ما زال «الصب في مصلحة المواطن» جاريًا، إلا أنه جاء هذه المرة يوم الثلاثاء وليس الخميس كما اعتاد المصريون، فبموافقة مجلس النواب على رفع ضريبة القمية المضافة على منتجات التبغ كالسجائر والمعسل يكون بذلك قد اقتطع جزءًا آخر من جيب المواطن ليرقع به خروق الموازنة العامة كالمعتاد.

ما أسهل القطع من جيوب المواطنين، فهو مصدر سهل وسريع للإيرادات على عكس طرق أخرى قد تكون أكثر مشقة وإيراداتها أبعد أمدًا كالنهوض بقطاعات الدولة الصناعية والخدمية، إلا أنها أكثر استدامةً واستمرارية والأهم أنها أخف وطأةً على جيب المواطن.

يثير القرار العديد من الأسئلة، فلماذا السجائر دون غيرها من السلع؟ ولماذا ذلك التوقيت بالتحديد؟ وهل تصمد تصريحات وزير المالية ورئيس البرلمان حول أسباب رفع أسعار السجائر أمام البحث والتدقيق؟


لماذا السجائر بالتحديد؟

دعني أشرح لك في عجالة أبسط المبادئ الاقتصادية في هذا الصدد وأيسرها على الإطلاق: كلما كانت السلعة التى تفرض عليها الدولة الضريبة ضرورية ولا يستطيع المواطن الاستغناء عنها زاد الإيراد الضريبي، وعليه فإذا كان هدف الدولة هو تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال فعليها أن تفرض الضريبة على الأدوية أو السلع الغذائية الأساسية كالزيت والشاي والسكر، وكذلك الملابس على سبيل المثال لا الحصر. فالمواطن مجبر على شراء الحد الأدنى من هذه السلع، الذي يكفل له استمرار معيشته، مهما ارتفعت أسعارها، ولن يستطيع بأي حال من الأحوال تخفيض استهلاكه منها بدرجة كبيرة.

وبالتالي لن تستطيع الدولة زيادة إيراداتها إذا فرضت الضريبة على مستحضرات التجميل مثلاً، أو على غيرها من السلع الترفيهية، فبإمكان المواطن الاستغناء عنها تماماً إذا ارتفعت أسعارها بشكل مبالغ فيه.

تدخل السجائر وخدمات الاتصالات ضمن هذه الفئة الضرورية من السلع وإن كان بدرجة أقل، ولذلك تستهدف وزارة المالية زيادة إيراداتها بحوالي 4.5 مليار جنيه بنهاية السنة المالية الحالية نتيجة لرفع قيمة الضريبة.

ولكن مازال السؤال قائمًا: لماذا السجائر بالتحديد دون غيرها من السلع الأساسية؟

ربما يرجع السبب، وفقًا لوزير المالية، إلى ارتفاع تكاليف إنتاج السجائر في مصر بعد تحرير سعر الصرف، خاصة أن الشركة الشرقية للدخان تستورد 100% من الخامات الرئيسية لمنتجات الدخان من الخارج، إلا أن العقل يأبى أن يصدق ذلك التفسير، فهل يعقل أن الشركة الشرقية للدخان لم تدرك ارتفاع التكاليف إلا بعد عام كامل من تحرير سعر الصرف؟ خاصة أن محمد عثمان رئيس الشركة كان قد صرّح في ديسمبر/كانون الأول 2016، أي بعد قرار التعويم بشهر واحد، بأنه لا نية لرفع أسعار السجائر، كذلك فإن وزير المالية نفسه كان قد أكّد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي منذ شهر واحد أن الوزارة لم تناقش مسألة رفع أسعار السجائر حتى الآن.


هل تكترث الحكومة بصحة المصريين؟

ربما لأن الحكومة تخاف كثيراً على صحة المصريين، فارتفاع أسعار السجائر يعنى تراجع المواطنين عن استهلاكها، وبالتالي تحسن صحتهم، بالإضافة إلى أن التدخين يؤدي إلى زيادة نفقات وزارة الصحة لعلاج المدخنين،وفقاً لوزير المالية عمرو الجارحي.

