ماذا تعني صفقة رفع الدين العام الأمريكي؟
بعد شهور من الجمود وأسابيع من المفاوضات المتوترة، أقر الكونجرس صفقة سقف الديون قبل أيام فقط من نفاذ الأموال الكافية من وزارة الخزانة، لدفع جميع التزامات الدولة في الوقت المحدد بالكامل، حيث توصل الكونجرس إلى اتفاق بشأن التصويت على هذه الصفقة «مشروع قانون» الذي ضم قائمة بها 11 تعديلاً، وتم إقرار الصفقة في مجلس النواب بأغلبية 314 صوتاً مقابل 117، ومجلس الشيوخ 63 صوتاً مقابل 36، ثم التوقيع عليه من قبل الرئيس بايدن ليصبح قانوناً، فمن المتوقع أن تصل الحكومة إلى حد الاقتراض يوم الاثنين المقبل 5 يونيو.
تحمل الولايات المتحدة الأمريكية ديونا ضخمة منذ نشأتها، حيث بلغت الديون المتكبدة خلال الثورة الأمريكية عام 1791 أكثر من 75 مليون دولار أمريكي، وعلى مدار السنوات التالية استمرت الديون في النمو حتى عام 1835 بدأت تتقلص بشكل ملحوظ بسبب بيع الأراضي المملوكة للحكومة الفيدرالية، والتخفيضات في الميزانية، بعد ذلك بوقت قصير تسبب الكساد الاقتصادي في نمو الدين مجدداً، حيث ارتفع من 65 مليون دولار عام 1860 إلى مليار دولار عام 1863، ونحو 2.7 مليارات دولار بعد وقت قصير من انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865، ثم نما الدين بشكل مطرد حتى القرن العشرين ووصل إلى ما يقارب 22 مليار دولار بعد أن مولت أمريكا مشاركتها في الحرب العالمية الأولى.
كذلك تسببت الأحداث الأخيرة في ارتفاع الديون، والتي تشمل أفغانستان وحرب العراق، والركود الكبير لعام 2008، ووباء COVID 19، من عام 2019 حتى عام 2021 حيث زاد الإنفاق نحو 50% والتخفيضات الضريبية وبرامج التحفيز، وزيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض الإيرادات الضريبية، كل ذلك أدى إلى زيادة حادة في الدين الوطني.
الدين الوطني الأمريكي
الدين الوطني الأمريكي هو المبلغ المالي الذي اقترضته الحكومة الفيدرالية الأمريكية لتغطية الرصيد المستحق من النفقات المتكبدة بمرور الوقت، في سنة مالية معينة (fy) عندما تتجاوز النفقات الإيرادات ينتج عجز الميزانية، ولدفع هذا العجز تقوم الحكومة بالاقتراض عن طريق بيع الأوراق المالية القابلة للتداول، مثل سندات الخزانة، والأذون، والأوراق النقدية، وسندات الخزانة ذات الأسعار العائمة، والأوراق المالية المحمية من التضخم (TIPS)، ومع تراكم هذا الاقتراض بالفوائد المرتبطة به، والمستحقة للمستثمرين الذين اشتروا هذه الأوراق ينمو الدين القومي.
ويتكون الدين القومي من أنواع مختلفة من الديون؛ ديون قابلة للتسويق وأخرى غير قابلة للتسويق، وما إذا كانت مملوكة للحكومة أو ملكاً للأفراد، كما أن الدين الوطني لا يشمل الديون التي تحملها الولايات والحكومات المحلية، مثل الديون المستخدمة في سداد البرامج الممولة من الدولة، ولا يشمل أيضاً الديون التي يحملها الأفراد مثل بطاقات الائتمان الشخصية أو الرهون العقارية.
كيف تنامى الدين الأمريكي؟
كان أكبر عجز سجلته الولايات المتحدة في حالات الطوارئ الوطنية مثل الحروب أو الكساد الاقتصادي الكبير، بسبب زيادة الإنفاق والدعم في مثل هذه الظروف، هناك ثلاثة عوامل رئيسية أدت إلى تنامي ديون الولايات المتحدة؛ أولاً، تضغط الاتجاهات الديموغرافية على ميزانية الحكومة الفيدرالية خاصة على البرامج الحيوية التى تخدم الأمريكيين الأكبر سناً والضعفاء مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية.
