رمضان في عصر الكورونا: رحلة مع الطقوس في بلاد العرب
يتميز شهر رمضان في الأراضي العربية بتقاليد وطقوس وعادات تراثية متوارثة متشابهة تشمل مدفع الإفطار وموائد الإفطار والسحور، والزيارات وتبادل أطباق الطعام والحلوى الرمضانية، والكنافة والقطائف، وازدحام الأسواق ورواج شراء الأطعمة ومستلزمات المائدة، والخيام الرمضانية والفوانيس و«المسحراتي» والأنوار والزينات بالمساجد والشوارع، وازدحام صفوف المصلين في العشاء والتراويح والتهجد والفجر، وحلقات الذكر والإنشاد، والمحاضرات والدروس الدينية، ومسابقات حفظ وتلاوة القرآن، والحث على الزكاة والعبادات والنوافل، وكذلك التشابه في تضاعف نشاط المقاهي وشراهة التدخين بعد الإفطار والسهرات الغنائية والإفطار بدون عذر والمباهاة بالإفطار في نهار رمضان.
عودة إلى الواقع…
ربما نفتقد كل ما سبق في «رمضان عصر الكورونا»؛ إذ اتخذت الدول الإسلامية إجراءات لحظر صلوات الجماعة والتراويح، واستعد الكثيرون لقضاء أول رمضان بلا عزومات وبلا موائد إفطار وسحور، وربما تكون رحلة التراث الرمضاني مختلفة هذا العام عندما نقرأ عنها ونحن نترحم على طقوسها، وربما هذا هو ما يجعلنا أحوج إلى هذه الجولة الرمضانية في أرض العرب.
رمضان المغرب العربي
نبدأ رحلتنا من أقصى الغرب، حيث يتبادل «المغاربة» التهنئة بجملة «عواشر مبروكة» أي: عشر الرحمة، وعشر المغفرة، وعشر العتق من النار؛ فهم يقسمون رمضان إلى ثلاث مراحل: الأولى «عشراية التركة (الأطفال)» أو «عشراية ركاب الخيل» حيث تكون للإنسان قدرة على تحمل الصيام، والثانية «عشراية أفكاريش» أو «عشراية ركاب لبل (الإبل)» حيث تتطلب صبرًا إضافيًا، والثالثة «عشراية لعزايز (المسنات)» حيث الإحساس بالتعب خلال الثلث الأخير من رمضان.
ويكتسي رمضان المغربي بالأردية التقليدية؛ ليقدم «الديفيليه» المغربي مجموعة من الأزياء التقليدية والصحراوية التي تعكس هويات المغاربة المحلية والدينية المتوارثة من مقومات وقيم الهوية المغربية الصحراوية.
وتسيطر على المائدة المغربية شربة «الحريرة» وحلوى «الشباكية» و«سلو» و«البريوات» و«الفقاص» و«كعب غزال»، إلى جانب «الكسكسي» و«البسطيلة»، وأصناف مختلفة من المخبوزات المحلية المخبوزة في أوانٍ تقليدية، مثل «الطاجين» و«الطويجينة»، والتي تستخدم في إعداد خبز «المطلوع» أو «البطبوط».
وقديمًا كان «النفار» يعلن عن قدوم رمضان بالنفخ في مزماره الطويل سبع نفخات في مئذنة المسجد أو متجوّلًا بالأزقة معلنًا عن قدوم «سيدنا رمضان»، لكنها عادة بدأت تختفي. ومن عادات «المغاربة» الاحتفال بصوم الأطفال، حيث تقوم بعض الأسر بإطعام طفلها حبة تمر على سلم خشبي، كرمز لرقي الطفل الصائم إلى درجات عالية تقرّبه من الخالق.
وهذه العادة يتوارثها الجزائريون؛ فصيام الطفل في الموروث الجزائري هو أحد أساليب تربيته على الصبر، ودليل انتقاله من الطفولة إلى النضج.
