جاء شهر رمضان..

أخيرًا، ستُفتح أبواب السماء، وتُغلَّق أبواب الجحيم، وتُسلسل الشياطين.

دارت هذه الكلمات في عقل الطفل الصغير أبي عمير الأنصاريi، الذي قرّر ألا يكتفي باغتراف فضائل الشهر الكريم بالأعمال الصالحة، وإنما سعى أيضًا إلى مصاحبة النبي ومتابعته طوال اليوم الرمضاني ليقتدي بكُل ما يفعل؛ رغبةً في أن تكون بقية أيامه الرمضانية مُطابقة للهدْي النبوي كما يجب أن يكون.

فمنذ أن داعبه الرسول، يومًا، وسأله عن حال طائره الأليف قائلاً له «ما فعل النغير؟»، والصبي مبهور بشخصية ذلك النبي الذي وجد، وسط مشغولياته، في وقته وفي نفسه بَرَاحًا ليطمئن على حال عصفور طفلٍ صغير من أمته.

بالأمس تأكدت رؤية الهلال بعدما أخبر ابن عُمر النبي أنه رآه فأمّن الرسول على كلامه، وقرّر بدء صيام الشهر وأمر الناس أن يصوموه (صحيح أبي داوود، رقم: 2342).

فاتت أبو عمير صُحبة النبي الدائمة التي اقتنصها أخوه، سعيد الحظِّ، أنس بن مالكii، لكن لن تُفلت منه صُحبة النبي في رمضان.

هكذا حدّث نفسه وهو يقترب من البيت الذي يعيش فيه الرسول مع زوجته عائشة، هو أول بيتiii بناه النبي لنفسه في المدينة، وهو بناء بسيط ضيّق من الطوب اللبن المُدعَّم بالطين وسقفه مصنوع من جذوع النخل والجريد.

سعى أبو عمير ليضمن لنفسه أفضل رؤية ممكنة، فبحث جيدًا في المنطقة حتى وجد بقايا نخلة ميتة سقطت عنها الشراشف الخضراء والثمر ولم يبقَ منها إلا بقايا جذع متآكل الأطراف، تسلقه الصبي فورًا، وما إن فعل حتى وجده يُعطيه نظرة بانورامية ممتازة، ليس فقط لباب بيت النبي، وإنما لكافة المنطقة المحيطة به ولداخل المسجد إن أمعن النظر بين فجوات الجريد المتراص فوق السقف.

هنا اطمأن أبو عُمير أن موقعه الإستراتيجي سيكفل له ألا يفوته شيء من يوم النبـ….

لقد خرج!

خرج الرسول من باب داره الشمالي في جلباب أبيض بسيط من القطن، وفوق رأسه عمامة يستظلُّ بها من الشمس في هذا اليوم شديد الحرارة، بوجهه شديد البياض، وعيناه الواسعتان، وشعره المرسل حتى يكادُ أن يُلامس أذنيه، وجبهته الواسعة وأنفه المستقيم.

وبينما انهمك النبي في تنظيف أسنانه بالسواك كعادته (رواه الترمذي)، خفق قلب أبي عُمير وهو يتابعه وهو يخطو بعيدًا عن داره.

ما لم يكن يعلمه أبو عمير أنه سيكون على موعدٍ مع يوم رمضاني غير عادي، فالنبي على موعدٍ مع وفدٍ من ثقيف ليُحدِّثهم في الإسلام، واهتمَّ النبي بتوفير الراحة لضيوفه قدْر طاقته.

فأمر أهل بيته بإعداد ما تيسّر من الطعام، كما أمر أصحابه بضرب قُبة لهم جوار المسجد، ولم يكن اختيار هذا المكان عبثًا وإنما قصد به النبي أن يُطالع الضيوف صاحبته المسلمين وهم يُصلّون ويقرأون القرآن فـ«ترقُّ قلوبهم» (صحيح أبي داوود: حديث رقم 3026).