صحيح أن منظمة الصحة العالمية تؤكد خطورة التبغ، كونه يودي كل عام بحياة ستة ملايين نسمة تقريبًا على مستوى العالم، وأن الوفاة المبكرة للمدخنين تحرم أسرهم من الدخل وتزيد تكاليف الرعاية الصحية، وبالتالي تمثل عائقًا أمام التنمية الاقتصادية، ولذلك شددت منظمة الصحة العالمية على أهمية مكافحة التدخين بكل السبل، وأعطت أولوية الضرائب كأداة فعالة للحد من التدخين، فزيادة الضرائب على منتجات التبغ بـ 10% تقلل استهلاكه بـ 5% في المتوسط، في تركيا على سبيل المثال ساهم فرض ضريبة على السجائر إلى تخفيض أعداد المدخنين بنسبة 13% بين 2008 و 2012.

يبدو إذن أن وزارة المالية رفعت قيمة الضريبة لتخفيض استهلاك المصريين من السجائر، ومن ثم الحفاظ على صحتهم.

يؤسفني أن أؤكد لك أن الأمر ليس كذلك!

قالوا إن مراكز التسوق ستُفلس، والمطاعم ستخسر المال، وأشياء كهذه. لكننا، المنظمات غير الحكومية، جمعنا كل الأدلة – من فرنسا وإيرلندا وإيطاليا – بأن هذا لن يحدث. وأوصلنا هذه المعلومات إلى المسئولين الحكوميين والعامة. لقد عملنا نوعًا ما على تحصينهم في مواجهة حجج القائمين على صناعة التبغ.
إليف داغلي، رئيسة التحالف الوطني حول التبغ أو الصحة بتركيا

فعلى الرغم من ارتفاع أسعار السجائر بحوالي 200% منذ 2011 وحتى الآن فإن أعداد المدخنين في ازدياد، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقول إن نسبة المدخنين في مصر سجلت 20.2% عام 2016 مقارنة بـ 16.6% من إجمالي السكان خلال 2012-2013.

لماذا لم يسرِ مفعول الضريبة إذن؟ ولماذا لم تنخفض أعداد المدخنين على الرغم من رفع أسعار منتجات التبغ حوالي ست مرات منذ 2011 حتى الآن؟ لماذا نجحت الوصفة في تركيا وفرنسا والصين وغيرها ولم تنجح عندنا؟

كل ما في الأمر أن الدولة ليست جادة في رغبتها في تحسين صحة المصريين، كل ما يشغل بالها هو كم سترتفع إيراداتها، وليس كم من المصريين سيقلع عن التدخين بعد رفع قيمة الضريبة؟

هل تتذكر ما كتبته أعلاه بشأن تركيا، قلت إن الضريبة ساهمت في تخفيض أعداد المدخنين بنسبة 13% بين 2008 و 2012، ساهمت تعني أن الضريبة لم تكن الطريق الوحيد الذي سلكته الدولة، وإنما كان هناك رؤية شاملة تكاتفت جميع مؤسسات الدولة من إعلام وصحة وتعليم وقضاء ومجتمع مدني من أجل تحقيقها، خطة طويلة الأمد، بدأت تدريجيًا؛بدأت القصة عام 1996 عندما وقّع رئيس الوزراء قانونًأ يحظر التدخين في الأماكن المغلقة، وفي أعقاب عام 2004 تم تأسيس وحدة خاصة في وزارة الصحة تعمل بالأساس على شرح البرنامج الوطني لمكافحة التدخين للمواطنين، وتضع خطة عمل من أجل تنفيذ البرنامج بكفاءة وتحقيق النتائج المخطط لها، بحلول عام 2008 كانت الأماكن المغلقة في تركيا خالية من التدخين بنسبة 100%.

توكر إرجودر، مدير برنامج مكافحة التبغ في مكتب منظمة الصحة العالمية في تركيا

الحكومة المصرية لم تساعد المصريين على الإقلاع عن التدخين، لم تنظم حملات التوعية، لم تفتح الوحدات الصحية لاستقبال الراغبين في الإقلاع لمساعدتهم نفسيًا وعلاجيًا، لم يتحول الأمر إلى قضية رأي عام وتوجه قومي يستشعر من خلاله المواطن أن هناك غاية يجب تحقيقها، لم نجد في استراتيجية 2030 هدفًا يتعلق بمكافحة التدخين، ليكن مثلًا تخفيض أعداد المدخنين إلى النصف بحلول 2030. الحكومة لم تتحرك خطوة واحدة في هذا الاتجاه أو قل إنها لا تريد أن تتحرك لعوامل عديدة تتعلق بشبكة مصالح تجار ومنتجي التبغ في الداخل والخارج من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن جيوب المدخنين تعد أحد مصادر الإيرادات التي تلجأ إليها الدولة بين الحين والآخر كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

