد طبيعة الأعمال الدرامية خلالها.
فلنرجع لرمضان 2006
كانت العقلية المسيطرة على صناع الدراما في هذا العام هي عقلية النجم الكبير، نجوم ليالي الحلمية وعوالم إسماعيل عبد الحافظ ويحيي العلمي وغيرهم من كبار صناع الدراما التاريخيين، فبرزت أسماء نجوم كـ نور الشريف، يحيي الفخراني، يسرا، إلهام شاهين، محمد صبحي، ليلى علوي. بينما خيم على المشهد كتاب كبار كـ محمد صفاء عامر، محمد جلال عبد القوي، أسامة أنور عكاشة، مجدي صابر؛ ومخرجون تاريخيون كـ إسماعيل عبد الحافظ، مجدي أبو عميرة، محمد فاضل، رباب حسين، نادر جلال.
كانت ثمة أسماء أخرى ولكن هذه كانت هي الأكثر انتشارا، وهي أسماء غاية في المحدودية مع احترامنا لأعمالهم القديمة. فقد خيم على تلك المسلسلات النمط الاجتماعي أو الكوميدي التقليدي؛ وهو نمط منفصل عن فئات عديدة من المشاهدين بشكل شديد، غير محفز للخيال، وغير جاذب لأية فئة سوى المتابعين من الأسر الكلاسيكية التي تتابع الأعمال بلا اكتراث كنوع من الطقس الرمضاني. بالإضافة لأن القصص تتكرر كل عام. فلنأخذ مثالا على ذلك، المسلسل الذي اعتبر أفضل مسلسل في هذا العام (2006) وهو مسلسل حدائق الشيطان من بطولة جمال سيمان ورياض الخولي وسمية الخشاب. المسلسل من ناحية الصورة تقليدي لا يختلف عن أي برنامج تلفزوني مع كون إسماعيل عبد الحافظ قيمة إخراجية تضفي بعض الإضافات على العمل بالنسبة لقيادة الممثلين وتحريك الكاميرا بطريقة مختلفة. القصة تتحدث عن تاجر مخدرات متجبر (كأي عمل صعيدي آخر)، لديه الكثير من الجرائم، ويخيف الناس بطريقة أو بأخرى، هذه المرة المخيف هو صوت الغول. كل المسلسلات تعتمد على تلك الشخصيات النمطية، فلا جديد. مدرسة التلفزيون المصري سيطرت كالعادة. فكرة الورق (أي سيناريو المسلسل) صار التعامل معها من الفنانين في تصريحاتهم على أنه شيء يصنع لهم خصياصا وليس عملا إبداعيا في الأساس. باختصار هو (أكل العيش) السنوي. ولكن مسلسل حدائق الشيطان ربما هو بداية تحريك الماء الراكد.
من دولة شقيقة جاءتنا نفحة ما تمثلت في النجم السوري جمال سليمان ومسلسله حدائق الشيطان، حيث تابعه الجميع باهتمام، وانتشر الحديث عن المسلسل بإعجاب به وبهذا الممثل أكثر من العمل نفسه. وهنا يمكن أن نتساءل: لماذا أعجب الجميع بجمال سليمان على الرغم من أن أداءه كان متوسطا، وتكلم بمزيج من اللهجة السورية المطعمة ببعض الصعيدية، والمسلسل لم تكن قصته جديدة في شيء، والممثلون تقليديون جدا؟ الإجابة هي أن جمال سليمان كان حجرا ألقي في المياه الراكدة. هذا الحجر كينونته لا تتعدى أنه بطل جديد في سوق الدراما؛ وهذا شيء خارج عن المألوف وقتها.
النفحة الثانية عام 2008 كانت مسلسل الملك فاروق من إخراج حاتم علي الذي قدم للمشاهدين صورة أخرى للدراما؛ صورة بمعناها الحرفي، فطريقة التصوير التي لم تختلف منذ ليالي الحلمية تقريبا أو ما يعرف للعامة (بطريقة الثلاث كاميرات) استبدل بها التصوير بكاميرا واحدة. وجد المشاهدون في مسلسل الملك فاروق صورة أقرب للسينمائية، أكثر شاعرية، تمازجا رهيبا بين المشاهد والموسيقى التصويرية صنعه الرائع طارق الناصر؛ تمثيلا مختلفا حتى من ممثلينا المصريين. باختصار كان ثمة أهمية لعنصر الصورة ومدير التصوير، وأهمية للموسيقى التي خرجت عن المألوف في صورة كورال فريق رم الأردني. كذلك لم تجد شركة الإنتاج مخرجا يتفهم أن التاريخ ليس هو الرواية الدارجة في مصر، فاعتمدت على حاتم علي باعتبار أنه خبير في هذا المجال بل ومؤسس شكله الحديث في مسلسل الزير سالم السوري (مسلسل تاريخي سوري من إخراج حاتم علي يعتبر بداية حقبة تفوق الدرامي السوري خاصة في الأعمال التاريخية). قصة الملك فاروق فتحت أفقا أوسع لمناقشة تاريخ مصر قبل انقلاب يوليو 52، وأنه لم يكن بداية الجنة. عندها تأكد البعض من أن العالم الموازي نفحاته أكثر تطورا.