من حُسن حظهم أنهم وفدوا عليه قبل أن يدخل في الاعتكاف الذي يكاد فيه لا يُفارق مسجده، فما أن يُتمُّ هلال ليلة الواحد والعشرين، يدخل الرسول إلى معتكفه وهو خيمة داخل مسجده تسدها حصيرة تُبعد عنه الخلائق، ولا يخرج منها إلا عند غروب شمس ليلة العيد، وخلال هذه الفترة كان لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة (رواه أبو داوود) ولا يخرج إلا لحاجة شديدة.

استرق أبو عُمير ليُطالع كيف سيستقبل الصحابة النبي، وكعاته كلّما خرج من منزله، هشَّ وبشَّ له جميع أصحابه؛ التفُّوا حوله طمعًا في سؤالٍ أو مصافحة أو حتى رؤية، وهو ما ضايق الطفل أبو عمير الذي غاب عنه الرسول وسط الزحام، فشبَّ على قدميه وفرد رقبته إلى أقصاها حتى استطاع، بالكاد، أن يرى وجه النبي مجددًا، وهو يبدأ مسيرته في شوارع المدينة، بينما لا يكفُّ أصحابه عن التحلُّق حوله.

وبالرغم من أن الرسول كان كريمًا في كُل أيامه، إلا أن هذا الكرم كان يتضاعف في رمضان فيكون خلاله «أجود بالخير من الريح المُرسلة» (صحيح البخاري، حديث رقم 1902)؛ فلم يكفُّ عن إجابة طلبات أصحابه وإعانتهم، يُنفق على الفقراء ويبرُّ المرضى ويُجيب كل صاحب حاجة، بالرغم من حرارة الجو الشديدة التي جعلته يخلع العمامة ويصبُّ الماء البارد على رأسه من وقتٍ إلى آخر (صحيح البخاري).

ووسط هذه الأجواء الطيبة، تكهّرب المجلس فجأة!

دخل رجلٌ على النبي يرتعد من جسامة ما فَعله، سار حتى وقف أمام الرسول وأخبره بصوتٍ خفيض أنه عاشر امرأته في نهار رمضان، تعالت همهمات الغضب من الحضور، ووضع أبو عمير يده على فمه هلعًا متوقعًا أن ينفجر الرسول غضبًا في الرجل الذي لم يحترم قُدسية الشهر الفضيل، لكنه لم يفعل.

فقط طلب منه أن يقي نفسه من ذنبه الأعظم بأداء الكفّارات الثلاثة، وكل مرة يزيد الرجل الطين بلّة بأنه لا يستطيع أداء أي منها؛ لا يملك مالاً لعتق رقبة أو إطعام ستين مسكينًا ولا صحة تُعينه على صيام شهرين متتابعين، فأتى الرسول بتمرٍ ودعاه ليتصدَّق به، فأكّد له الرجل أنه لا يُوجد بيت في المدينة أحوج إلى هذا التمر من بيته! فضحك النبي وأمره أن يذهب بالتمر لأهل بيته ليأكلوا منه.

لم يكن هذا الموقف المُضحك الوحيد الذي مرَّ به النبي في هذا المجلس، فبعده بقليل دخل عليه الصحابي عُدي بن حاتم الطائي يشكو له من أنه حاول تطبيق آية «حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود» (البقرة: 187)، فأخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود وضعهما تحت وسادته، لعلّه يتبين فلم يستطع!

وهنا ضحك النبي أيضًا شارحًا لعُدي، أن المقصود هو الليل والنهار (صحيح أبي داود).

بعدها يمّم النبي وجهه شطر خيمة وفد ثقيف، الذي وفد عليه بزعامة ابن عبد ياليل، الذي رفض نُصرة الرسول قبل الهجرة بثلاث سنوات، وسلّط عليه الصبية يقذفونه بالحجارة متعهدًا بأن يُمزِّق كسوة الكعبة إن كان النبي مبعوثًا حقًّا من الله، هذه المرة قدم «ياليل» إلى مكة دون أن يخطر في باله المساس بالكعبة وإنما لقبول ما رفضه سابقًا من دعوة الإسلام.

لم يُؤاخذهم النبي بما فعلوه سابقًا، ولم يُطل العتاب ولم يثر سير القصاص؛ فهو يُحادثهم وهو واقفٌ على أقدامٍ ثابتة مُظفَّرة بنصرٍ مدوٍ على جيش الروم في تبوك.