وثانياً، يعتبر نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة من أغلى الأنظمة والأكثر تكلفة عالمياً، لذا من المتوقع أن يحسن حياة الأمريكيين صحياً وكذلك يساعد على استقرار التوقعات المالية والاقتصادية، كذلك الرعاية الصحية من أهم البرامج التى تهتم بها الحكومة الفيدرالية لمستقبل مالي واقتصادي أفضل، فهي تمثل ما يقرب من خمس الاقتصاد بالكامل، وهو ثاني أسرع جزء من الميزانية نمواً.
أما العامل الثالث فيتعلق بعدم كفاية الإيرادات؛ إذ لا يولد نظام الضرائب الأمريكي الذي أقره صناع القرار عائداً اقتصادياً كافياً لتغطية الإنفاق، لذلك هذا الاختلال السريع النمو بين النفقات والإيرادات يؤدي إلى عجز سنوي متزايد وبالتالي زيادة رصيد الدين الوطني.
سقف الدين
سقف الدين هو المبلغ الذي يمكن للخزينة أن تقترضه لدفع الفواتير المستحقة ودفع الاستثمارات المستقبلية، وهو أيضاً قيد يفرضه الكونجرس الأمريكي على هذه الديون الوطنية التي تتحملها الحكومة الفيدرالية، بمجرد الوصول إلى هذا القيد أو السقف لا تستطيع الحكومة أن تقترض وتفقد قدرتها على تمويل البرامج والخدمات ودفع الفواتير، وقد تم رفع سقف الدين عدة مرات منذ عام 1960، 49 مرة في عهد الرؤساء الجمهوريين، و29 مرة في عهد الرؤساء الديمقراطيين.
وفي عام 2017، كان حد الدين الفيدرالي حوالي 20.5 تريليون دولار أمريكي، ووصل عام 2021 إلى 28.4 تريليون دولار أمريكي، ولكن هناك ما يسمى بـ«التدابير الاستثنائية» وهي عبارة عن أدوات محاسبية تحد من استثمارات معينة حتى تتمكن الحكومة من سداد التزاماتها المالية لفترة محدودة من الوقت، وهذه الأداة تستخدمها وزارة الخزانة بعدما يصرح بها الكونجرس الأمريكي لتعليق مؤقت لبعض الديون داخل الحكومة.
الخلاف حول سقف الدين
أصبح سقف الدين الأمريكي أحد أبرز القضايا السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة، حيث وصل الدين العام أبريل/نيسان 2023، حوالي 31.457 تريليون دولار أمريكي، بزيادة حوالي تريليون دولار عن العام السابق حيث كان 30.4 تريليون دولار، لذلك أصبحت قضية الديون موضوعاً مثيراً للجدل داخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية، مع وجود خلاف بين الحزبين الرئيسيين «الديمقراطي والجمهوري»، كل منهما يرمي اللوم على الآخر في زيادة الديون.
استمر الجمود بين الحزبين في الأشهر الأخيرة بشأن رفع سقف الدين، حتى توصلا إلى طريق مسدود مع اقتراب الموعد النهائي لسقف الدين، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بحلول الأول من يونيو فقد تتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها و التزاماتها الأخرى مما ينذر بتداعيات كارثية محتملة على الاقتصاد.
حاز رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي منصبه كرئيس لمجلس النواب عام 2023، واعداً بتقليل الإنفاق، ورفض رفع سقف الدين من دون إجراء مفاوضات مع الرئيس بايدن، ويريد مكارثي وضع حد للإنفاق المستقبلي وزيادة الإنفاق الفيدرالي بنسبة 1٪ كل عام، مع إصراره أن خفض الإنفاق يجب أن يكون جزءاً من أي اتفاق، حيث لا يزال موقف الحزب الجمهوري أن الإنفاق الديمقراطي الكبير هو سبب زيادة الدين، ولابد من وجود إصلاحات قبل زيادته، ورد الديمقراطيون على ذلك بالإشارة لعام 2021 حيث قام الحزب الجمهوري خلال هذا العام برفع سقف الدين دون إصلاحات في عهد الرئيس ترامب، مما أدى إلى زيادة الدين من خلال التخفيضات الضريبية غير الممولة.