وتتميز المائدة الجزائرية بالثراء والتنوع، فهناك «شوربة فريك»، ولفائف «البوراك»، وطبق «لحم لحلو» وحلوى «البقلاوة» و«قلب اللوز» التي تجتمع النساء حولها في مجالسهن لقراءة «البوقالات» أو «الفال»، حيث يتم توزيع قطع حلوى تحوي كل منها ورقة صغيرة فيها حكمة أو مثل شعبي.
ومن الجزائريين إلى «التوانسة» أصحاب التحية الرمضانية «صحة شريبتكم»، وكذلك التعلة الرمضانية «حشيشة رمضان»، التي يعبرون بها عن عدم القدرة على التركيز والتحكم في الأعصاب بسبب الصيام والانقطاع عن الكافيين والتدخين، ما يجعلهم سريعي الانفعال والغضب والتشاحن.
وفي مساء العاصمة تُقام مهرجانات للغناء والتواشيح والمعزوفات، وتضم المائدة التونسية الرمضانية: «الحلالم»، و«الحوت المحشي» و«المعقودة»، و«المرقاز المشوي».
رمضان النيل
نرتحل إلى وسط أرض العرب، بلاد الأزهر التي يتميز رمضانها بطقوس وعادات تراثية وفنية، فالمصريون يتوارثون العادات الرمضانية منذ تحول الفانوس من استخدامه في الإضاءة ليلًا إلى وظيفته الترفيهية في عصر الفاطميين، ذلك العصر الذي بدأت فيه الموائد الرمضانية، وكذلك بدأ المسحراتي مهنته، حينما أمر الحاكم بأمر الله أن ينام الناس بعد صلاة التراويح، وكان جنوده يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، وتطور الأمر بعد ذلك باستخدام الطبلة، واستمر التطور حتى وصلنا إلى مسحراتي الإذاعة ثم التلفزيون، حيث اتخذت مهنة المسحراتي بعدًا فنيًا على يد الشاعر «فؤاد حداد» والموسيقار «سيد مكاوي» الذي مزج التسحير بالوعظ والإنشاد الوطني.
وحديثًا تطور المدفع وتحول إلى «بُمب وصواريخ»، بعد أن عرفت مصر مدفع الحاجة فاطمة، نسبة للأميرة «فاطمة بنت الخديوي إسماعيل»، فحين كان الجنود ينظفون أحد المدافع انطلقت قذيفة مع آذان المغرب فاعتقد الناس أنه نظام جديد للإعلان عن موعد الإفطار، فأمرت باستخدام المدفع عند الإفطار والإمساك، منطلقًا من قلعة صلاح الدين حتى آخر طلقاته عام 1992؛ فقد توقف خوفًا على منطقة القلعة التي تعد متحفًا مفتوحًا للآثار الإسلامية.
وتمتلك مصر تراثًا مميزًا من الأغاني الشعبية، والإنشاد، وابتهالات النقشبندي، وقرآن المغرب بأصوات ملائكية لـ محمد رفعت والحصري وعبد الباسط، وكل أغاني رمضان الشهيرة، مثل: وحوي يا وحوي، حالو يا حالو، رمضان جانا، مرحب شهر الصوم، هاتوا الفوانيس يا ولاد، الراجل ده هايجنني، أهلًا رمضان، أهو جه يا ولاد، سبحة رمضان لولي ومرجان، والله بعودة يا رمضان، وتم البدر بدري، ويا بركة رمضان خليكى في الدار.
كذلك، فإن كل شخصيات رمضان الشهيرة صناعة مصرية: نيللي وشريهان، وفطوطة وعمو فؤاد، وجدو عبده، وبوجي وطمطم، وبكار والمغامرون الخمسة وظاظا وجرجير، وكذلك البرامج والمسلسلات، مثل: الفوازير والكاميرا الخفية وحكايات ألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية.
