دراما رمضان 2019: أيهما أسبق «الفلاش باك» أم الفكرة؟
في مسلسل «رأفت الهجان»، يبدأ العمل من نقطة ساخنة وغامضة هي اكتشاف زوجة رجل الأعمال الإسرائيلي أن زوجها عميل مخابرات مصري، ثم تدور أحداث المسلسل في جزئيه الأول والثاني عبر «فلاش باك» طويل حول حياة هذا الرجل منذ العثور عليه وتجنيده وحتى ذهابه إلى إسرائيل وانخراطه في المجتمع وتحوله إلى أسطورة مخابراتية.
ثم يحدث أمر غاية في الغرابة خلال الجزء الثالث ليس له أي تفسير درامي، وهو دخول السيدة سمحون –وهي الطرف المحكي له- إلى أحداث الجزء الثالث دون أي مراعاة درامية لما تم الاتفاق عليه بين المشاهد وصناع العمل في الجزئين الأول والثاني.
تطرح لنا هذه الواقعة عدة علامات استفهام أبرزها مدى ملاءمة شكل الفلاش باك لفكرة عمل مثل رأفت الهجان، وهو بالمناسبة شكل ملائم تمامًا لسبب بسيط أن حياة هذا الرجل كانت حياة سرية لم يكن لها أن تتكشف إلا بعد وفاته، كما أن جزءًا كبيرًا من أسطورته تشكل عبر قدرته على إخفاء هويته الحقيقية طوال سنوات، وبالتالي تتبلور الرسالة الوطنية التي أراد صناع العمل طرحها عبر هذه الملحمة.
أما لماذا أقدم صناع العمل على ارتكاب معصية درامية مثل دمج شخصية المحكي لها في زمن الحكاية القديم؟ فذلك بلا شك لا علاقة له بأي منطق درامي والمراد من هذه المقدمة هو الإشارة إلى أن بعض صناع المسلسلات يقعون في فخاخ تخص توظيف الفلاش باك بشكل تلتبس فيه وظيفته مع الفكرة فيحولونه إلى غاية وليس وسيلة حكي.
وبالنظر إلى موسم 2019 الرمضاني سوف نجد أنه واحد من المواسم التي يلعب فيها الفلاش باك دورًا أساسيًا في العديد من المسلسلات منها على سبيل المثال: «قابيل»، و«زي الشمس»، و«قمر هادي»، و«علامة استفهام»، و«آخر نفس»، و«حكايتي»، و«لمس أكتاف» وذلك بمساحات متفاوتة من الكثافة، فالبعض يعتمد عليه اعتمادًا كليًا في السرد والبعض الآخر يستغله لتمرير معلومة أو كشف سر أو تأصيل علاقة أو عرض تاريخ، سواء كان ذلك مرتبطًا ارتباطًا عضويًا بالفكرة الرئيسية لكل عمل أم لا، وسواء كان الفلاش باك سببًا في تعطيل الإيقاع أو تعطل التدفق الزمني، أو تسكين الصراع لحين الانتهاء منه، وكلها من آفات استخدام هذه الوسيلة السردية الخطيرة دون وعي حقيقي أو حس جمالي.
وبالتطبيق على ثلاثة من أبرز أعمال الموسم الحالي يمكن أن نتوقف بالتساؤل حول ماهية التوظيف الدرامي لعنصر الفلاش باك، ومدى ارتباطه بفكرة كل عمل كشكل ضروري للحكاية.
أشباح «قابيل»
إن خطورة الفلاش باك، خاصة فيما يتعلق بشرح دوافع الشخصيات، هي أنه يؤدي إلى تسكين الصراع وخفوت الفعل الدافع لتحريك الدراما إلى الأمام بكامل هيئتها (نمو الشخصيات – تطور الحبكة – استكمال طرح الفكرة- دفع الأحداث نحو الذروة) والنموذج الأمثل لذلك هو مسلسل «قابيل». فرغم أنه يتم إبلاغنا حواريًا على الأقل من قبل شخصيات كثيرة عن ماضي كل من سما وآدم،إلا أن حلقاته العشر الأخيرة تصر على إعادة تدوير نفس المعلومات بشكل بصري/تمثيلي، رغم أن السرد قد تجاوزها بالفعل وترسخت كقناعات لدى المشاهدين بأسباب ما يفعله سما وآدم، بل اطلعنا أيضًا على مصائر الشخصيات التي كانت وراء حركتهم المضادة باتجاه القتل والتنكيل بمن تسببوا في زعزعة قاعهم المظلم.
