دراما رمضان 2020: من الحنين للماضي إلى القفز للمستقبل
دار عالم الدراما العربية منذ عشرات السنين ما بين معالجة الحاضر بمشكلاته وقضاياه المختلفة، سواء بشكل اجتماعي أو بوليسي أو حتى كوميدي، وما بين العودة للماضي واستعادة الكشف عن شخصياتٍ منسية منه، أو عرض حالات خاصة للمجتمع فيه وكيف كانت، وقدم لنا خلال ذلك العديد من الأعمال المهمة والتي لا تنسى مثل ليالي الحلمية وزيزينيا وهوانم جاردن سيتي وغيرها من نماذج عكست الواقع بشكلٍ صادق. وحازت إعجاب المشاهدين والنقاد على السواء. ومع كل موسم رمضاني يتجدد إقبال المشاهدين على الجديد من هذه المسلسلات متوقعين أن يشاهدون فيها المختلف والمتميز.
في رمضان 2020 يتناقص حضور الحاضر ويطغى الماضي ويظهر المستقبل بشكل لم نره في الدراما المصرية من قبل، لكن وراء الهرب إلى أزمنة أخرى، هل قدمت مسلسلاتنا جديداً؟
ليالينا 80: استثمار ميلودرامي للثمانينيات
أصبحت العودة إلى الماضي القريب والحنين للثمانينيات وما حولها أمرًا معتادًا في المسلسلات المصرية، ربما تكون البداية مع مسلسل «ذات» المأخوذ عن رواية الأديب الكبير صنع الله إبراهيم، والذي كتبت له السيناريو مريم نعوم واستطاع أن يحظى على إعجاب المشاهدين والنقاد، لما رسمه من صورة واقعية للمجتمع المصري وما حدث له من تغيرات في أعقاب ثورة يونيو 1952 حتى يناير 2011. في نفس العام كان مسلسل «بدون ذكر أسماء» للكاتب الكبير وحيد حامد، والذي دار أيضًا في حقبة الثمانينيات في مصر ورصد بشكل واقعي أحوال الطبقات البسيطة والفقيرة في القاهرة وما حولها، وكيف أثرت عليهم التغيرات السياسية والاجتماعية في هذه الفترة المهمة.
هذا العام يقدم الكاتب أحمد عبدالفتاح تجربة مختلفة تمامًا عن كل ما كتبه من قبل في مسلسل «ليالينا 80» من بطولة إياد نصار وغادة عادل وخالد الصاوي وإخراج أحمد صالح. ويبدو على المسلسل منذ الحلقات الأولى الاهتمام المبالغ فيه بإبراز أجواء وتفاصيل الفترة الزمنية التي تدور حولها أحداث المسلسل أكثر حتى من رصد تفاصيل الشخصيات وأحوالهم، فنحن منذ الحلقة الأولى نشهد حادثة مقتل السادات 1981، وكيف كان أثرها على الناس في الشارع المصري، وكان التركيز الأكبر على إبراز أسماء المطاعم والأماكن الدالة على ذلك الوقت مثل «ومبي» و«جروبي» وإقحام بعض التفاصيل غير المهمة في سياق الدراما مثل شريط «شبابيك» لمحمد منير، وملاهي «كوكي بارك» وغيرها.
باستثناء تلك التفاصيل الزمنية، يدور المسلسل حول ثلاث عائلات من الطبقة المتوسطة تحدث لهم فجأة وفي يوم واحد عدد من المصائب التي تغير مصائرهم، ويسعى الكاتب والمخرج من خلال تلك الحكايات التي تتقاطع وتتصل إلى أن يعكس حال المجتمع المصري في تلك الفترة، وكيف سيغير في حياتهم السفر للخليج وشركات توظيف الأموال وغيرها من ظواهر اجتماعية واقتصادية أثرت على مستوى المعيشة بشكلٍ كبير، بل وفي عادات وتقاليد تلك العائلات.