لم يستبعد الرئيس بايدن إمكانية زيادة سقف الديون قصيرة الأجل، على الرغم من أن كلا الحزبين لا يريان أن هذا حلا مثالياً، وأوضح الجمهوريون أنهم مستعدون لاحتجاز الاقتصاد بأكمله كرهينة ما لم يتم الاستجابة لمطالبهم، كما حثّ بعض الديمقراطيين الرئيس بايدن على اللجوء إلى «التعديل الرابع عشر»، وهو أيضاً يفكر في استخدامه للتحايل على الكونجرس لرفع سقف الدين من جانب واحد، وفي نفس الوقت عبّر عن شكوكه في التطبيق العملي لهذه الخطوة.
لذا دعا بايدن إلى إجراء محادثة بين الحزبين حول إصلاح الميزانية، لكنه رفض بشدة الجهود الجمهورية لربط سقف الدين بالتفاوض حول الإنفاق الحكومي، في المقابل رفض الجمهوريون اقتراح بايدن أن تكون عائدات الضرائب على الطاولة.
ونظراً لحقيقة أن الكونجرس وحده لديه سلطة اقتراض الأموال، لا يمكن زيادة سقف الديون إلا من خلال التشريع الذي يرفعه مجلس النواب، وهذا يعني أن المفاوضات مع الرئيس ليست ضرورية لرفع سقف الدين، لكنها أصبحت أداة مساومة سياسية بشكل متزايد، خاصة عندما سيطر الجمهوريون على الكونجرس، في مقابل الرئيس الديمقراطي.
وجاء في قائمة مطالب الحزب الجمهوري إصلاح وتبسيط قواعد السماح للبنية التحتية الفيدرالية، وإجراء تخفيضات على التشريعات المناخية، فضلاً عن ربط أي زيادة في سقف الدين بالتخفيضات في حوافز الطاقة النظيفة، الذي لا يريد البيت الأبيض فعله، ولكن قد يكون هناك مجال للتسوية، كما يرى الجمهوريون ضرورة استرداد الأمور المخصصة للإغاثة من COVID19 التي لم يتم إنفاقها بعد، بعدما أعلنت الإدارة إنهاء حالة الطوارئ الوبائية، حيث خصص الكونجرس ستة مشاريع كبيرة للإنفاق لإدارة تداعيات الوباء بإجمالي 4.6 تريليون دولار أمريكي، وبالفعل تم إنفاق 4.2 تريليون دولار من هذا المبلغ وفقاً لمكتب المساءلة الحكومية، ممكن ترك المليارات دون إنفاق.
ويبحث الجمهوريون في إلغاء برنامج الإعفاء من قروض الطلاب، والتمويل المخفض لهيئة تحصيل الضرائب، فضلاً عن مشروع قانون الرعاية الصحية والضرائب والمناخ الذي وضعه الرئيس الحالي، وإضافة متطلبات العمل وتشديدها على البالغين القادرين على العمل الذين يتقدمون بطلبات للحصول على الاستحقاقات والفوائد، وكذلك المساعدة المؤقتة للأسر الفقيرة، وبرنامج المساعدة الغذائية التكميلية والرعاية الطبية، وكذلك يسري شرط العمل الشامل على من ليس لهم معول.
ويرى الديمقراطيون أن خفض الإنفاق سيقابله رد فعل عنيف، حيث أنه يؤثر سلباً على الفقراء والمناطق الريفية والسكان الأصليين والسود والبنيين، هؤلاء هم من يشعر بعبء خفض الإنفاق على متطلبات العمل، لذا يرى الديمقراطيون أيضاً أن هذا القرار لا يتماشى مع قيمهم الديمقراطية في وقت يرتفع فيه معدل الجوع في جميع أنحاء البلاد.
ماذا كان سيحدث إذا لم يتم رفع سقف الدين؟
إذا لم تعد «الإجراءات الاستثنائية» الخاصة بوزارة الخزانة الأمريكية قادرة على تحمل مدفوعات الحكومة، سوف تصل إلى الهاوية المالية بسبب مخاطر التخلف عن السداد، وقد يكون لهذا تأثير سلبي على دفع تكاليف العمليات اليومية، ورواتب موظفي الحكومة، والدفاع الوطني، واستحقاقات التمويل مثل الضمان الاجتماعي، ونظراً لأن الحكومة هي ثالث أكبر مساهم في النشاط الاقتصادي، فقد يؤدي ذلك إلى آثار اقتصادية كارثية على الأفراد والشركات والأسواق المالية العالمية.