من الضروري أن ينتبه الكاتب والمخرج لحساسية التعامل مع سؤال السرد: «من الذي يتذكر؟ ولماذا الآن»،وكذلك على تدفق الطاقة اللازمة لتحفيز المتلقي على الاستمرار. إن السؤال السردي الغائب دومًا لدى الكتاب فيما يخص مشاهد الفلاش باك هو: «ترى لو تم حذف هذه المشاهد، هل يمكن أن يتدفق السرد بلا فجوات مقلقة للمشاهد؟»
هل كان المُشاهد سيفتقد هذه المشاهد فيما يخص تطور الحبكة، خاصة مع انتقال السؤال الدرامي من: «من هو قابيل؟»وهو السؤال الأهم منذ بداية الأحداث إلى: «كيف سيعثر طارق على آدم وسما ويثبت براءته؟»وهو السؤال الذي يستمر معنا خلال النصف الثاني من المسلسل ويتسبب في خفوت درامي وإيقاعي واضح، خاصة أنها مساحة زمنية كبيرة قام صناع العمل بحشوها بالكثير من التفاصيل المستدعاة وغير المهمة لأن النتائج فيها تجاوزت الأسباب والسر انكشف بالفعل.
اقرأ أيضًا: مسلسل «قابيل»: ألم يكن بالإمكان ما هو أفضل؟
يبدو خفوت الإيقاع واضحًا أيضًا مع توقف ظهور الأشباح لشخصية طارق، بل مع توقف ظهور شخصية طارق نفسها إلا في لقطات قصيرة في مقابل إفساح المجال بصريًا وحواريًا لمشاهد حركة الثنائي في محاولة للهرب إلى الخارج، أو في مشاهد الفلاش باك الطويلة خاصة لأنه صار من الصعب على صناع العمل أن يفردوا زمنًا أكثر اتساعًا لظهور الأشباح بعد أن ثقلت كفة الثنائي سرديًا بمشاهد الحاضر والماضي، وهو ما أدى إلى توقف سير الأحداث باتجاه الذروة التي هي مطمح الحركة الدرامية خاصة في الفصل الأخير.
وهو ما أشرنا إليه فيما يتعلق بانتقال السؤال الحيوي النابض بالحركة «من هو قابيل؟»و«من هي الضحية القادمة؟» -ومدى ارتباط هذين السؤالين بفلسفة قابيل في تحقيق العدالة بشكل دموي وفردي- إلى أسئلة أقل خفوتًا مثل: «من هي شريفة العبد؟»و«من قتلها؟»وذلك من باب الحشو البوليسي، واستحضار جثة جديدة إلى مشرحة المسلسل رغم أنه كان من الواضح جدًا أنها قتلت على يد أبيها والسيدة التي صارت زوجته فيما بعد.
خرائط «قمر هادي»
في مسلسل «قمر هادي» يبدو الفلاش باك ظاهريًا وعلى مستويات كثيرة، ملتحمًا عضويًا مع عملية تطوير الحبكة وكشف دوافع الشخصيات وعرض معلومات إضافية خافية على المتلقي في توقيتات معينة تناسب عملية الكشف البطيء عن الحقائق من أجل الحفاظ على الغموض المطلوب للنوع.
ولكن في تأثره الواضح بفيلم «سماء بلون الفانيلا Vanilla Sky»، إنتاج 1999 وبطولة توم كروز، يقع الفلاش باك أحيانًا في أزمة السؤال الذي سبق وأشرنا إليه: «من الذي يتذكر؟»فمن المعروف أنه عند تذكر شخصية لموقف معين فإنها تتذكر فقط ما حدث معها أو أمامها أو ما قيل لها، ولا يمكن بأي حال أن تعرف هذه الشخصية ما تفكر فيه الشخصيات التي يتم تذكرها، إلا لو صرحت هذه الشخصيات الأخرى بما في رأسها.
وعليه فإننا على سبيل المثال في مشهد تذكر هادي لمشهد مواجهة زوجة أخيه كاميليا والذي هددها فيه بفضح علاقتها بمروان ابن عمه وكان نتيجته إقدام كامليا على الانتحار قفزًا من الشرفة، في هذا الفلاش باك الطويل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعرف هادي ماذا تذكرت كاميليا وهي تسقط من الشرفة في لقطات سريعة بالأبيض والأسود عن علاقتها بزوجها عصام وحبيبها مروان، لأنها ببساطة ذكريات تخص كاميليا فقط عند موتها!
ولكن نتيجة تأثر المسلسل بالفيلم الأمريكي فإن الكاتب والمخرج يحاكيان مشهد سقوط توم كروز من فوق ناطحة السحاب وقت أن كان يريد أن يستيقظ من الحلم الجلي الذي تورط فيه بإرادته بعد أن رفض الامتثال لنتائج أفعاله في الواقع، وكما تمر ذكريات حياته كلها أمام عينيه تمر ذكريات حياة كاميليا أمام عينيها بنفس الأسلوب، ولكن من ذاكرة هادي الذي يبدو من المضحك أنه اطلع على هذه اللحظات الداخلية أثناء سقوط كاميليا من الشرفة.