الأن ربما تكون الصورة أكثر وضوحًا عن ذي قبل، بقي شيئًا واحدًا، وهو توقيت رفع قيمة الضريبة، قليل من البحث في هذا الاتجاه قد يساعد في إماطة اللثام عن بعض ما يدور في أروقة وزارة المالية، وقد يكشف عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف المشهد برمته.


لماذا الآن؟

النجاح الرئيسي لسياسات مكافحة التبغ يرجع إلى المقاربة الحكومية الشاملة التي قادها أردوغان والتعاون القوي بين جميع قطاعات الدولة.

يبدو الأمر عادلًا للوهلة الأولى، فقيام الدولة بفرض ضريبة على الصناعات الضارة بالصحة كالسجائر، واستخدام عائدات هذه الضريبة لتمويل برامج الرعاية الصحية هو أمر لا خلاف على عدالته وكفاءته الاقتصادية، وقد استقر العمل الاقتصادي على ذلك في معظم دول العالم.

هنا يجب الإشارة إلى خلل جوهري في النظام الضريبي المصري، فليس ثمة اعتراض على فرض ضريبة على منتجات التبغ لتمويل برامج الصحة، إلا أن المعاملة لابد أن تكون بالمثل في جميع قطاعات الدولة، بمعنى رفع قيمة الضريبة على الأنشطة التجارية والصناعية والثروة العقارية لإحلال وتجديد البنية التحتية في كل قرى ومدن مصر.

يكفي هنا أن نشير إلى أن الضريبة على السجائر والتبغ عام 2015-2016 كانت حوالي أربعة أضعاف الضريبة المحصلة من النشاط التجاري والصناعي، وحوالي مائة ضعف الضريبة المحصلة من الثروة العقارية في مصر. لا شك أن هناك خللًا جوهريًا في السياسة الضريبية المصرية تجلعها تحابي فئة على حساب أخرى.

الأمر الآخر، والذي قلما يلتفت إليه أحد، هو ارتفاع أسعار النفط خلال الشهر الجاري – نوفمبر/تشرين الثاني 2017 – لتُسجل 63 دولارًا للبرميل، ولكن ما علاقة الأمر برفع أسعار السجائر؟

القصة ببساطة هو أن وزارة المالية عند إعدادها الموازنة العامة في بداية العام المالي الحالي قدرت سعر برميل النفط عند 55 دولارًا للبرميل في المتوسط، إلا أن الأسعار تجاوزت الـ 60 دولارًا مؤخرًا، وهو ما يعنى ارتفاع تكلفة واردات مصر من النفط بشكل غير متوقع، بمعنى آخر ارتفاع تكلفة دعم الوقود، إ ذ إن كل دولار زيادة في سعر برميل النفط يضيف من 3 إلى 4 مليارات جنيه إلى تكلفة دعم الوقود.

هذه القفزة غير المتوقعة في تكاليف استيراد النفط باتت تهدد بارتفاع عجز الموازنة من جديد رغم كل الإجراءات التقشفية التي تمضي فيها الحكومة قدمًا، فالعجز في أبسط معانيه هو تلك الحالة التي تزيد فيها مصروفات الدولة عن إيراداتها.

ربما كان تعديل قانون القيمة المضافة على السجائر ورفع أسعارها بمثابة محاولة بائسة من الحكومة لتوفير مصادر إضافية للإيرادات تُعوِّض تلك التي استنزفت بسبب ارتفاع أسعار النفط بشكل غير متوقع. فالحكومة ربما لن تُقدم على رفع أسعار النفط خلال العام المالي الحالي بالتزامن مع قرب الانتخابات الرئاسية، فلجأت إلى رفع أسعار السجائر كبديل، على الأقل هناك مسوغ أخلاقي للأمر، وهو الخوف على صحة المصريين.

تلك المحاولة بائسة، شأنها شأن كل الحلول المؤقتة، أقصى ما يمكن أن تفعله هو تجميل الصورة لبعض الوقت، وتسكين الألم دون معالجة أصل الداء.