وإلى الجنوب من مصر حيث «المسحراتي» السوداني الذي يدق على طبلته منشدًا:
ومن أبرز عادات رمضان السوداني خروج الجيران إلى الشوارع بطعامهم وشرابهم ليتشارك معهم العابرون تناول التمر و«العصيدة» ومشروب «حلو مر»، وهو عصير من البهارات اللاذعة والباردة مذاقه يتراوح بين الحلاوة والمرارة، وفي المساء يُحيون حلقات الإنشاد في مدح النبي، وفي الجمعة الأخيرة من رمضان يُحيون ذكرى موتاهم في يوم «الرحمتات (الرحمة)»، فيتجمعون بعد الإفطار للابتهال والدعاء طلبًا للرحمة لموتاهم.
رمضان الخليج
ومن السودان نعبر البحر الأحمر إلى دول الخليج، حيث يدخل التمر في تحضير أصناف مختلفة من الحلويات والمعجنات الرمضانية، إلى جانب أطباق تراثية أخرى، مثل: «الهريس» و«الثريد» و«الجريش».
ويفطر السعوديون على «فكوك الريق»: التمر والماء، في ظل الأجواء الروحانية التي تميز رمضان «السعودي»، في رحاب الحرمين.
ومن السعودية نرتحل إلى الإمارات، حيث برج خليفة الأعلى في العالم، والذي يفطر سكانه وفق ثلاثة مواقيت تحددها الطوابق التي يقيمون فيها؛ بسبب فروق التوقيت بين الطوابق في صلوات المغرب والعشاء والفجر.
وتبدأ العادات الرمضانيّة الإماراتية ليلة 15 شعبان، والتي يُطلق عليها «حق الليلة»، حيث ينتقل الأطفال بين بيوت الجيران الذين يستقبلونهم بالحلويات والمكسرات فيجمعونها في حقيبة مطرزة بأشكال تقليدية.
ويشتهر رمضان الخليجي بعادة «الغبقة»، حيث تجتمع الأسر على موائد عشاء بعد صلاة التراويح، ليطعموا «المحمّر» أو «المجبوس» و«المشخول»، والحلويات مثل: «الساقو» و«لجيمات (اللقيمات)» و«النشاء» و«البلاليط» بالإضافة إلى التمر.
وفي رمضان الخليجي يحتفل الأطفال بيوم «الكرنكعوه (15 شعبان)»، فيرتدون الملابس التقليدية التراثية، ويذهبون إلى الأهل والأقارب والجيران ليحصلوا على بعض الحلوى والمكسرات، وهم يرددون: «عطونا الله يعطيكم… بيت مكة يوديكم… يا مكة يا لمعمورة… يا أم السلاسل والذهب يا نورة»، وفي رمضان يرددون أهازيج رمضانية، منها: «حياك الله يا رمضان… يا بو الكرع والبيذجان»، وكذلك يحتفلون بليلة «القرقاعون» أو «القرنقشوه»، وهي ليلة 15 رمضان، يخرجون لجمع قرقاعون رمضان من النقود والمكسرات والحلوى، وهم يرددون: «قرقاعون… عادت عليكم… يا الصيام… قريقشون حلاوة… على النبي صلاوة».
وفي البحرين من المألوف أن ترى في أزقة المنامة «دقاقي الحب» يرددون الأغاني التراثية وهم يزيلون القشرة عنه ليكون صالحًا لعمل «الهريس» الذي يكاد يكون اسمه مرادفًا لشهر رمضان، وقديمًا كانت حرفة «صفار القدور» من الحرف الشعبية المرتبطة برمضان البحريني؛ لتنظيف الأواني قبل رمضان، ويوقظ «أبو طبيلة» النائمين لتناول السحور، وفي الليالي الأخيرة من رمضان يردد: «يا لوداع يا لوداع يا رمضان… عليك السلام يا شهر رمضان».
وإلى الجنوب من الخليج حيث اليمن، والتي تتضمن الثقافة الشعبية بها ما يُسمى «تماسي رمضان»، وهي أهازيج وأغاني تمسية يؤديها الأطفال؛ ليكسبوا قروشًا قليلة، ومنها: «يا رمضان يا بو الحماحم… إدّي لبيّ قرعة دراهم… يا رمضان يا بو المدافع… إدّي لنا مخزن بضائع».