هذه الرغبة في المحاكاة دون أخذ ذاكرة الشخصية التي تحكي في الاعتبار صنعت مثالًا من أمثلة السقوط في فخ الفلاش باك داخل الفلاش باك، وهي واحدة من المشكلات الأساسية التي يؤدي إليها استخدامه دون حساب لحساسية دوره، بل لمجرد إخفاء الماضي ثم كشفه من أجل تحقيق الإثارة، وكأنه هدف في حد ذاته وليس وسيلة من وسائل الحكي.
إن مسلسل «قمر هادي» هو نموذج لأزمات الحكي غير الخطي عبر الفلاش باك، حيث تتذكر الكثير من الشخصيات مواقف لشخصيات أخرى هي نفسها لم تكن حاضرة أثناء حدوثها، مثل أن تتذكر شهد ابنة عم هادي ذكريات تخص حديث زوجته مريم مع صديقتها سلمى في فرح مريم وهادي، ونكتشف من داخل ذكريات شهد طبيعة الكلام المعسول الذي أغوى به أخوها مروان كاميليا زوجة ابن عمه، ونكتشف غيرة عصام من جلوس مروان مع زوجته،كل هذا بينما لم تكن شهد حاضرة لأي من هذه المواقف ولم تستمع لأي من تلك الحوارات بشكل يجعلها تتذكرها فيما بعد.
ولكنها مجرد الرغبة في الكشف عن بعض التفاصيل التي تخص الشخصيات حتى ولو لم يكن ملتزمًا بالمنطق السردي الذي يجعلنا نتقبل أن هذه الشخصية تتذكر هذه المعلومة تحديدًا إلا إذا كانت حاضرة بالفعل في المشهد.
ثم يبرز سؤال: لماذا يتجاهل الكتّاب في تعاطيهم مع الفلاش باك عناصر مثل الذاكرة الجمعية – التي لا تلزم السرد بذكريات شخصية بعينها- أو لماذا لا يتم الاستعانة بعنصر الانتقال الحر بين الأزمنة دون الالتزام بذاكرة شخص معين كل ما يفعله أنه يشخص بصره إلى الفراغ ثم يستغرق في ذكريات لم يعشها أو يعرف عنها شيئًا.
إن «قمر هادي» تستهويه لعبة الفلاش باك حتى أن الشخصيات تتذكر مواقف قريبة زمنيًا عاشتها مع نفس الشخصيات التي تتحدث معها، كأن يتذكر هادي حواره مع هنا وأبيها حول اتفاقهم على حماية فيروز ابنته من تهديدات رجل المافيا فيليب.
وهي معلومة مجانية لا حاجة للشخصية بتذكرها لأنها ترد واضحة فيما بعد عندما نجد هنا بالفعل تجلس مع فيروز في البيت الكبير، ولكن الإصرار على التعامل مع الفلاش باك على اعتبار أنه لعبة مونتاجية غالبًا ما يفسد مزاج المشاهدة الذي يجب أن يكون من أولويات صناعة أي عمل. فمن بين أعداء المشاهد هو الخلط غير المحسوب بين الأزمنة، وتثبيت الصراع من أجل طرح المعلومات بشكل يجعل من محاولة فهم الحدث أو متابعة الحكاية شجارًا ذهنيًا وليس تفاعلاً أو مواقف نفسية وعقلية متبادلة بغرض الفهم والإمتاع.
ما هو الذي «زي الشمس»؟
يعتمد مسلسل «زي الشمس» اعتمادًا أساسيًا على الفلاش باك كعنصر سردي في عملية شرح تاريخ الشخصيات وعلاقتها ببعضها، بل وعرض جانب ضخم من الأحداث التي انطلقت من قبل أن يبدأ المسلسل بالفعل.
كثيرًا ما يلجأ صناع الأعمال التي تحتوي على جريمة غامضة أو سر خطير إلى الهجوم على المشاهد من خلال نقطة ساخنة (كجريمة قتل فريدة) ثم تدريجيًا تبدأ رحلة العودة إلى الماضي كجزء من اكتشاف الحاضر وتمرير المعلومات التي لم تكن لتصنع حدثًا ساخنًا للبداية.
في هذا السياق يمكن أن نذكر أيضًا أنه نفس الأسلوب الذي اتبعه الكاتب هاني سرحان في صياغته للحلقة الأولى من مسلسل «لمس أكتاف»، إذ بدأ من خلال عملية بحث البطل عن ابن صديقه المتقاعد، وقام الكاتب بمعالجة المعلومات التي يجب أن تتوفر لبيان مدى عمق العلاقة عبر الفلاش باك من أجل أن نفهم دوافعه في البحث المحموم عن ابن الصديق، والتي يأتي على رأسها شعوره بالذنب بعد أن تسبب في إصابته بالشلل.