يمكنك أن تلمس الفارق في الصورة عبر المقارنة بين هذين المشهدين، أحدهما من مسلسل (يتربى في عزو) كعمل تقليدي، والآخر من مسلسل الملك فاروق:
غزو الدراما السورية
بدأ بعض المشاهدين في متابعة العالم الموازي الذي تأتي منه هذه النفحات، أشيع عن هذا العالم (الدراما السورية) أنه أقوى في المسلسلات التاريخية، ولكن هذه لم تكن حقيقة، فبالفعل كانت الدراما سورية متفوقة في الأعمال التاريخية سواء بالصورة أو بصناعة المعارك أو باللغة والديكور والمكياج؛ في كل شيء تقريبا، حتى الكتابة؛ فأولئك الذين تابعوا ثلاثية الأندلس (صقر قريش – ربيع قرطبة – ملوك الطوائف) والتغريبة الفلسطينية، عرفوا معنى معالجة أستاذ تاريخ كـوليد سيف لديه وجهة نظر في جميع الشخصيات التي مجدها التاريخ. لكن الدراما السورية بجانب إبداعها التاريخي، وصلت لمرحلة ممتازة في الدراما الاجتماعية، فنجحت في مناقشة القضايا الاجتماعية بقدر كبير من الحرية (الحرية الشخصية وليست السياسية بالطبع)، حيث بدأ الكتاب يعلنون عن وجهات نظرهم العلمانية أو المحافظة (كمسلسل ليس سرابا الذي ناقش فكرة الزواج بين أشخاص من ديانات مختلفة، ومسلسل غزلان في غابة الذئاب الذي ناقش عدم تقبل المجتمع لبعض الأمراض، ومسلسل رسائل الحب والحرب الذي ناقش فترة الحروب الأهلية وتأثيرها على سوريا، ومسلسل ذكريات الزمن القادم الذي ناقش تأثير حرب العراق والعولمة على المنطقة العربية وعلى شخصية المواطن السوري النفسية والاجتماعية والمادية).
ومن ناحية الدراما الشعبوية، فقد توجه العرب للإعجاب بشخصيات من نوع شخصية (العقيد أبو شهاب) في باب الحارة. وفي المقابل رد بقوة الكاتب والسيناريست فؤاد حميرة على الصورة التاريخية التي قدمها هذا المسلسل بتقديمه لحارة أخرى في نفس الحقبة عبر مسلسل (الحصرم الشامي) الذي أظهر: كيف أن المواطن السوري لم يكن كالعقيد أبو شهاب، بل كان مواطنا مليئا بالأمراض يتعرض لفاشية شديدة ولا يواجهها، ويتعرض لانتكاسات وحروب على الطعام والشراب بين بعضهم البعض مما جعل النظام يرفض عرضه في القنوات المفتوحة. بات الأمر واضحا لا يقبل الشك أن الدراما المصرية دراما عجائز وبدأت في التلاشي أمام الأمثلة التي ذكرناها من الدراما السورية.
شرع المنتجون في إدخال العناصر السورية على الدراما المصرية كمحاولة للسيطرة على الضعف. لكن تلك العناصر السورية من مخرجين وممثلين لم تحقق نجاحا على غرار نجاحهم في سوريا، ربما لأن نمط الدراما المصرية والقصص كان لا يشجعهم على صناعة شيء جيد، وربما لأن مصر كانت تمثل لهم (عقد عمل مربح) بالنسبة لأجورهم القليلة في سوريا (كـرشا شربتجي التي كانت تقدم أعمالا لا توصف إلا بالعملاقة في الدراما السورية كـ غزلان في غابة الزئاب وزمن العار وغيرها، وتقدم في مصر مسلسلات متوسطة كـ ابن الأرندلي وشرف فتح الباب). كما تم إدخال المخرجين الشباب لإنعاش الدراما كما شاهدنا في مسلسل ليلى علوي (حكايات وبنعيشها) لأول مرة تقريبا من إخراج مريم أبو عوف ومحمد علي. كما بدأ انتقال مخرجي السينما للدراما نتيجة ضعف السوق السينمائي.
عودة الدراما المصرية
يعتبر عام 2010 هو بداية صعود الدراما المصرية؛ فهو العام الذي اجتمع فيه المخرجون الشباب مع مخرجي السينما ونجحوا في إخراج موسم جيد بمسلسلات مثل: الجماعة – الحارة – أهل كايرو – شيخ العرب همام. تميزت هذه المسلسلات بصورة قوية كصورة السينما وبدأت تدخل على أنها موضة جديدة أو شيء جديد لا بد منه للتسويق أو للتطوير.