رمضان الأردني والعراقي
ننتقل إلى شمال أرض العرب، حيث يعكس رمضان الأردني اختلاط عادات الخليج العربي وبلاد الشام، خاصة في المائدة الرمضانية الأردنية التي تضم «المقلوبة»، و«المنسف» و«مسخن الدجاج» و«المفتول»، كذلك حين تزدحم العاصمة حول المسجد الحسيني الكبير، وأسواق البخارية واليمانية والعطارين.
ومن الأردن ننتقل إلى جارتها العراق، التي يتبادل أهلها على الإفطار عبارة «يا صايمين افطروا كشفوا النجانة واكلوا»، وفي شوارع بغداد يجوب بائعو الزلابية والبقلاوة و«شعر بنات»، وكذلك «أبو طبيلة» الذي تحول في بعض المناطق إلى فرق موسيقية من بضعة أشخاص يعزفون على آلات مختلفة، وينطلق الأطفال وهم يتغنون «ما جينا يا ما جينا حل الكيس واعطينا»، وقبيل السحور يُعدّون «التمن على الرشدة (الشعرية باللبن)»؛ لأنها تشبع وتقي من العطش، ويطلقون اسم «سحور اليتيمة» على آخر سحور في رمضان، وتُزيّن مائدتهم الرمضانية «مرقة الباميا» و«الدليمية» و«الدولمة».
رمضان الفلسطيني والسوري
وننهي رحلتنا في أقصى الشمال العربي، حيث رمضان الفلسطيني بين الأسوار والحصار والاحتلال، ورغم ذلك فما زال الفلسطينيون يُحيِون عاداتهم؛ ففي المدينة القديمة يذهبون بصحون الطعام إلى دواوين العائلات، وقبل أذان المغرب يتبادلون مع الجيران صحون الإفطار، فلو كانت عائلة فقيرة لم تعدّ طعامًا فقد يكون لديها قبل موعد «الفطرة» أكثر من 4 أصناف.
ورغم القصف والضنك فما زال المسحّر يوقظهم، ورغم مدافع الاحتلال ما زال المدفع الرمضاني صوته مميز، وما زال الفلسطينيون يزينون الطرقات، ويقيمون الولائم والإفطارات التي تتنوع فيها الأطعمة، خاصة «المقلوبة»، و«المسخن»، و«المفتول»، و«السماقية» و«القدرة الخليلية» و«المنسف» و«قطايف العصافيري والفستق الحلبي»، وما زالوا يشجعون أطفالهم على الصوم إحياءً لعادة «درجات الميدنة»، أي مأذنة المسجد، وهي ما يعادل نصف نهار ثم يتدرج الطفل حسب قدرته.
وبالمعاناة نفسها يأتي رمضان السوري بعد أعوام الحرب، التي أنتجت ضوائق مادية أثّرت على إحياء تقليد سوري يسمى «السكبة»، يتبادل فيه السوريون أطعمة الإفطار والسحور؛ فقد تقلّصت كمياتها، وفي بعض الأحيان تعيد العائلة الطبق؛ لأنها لا تملك رده، لذا تغيّر رمضان، وامتزجت فرحة الصوم بحزن الفقد، وسط غياب الأحبة، وقلة رواج حلويات رمضان، مثل «خبز المعروك» و«الناعم»، و«النمّورة». وحتى لا تغيب «لمة» رمضان يتشارك السوريون الإفطار والسحور «أونلاين»، من خلال مجموعات «إفطار افتراضي» على السوشيال ميديا.
تختلف الأرض والثقافة فتختلف معها طقوس رمضان، وتبقى أرض العرب «كرنفال» رمضانيًا يعبر عن التميز والتفرد والأصالة، وحتى مع ظروف الحجر والعزل والحظر فإن التراث لن يموت، والثقافات المحلية والطقوس والتقاليد ستحيا وستُحيا.