انشغل مسلسل «ليالينا 80» منذ الحلقات الأولى بتصوير أجواء ميلودرامية مليئة بالحزن والصراخ والنحيب بشكلٍ لم يكن مفهومًا ولا مبررًا، فبدا وكأنه يستجدي المشاهدين للتأثر والبكاء، في الوقت الذي لم يسع لرسم الشخصيات بشكلٍ متقن، فجاء المسلسل مفككًا بشكل كبير، وإن بقيت حالة الحنين للماضي جاذبة لبعض المشاهدين، بالإضافة إلى حكايات أبطال المسلسل وما سيجري بينهم، بين زوج يتزوج امرأة أخرى دون علم زوجته، وآخر يعيش على ذكرى زوجته المتوفاة، وفتيات يسعين للثراء السريع من خلال علاقات مع أصحاب النفوذ والجاه.
الفتوة: استعادة أجواء عصر الفتوات
على الرغم من تقليدية الفكرة وكونها مطروحة في الدراما أيضًا بكثرة، حيث اعتدنا على مشاهدة عالم الحارة المصرية والفتوات منذ ملحمة الحرافيش المأخوذة من رواية نجيب محفوظ، والتي قدمها الفنان نور الشريف وأخرجها للتلفزيون المخرج حسام الدين مصطفى عام 1986 في ثلاثة أجزاء، والتي شاهدنا فيها صعود الفتوة من البداية الفقيرة تمامًا حتى صنع بقوته مكانًا بارزًا، وكيف استغله التجار والأعيان للاستفادة منه، حتى أصبح هو الفتوة، وما دار حوله من قصص وحكايات الناس وعلاقاتهم به من الفقراء والبسطاء حتى الكبار والسادة.
إلا أن التجربة التي خاضها المؤلف هاني سرحان هذا العام بمسلسل الفتوة بطولة ياسر جلال ومن إخراج حسن المنباوي جاءت لتقدم عالم الفتوات وحي الجمالية المصري القديم في 1850 وما بعدها بصورة مختلفة شديدة الثراء والتميز، بدءًا من ديكورات القاهرة القديمة المتقنة التي قدمت للمسلسل صورة بصرية فريدة من نوعها، وصولاً للتنوع والثراء في رسم شخصيات الأحياء الشعبية والعلاقات بين الفتوات المتسلطين والتجار والأعيان والبسطاء فيها، وانتهاءً بحكاية المسلسل نفسها ودورانها حول البطل (الفتوة) حسن الجبالي وعلاقته بفتوات الجمالية في ذلك الزمان.
اختار هاني سرحان أن يبدأ مع بطل المسلسل ياسر جلال من منطقة تراوح بين القوة والضعف، فلم يكن هو الفتوة الذي يعتمد عليه أهل الجمالية لحمايتهم والدفاع عنهم، ولكنه في الوقت نفسه ابن الفتوة الذي كان يسمى (فتوة الغلابة)، واستطاع أن يجعل من نفسه نصيرًا للغلابة والضعفاء في الظل من خلال شخصية (الملثم) الذي يظهر في الخفاء وينصر الفقراء والضعفاء، وتدور أحداث المسلسل في ذلك الصراع الخفي بين الجبالي وفتوات الجمالية وسعيهم للكشف عن شخصية (الملثم).
من جهة أخرى استطاع هاني سرحان بالتعاون مع مخرج العمل حسن المنباوي أن يصوّر طبقات المجتمع المختلفة في ذلك الوقت بشكلٍ بانورامي، وأن يضع شخصيات العمل جميعًا على قدم المساواة، فتعرفنا من خلاله على عالم -العربجية- المشردين، وكيف تكون حياتهم، ومحاولاتهم للتمرد على فقرهم، كما عكس عالم (المشاديد) وهم الرجال الأقوياء الذين يعتمد عليهم الفتوة في فرض سلطته، كما عكس طرفًا من عالم الغوازي من خلال شخصية جميلة التي تعمل في الرقص لكي تتمكن من العيش.