كان من المحتمل كذلك حدوث أزمة مالية و ركود، مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع البطالة، وتأثر الأسر التي تتلقى مدفوعات البرامج الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي، فضلاً عن معدلات فائدة متزايدة على بطاقات الائتمان الشخصية والرهون العقارية.
يتوقع اقتصاديون أيضاً، فضلاً عن انكماش الناتج المحلي الإجمالي، فقدان ملايين الوظائف، وانخفاض أسعار الأسهم، وزيادة فوائد الخزانة والرهن العقاري، واقتراض المستهلكين والشركات، كذلك تخفيض التصنيف الائتماني لوزارة الخزانة الأمريكية من قبل وكالات التصنيف الائتماني، مما يؤدي إلى زيادة معدل الفائدة مما يجعل اقتراض الأموال يؤدي إلى تكلفة أكثر.
ماذا يوجد في صفقة الديون الأمريكية؟
لن تحدث الصفقة الأخيرة أي تغيرات في أحكام قانون التضخم المتعلق بالمناخ والطاقة النظيفة، وسيتم استخدام 11 مليار دولار من أموال الإغاثة ل COVID-19، و10 مليارات دولار من الأموال المحولة من الإيرادات الداخلية لتعزيز الإنفاق غير الدفاعي، وتحويل 10 مليارات دولار من الأموال المعاد توجيهها من البرامج الإلزامية، و23 مليار دولار المخصصة لتمويل الطوارئ.
ستعمل الصفقة أيضاً على تشديد متطلبات العمل الحالية في برنامج المساعدة المؤقتة للأسر المحتاجة، عن طريق تعديل معدل المشاركة في العمل، وسيتم إنفاق 886 مليار دولار على الدفاع «الإنفاق الدفاعي» وهو ما يمثل زيادة نسبة 3% عن هذا العام، وإلغاء 1.4 مليارات دولار من تمويل مصلحة الضرائب.
لا يزال برنامج «Medicaid» التغطية الصحية للأمريكيين الفقراء من دون تغير في الصفقة، ولكن تم رفع العمر الذي يتضمن متطلبات العمل من 50 إلى 54 سنة.
أما الإنفاق غير الدفاعي الذي يمول مجالات مثل التعليم والنقل للعام المالي 2024، فتم تحديده بحوالي 704 مليارات دولار، منها 121 مليار دولار للرعاية الطبية للمحاربين القدامى، و583 مليار دولار لمناطق أخرى، حيث يظل الإنفاق غير الدفاعي ثابتاً نسبياً في السنة المالية 2024، ويزيد بنسبة 1% في السنة المالية 2025، وسيتم الاحتفاظ بتمويل قدره 5 مليارات دولار لتسريع تطوير لقاحات COVID-19، وتوفير اللقاحات لغير المؤمن عليهم.
بموجب الصفقة، سيتعين على المقترضين البدء في سداد قروض الطلاب الخاصة بهم في نهاية الصيف، حيث يخطط بايدن لتقديم ما يصل إلى 20 ألف دولار لتخفيف عبء الديون على المقترضين، مع استمرار السداد على أساس الدخل وفقاً لخطة بايدن.
وذكر مكتب الميزانية بالكونجرس غير الحزبي، أن هذه الصفقة سوف تحقق وفورات بقيمة 1.5 تريليون دولار على مدى عقد من الزمن، كما أشاد الرئيس بايدن بهذه الصفقة، قائلاً أنها انتصار كبير للشعب الأمريكي ولاقتصاده، حيث إنها تحمي الركائز الأساسية لأجندة الاستثمار في أمريكا وتخلق فرص عمل جيدة، وتغذي عودة التصنيع، وتعيد بناء البنية التحتية، والنهوض بالطاقة النظيفة وتحمي البرامج الأساسية مثل الرعاية الطبية والضمان الاجتماعي، وكذلك حماية المحاربين القدامى من خلال التمويل الكامل لهم، وحماية خطة إعفاء الطلاب من الديون.