شهد عام 2011 ثورة يناير، وبرغم تعرض كل شيء لهزة عنيفة ومنها الدراما، إلا أنها استطاعت إخراج مسلسلات جيدة مثل (المواطن إكس) و(خاتم سليمان). وبدأ تقديم مخرجين وكتاب جدد. كذلك الاعتماد على التوليفة الشبابية والبطولة الجماعية، أو بتعبير أدق ظهور أهمية للشخصيات الفرعية.
عام 2012 كان تأكيدا لهذه القاعدة وأضحت التوليفات الشبابية مسيطرة، وهو ما ساعد على الحفاظ على قاعدة الشخصيات الفرعية كمسلسلات (رقم مجهول) و (طرف تالت) الذي كانت البطولة فيهم والإخراج والقصة لعناصر شبابية؛ لننتقل لعام من أثرى الأعوام وهو عام 2013.
يعتبر عام 2013 هو العام الأقوى لأنه العام الذي اشتعل فيه صراع الثقافة والتنوير ضد الإخوان؛ ولأن المثقفين والكتاب كانوا في الجانب الأضعف لا سلطة بجانبهم إلا قوة إبداعهم. ومن ثم حرص الكتاب على الإبداع لكسب الجمهور وعلى توجيه النقد الشبه معقول للإخوان والسلطة الدينية. كذلك برزت محاولة التحرر في المسلسلات في الملبس واللفظ إلى حد غير مسبوق. قدم هذا العام: موجة حارة – بدون ذكر أسماء – بنت اسمها ذات – نيران صديقة – الخواجه عبد القادر. وكأن هذا الإبداع لم يظهر جليا إلا في مسلسلات الشباب كالأسماء السابقة؛ بينما قدمت الأسماء التقليدية التي تدعي أنها في صراع تنويري للدفاع عن الثقافة مسلسلات غاية في الركاكة والتناول الضعيف كمسلسل الداعية لـمدحت العدل.
العام الماضي تراجعت الدراما ولكنها أكدت القواعد السابقة كشيء أصبح طبيعيا ومعتادا للجمهور.
الدراما المصرية هذا العام
يعتبر هذا العام عام تأكيد ثوابت جديدة، فلأول مرة منذ سنوات ندرك أن الدراما في مصر أصبحت صناعة حقيقية، تستطيع أن تعجب بمسلسل واحد، ولكنك لا تستطيع إنكار أن 15 مسلسلا على الأقل جيدو الصناعة. الصناعة بعيدا عن التفضيل الشخصي، وهو أمر كان مفتقدا وأصبح متواجدا ومؤكدا هذا العام. وهناك سوق يناسب جميع الأذواق: محبي الأكشن (لعبة إبليس – بعد البداية – حواري بوخرست) ومحبي الفنتازيا (العهد: الكلام المباح – ألف ليلة وليلة) ومحبي الأعمال الاجتماعية (تحت السيطرة) ومحبي الأعمال الشعبوية (مولانا العاشق – الكابوس – طريقي) والكوميدية ( لهفة – الكبير أوي 5). كلها نماذج متواجدة هذا العام، وأعتقد أن هذه القاعدة ستظل ثابتة لبضع سنوات قادمة.
كما أعلنت دراما العام رسميا فرض أهمية الشخصيات الثانوية، فهي لم تعد شخصيات مكتوبة علي عجل لمساعدة الممثل الرئيسي. فمسلسل تحت السيطرة الذي تبدو أحداثه وكأنها تدور حول البطلة (نيلي كريم)، لكل شخصية فيه مع لك أهميتها وخطها الخاص. كذلك شهدنا شبه اختفاء للبطل الملاك. أصبحت الدراما تلفظ الماضي وكل من يحاول الإبقاء عليه، سواء مخرجين أو ممثلين أو كتاب. ولن يضمن للنجوم شيء سوى تطويرهم لأنفسهم. والحقيقة يبدو أنهم يُلفظون واحدا تلو الآخر. فمن بقي حيا من أسماء عام 2006 هو حاليا بلا عمل تقريبا، ربما انحصر ظهورهم في القناة الأولي لينتقدوا المسلسلات، أو في إعلانات الحملات التنموية. ربما الاستثناء هو يحيى الفخراني الذي يبدو أنه ما زال لديه ما يقدمه.
ما زلنا نفتقد في الصناعة مجموعة الكتاب والمخرجين، بمعنى أن مسلسلا واحدا يكتبه مجموعة من الكتاب ويخرجه أكثر من مخرج. كذلك نحتاج إلى كسر عقدة الـ 30 حلقة والعرض في شهر رمضان.
الحقيقة أن هذا العام، على الرغم من أنني لم أعجب إلا بعملين، عام مفرح للمهتم بالدراما ككل. يكفي أننا أصبحنا نسمع موسيقى هشام نزيه (مسلسل العهد) ونرى إخراج تامر محسن (مخرج تحت السيطرة) في درامتنا.