جلس الرسول معهم قليلاً وحدّثهم عن الدين وبعض أحكامه وفقهه، طلبوا من الرسول أن يستثنيهم من الجهاد والزكاة والصلاة وألا يهدم صنمهم اللات، فوافقهم على الطلبين الأوليين ورفض الطلبين الآخرين قائلاً «لا خير في دين لا ركوع فيه»، وبقوا في أحاديثهم حتى صدح بلال بأذان المغرب.

عندها رآه أبو عُمير وهو ينهض عن مجلسه ويدخل داره ثم يُعجِّل بالفطور؛ أكل بضع لقيمات من تمرٍ وهو يقول «ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (أبو داود) ثم قام بعدها ليُصلي المغرب.

بعد العشاء رغب النبي في قيام الليل (صلاة التراويح) فتجمّع الصحابة من خلفه، لو تركوه لأطال عليهم كثيرًا ولصلّى بهم حتى تنتفخ قدماه وتتفطّر لدرجة تدعو معها السيدة عائشة لأن يرتاح قليلاً من هذا المجهود الشاق، فيجيبها «أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا؟» أو حين تدعوه للنوم في يومٍ آخر، فيردّ عليها «إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي».

هذه الصلاة من يقومها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر (صحيح البخاري)، لكن النبي كان يُفضِّل أن يُصلِّي القيام مُنفردًا؛ خشية أن تُثبَّت هذه الصلوات فرضًا على أمِّته فيعجزوا عنها.

ولكن الصحابة، كعادتهم، لا يتركون النبي يفعل أمرًا إلا واتّبعوه، فها هُم يتراصون خلفه يُصلّون 11 ركعة؛ أربعًا فأربعٍ ثم ثلاثًا، يبكي من فرط خشية الله حتى تبتلُّ لحيته فيبكي من خلفه الصحابة أجمعون.

ولم يشعر أبو عمير بالدموع التي انسابت من عينيه إلا بعد أن مسّت شفتيه، وذكّرته بأنه لم يبرح مكانه منذ صباح اليوم؛ لم يأكل ولم يشرب.

ومن الخارج يقف وفد ثقيف مبهورين بما يرونه ومن خلفهما يرتفع الصبي إلى أعلى جزءٍ في النخلة يجري بعينيه هنا وهناك كيلا يُفلت منه شيء.

علِم الصحابة أن النبي لن يُطيل عليهم هذه الليلة، ربما حِرصًا عليهم من الإطالة أو رغبة منه في سُرعة الجلوس مع ضيوفه، أو ربما لسببٍ أهم وهو موعده المرتقب مع صديقه جبريل، الذي يتنزَّل عليه في كل ليلة ليعرض عليه القرآن (صحيح أحمد).

ما إن تنتهي الصلاة حتى يُعلن أعضاء الوفدين إسلامهما، فيُكبِّر المسلمون جميعًا، ويتسابقون للاحتفاء بإخوانهم الجُدد في الدين، ويُقرّر المُسلمون الجُدد الصيام بدءًا من الغد، وتكثر أسئلتهم عن أحكام الصيام وآدابه.

ودون أن يدري وجد أبو عُمير نفسه يُشاركهم التكبير؛ ليكتشف الحضور مكانه لأول مرة ويكون ثالث مواقف اليوم الضاحكة.

هوامش:

i هذه القصة ليس لها أصل في السيرة النبوية، هي مُجرد مدخل من نسج خيال كاتب الموضوع كمدخل لتقديم باقي الأحداث

ii أبو عُمير الأنصاري هو أخو راوي الحديث الشهير أنس بن مالك من الأم.

iii كتاب «بيوت النبي وحجراتها» لدكتور محمد فارس الجميل.

المراجع
  1. ما شاع ولم يثبت في السنة النبوية، محمد بن عبد الله العوشن، دار طيبة
  2. التبي في رمضات: ثلاثون درسًا، محمد بن شامي بن شيبة، معالم الهدى للنشر والتوزيع
  3. الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان، حبشي فتح الله الحفناوي، المكتب الجامعي الحديث.