البداية من نقطة هجوم ساخنة رغم كل محاسنها في تحفيز المشاهد إلا أنها تلزم الكاتب باستخدام الفلاش باك بكثافة من أجل الكشف عن أجزاء كثيرة من البناء الدرامي الذي وصل بالأحداث إلى هذه النقطة، ولكن تصبح الأزمة في الإفراط أو الاستسهال بما يشكل عبئًا على الإيقاع وخطورة على تدفق الأحداث.
يطرح الفلاش باك في «زي الشمس» سؤالاً هامًا: أيهما أهم بالنسبة لتطور الحبكة والوصول إلى الذروة والكشف عن فكرة العمل الأساسية؛ هل هي الأحداث التي وقعت قبل نقطة الهجوم الساخنة، أم هي الأحداث التي تلي ذلك، أم كلاهما؟
أولاً، دعونا نؤكد على أن العديد من التفاصيل المرتبطة برسم الشخصيات والكشف عن تاريخ علاقتها ببعضها يمكن أن يتكشف بسهولة عبر مشاهد الحاضر التي من المفترض أن تصبح جزءًا من عملية تطوير الحبكة، ولا تحتاج إلى كم هائل من الفلاش باك الذي يجعلنا نشعر أن العمل يدور في الماضي وليس الآن.
ثانيًا، الفلاش باك هو أسلوب من المفترض أن ينطلق من كونه الشكل الأمثل لمعالجة الفكرة، ما هي إذن فكرة مسلسل «زي الشمس» التي تجعل من كثافة الفلاش باك ضرورة سردية لا غنى عنها بالنسبة للطرح، وليس مجرد إلقاء ظلال من الشك على كل الشخصيات للحفاظ على سؤال: من القاتل؟
هل الفكرة هي سؤال الحرية الفردية التي يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى تدمير نفسه ومن حوله كما رأينا مع فريدة التي أودت بها حريتها غير المسئولة إلى القتل؟
هل هو سؤال الثواب والعقاب على الخطايا التي نرتكبها في الماضي فتودي بنا إلى التهلكة ماديًا ومعنويًا؟كأن يصبح موت فريدة هو عقابها على خيانتها لأختها ثم خيانتها لزوجها وهكذا.
سواء كان هذا السؤال أو ذاك، فإن جزءًا من أزمة المسلسل هو أن الشخصيات حول فريدة هي التي تعاني عقب موتها وليس فريدة نفسها إذا رجحنا الثواب والعقاب.أما فيما يخص الحرية غير المسئولة فلم تقدم المعالجة أي جديد بخصوص هذه التيمة، خاصة مع موت فريدة المأساوي كنهاية منطقية لحياة بها الكثير من الفساد النفسي.
إن محاولة استعراض حياة فريدة الفاسدة من وجهة نظر كل من حولها واستعراض العلاقات التي نشأت في ظل هذا الفساد الروحي أثر كثيرًا على إيقاع الحكي فيما يخص مشاهد الحاضر، حتى أن العديد من الحلقات لم تحتوِ سوى على حدث واحد فقط، كالقبض على الزوج السابق عمر، أو مطاردة العاشق المهووس سيف، ثم تستمر مشاهد الفلاش باك مرة أخرى بينما تصبح مشاهد الحاضر عبارة عن أن نور تحكي لأمها ما حدث،ثم تحكي لمصطفى، وتحكي لصديقتها، رغم أننا رأينا ما حدث بالفعل،ولم يعد لدينا ما نريد أن نعرفه عنه، ولسنا في حاجة لمشاهدة رد فعل كل شخصية إلى أن تنتهي الحلقة على لا حدث.
بل إننا في بعض الاحيان نفاجأ أن الحلقة انتهت أثناء الفلاش باك وهو أمر خطير جدًا، لأن المتلقي لا يسعه مع بداية الحلقة التالية أن يفرق بين الحاضر والماضي، فيصاب بدرجة من التشوش المزعج التي تستهلك -دون داعٍ فني- جانبًا من طاقته الذهنية في فصل الأزمنة عن بعضها.
خلاصة القول إنه ربما كان على صناع الدراما قبل أن يقدموا على استخدام الفلاش باك بكثافة أو حتى بشكل عابر، أن يتساءلوا حول مدى ارتباط هذا الشكل من أشكال السرد مع أصل وجوهر العمل الذي يطرحونه لكي لا يتحول الأمر إلى: «لدينا فلاش باك ونريد له فكرة».