النهاية: القفز إلى المستقبل
من عوالم الديستوبيا وروايات نهاية العالم التي يبدو أنها أصبحت ظاهرة في الكتابة الروائية الحالية، يخوض عمرو سمير عاطف تجربته المختلفة والجديدة والتي ربما تعد الأكثر إثارة للجدل كانت من خلال مسلسل النهاية الذي قدمه باعتباره أول مسلسل خيال علمي مصري، والذي قفز به إلى المستقبل مائة عام، ليرسم صورة متخيلة للعالم بعد أن أصبح كل شيءٍ فيه يدار بواسطة التكنولوجيا، يتغيّر فيه شكل العالم وينتهي سيطرة الحكومات والدول العظمى ليحل محلها شركات مصدرة للطاقة لا تختلف كثيرًا في فرض سيطرتها وهيمنتها على الشعوب عن الأنظمة الديكتاتورية القمعية، بل يضاف إلى ذلك أن التعليم أصبح انتقائيًا ومحددًا لفئة خاصة من المجتمع.
المشكلة الأساسية التي واجهت مسلسل النهاية في ظني أنه رغم التصوير والإخراج المبذول لكي يصور لنا المستقبل فإن الأبطال والشخصيات ظلت أسيرة للحاضر الراهن ومشكلاته بشكلٍ غريب، بل ومثير للشفقة أحيانًا، فلا يعقل أن يكون حول الناس كل هذا التقدم التكنولجي المذهل، والطائرات التي تطير بين الحوار والشاشات الرقمية التي تعمل بضغظة زر، ولا يزالون يعانون من قلة المرتبات أو من مشكلات عاطفية ساذجة، حتى أن الروبوت الوحيد الذي يتم تصنيعه يكون من أجل علاقة حب غير مكتملة، في محاولة من عشيقة المهندس البطل للحصول عليه بعد أن فشلت في الزواج منه! ولعل أكثر مشكلة تواجه هذا النوع من المسلسلات ليس مقتصرًا على الفكرة الأساسية التي ينطلق منها سواء كانت في الماضي أو الحاضر، وإنما المشكلة في دوران قصة المسلسل كلها وأهم خيوطها الرئيسية على بطل واحد هو المهندس زين يوسف الشريف، فنحن لا نتعرف على «عائلة» غير عائلته، ولا يمنح السيناريو أي شخصية من شخصيات العمل أبعادًا أكثر من علاقتهم به، سواء كانوا أصحاب الشركة الكبار، أو حتى البسطاء الذين تمكنوا بحيلة شديدة السذاجة من صنع روبوت يشبهه ويحمل عقله و«وعيه»!!
لا شك أن المشاهد سيربط ويذكر أثناء مشاهدة مسلسل النهاية عددًا من أفلام الخيال العلمي، وأفلام السفر في الزمن أو الحديث عن المستقبل، وكيف سيكون أثر التكنولوجيا ووسائل الاتصال على العلاقات بين الناس، سواء كان ذلك من خلال الأعمال السينمائية الشهيرة مثل Her أو الدرامية المختلفة مثل Black Mirror أو WestWorld وغيرها من أعمال استطاعت أن ترسم صورًا مختلفة للمستقبل وكيف ستكون حياة الناس مع تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل في أساليب حياتهم وطريقة تعاملهم.
وهكذا رغم اختلاف الأفكار والحكايات يبدو لنا أن المؤلفين لا يزالون أكثر قدرة على التعبير عن الماضي وسرد حكاياته والتعبير عنه، أما القفز في الزمن والانتقال بالخيال إلى عالم المستقبل فرغم تلك المحاولات الجادة وذلك الجهد المبذول فيه لإخراج عمل مختلف فإنه لم يحقق المرجو منه، إذ يبدو بعد كل هذا أن المستقبل لا يزال بعيدًا.