رغد وصدام: أن يكون أبوك الحنون ديكتاتورًا دمويًا
قد يبدو غريبًا، أن تعرف أن مُبدع هذه الأبيات الشعرية الراقية ليس أديبًا كبيرًا ولا شاعرًا مُرهفًا وإنما هو صدّام حسين، حاكم العراق الأشهر، والذي عاش العراق أكثر فصول تاريخه دموية تحت حُكمه.
تكشف هذه الأبيات الصدّامية مدى المكانة التي حظيت بها الابنة رغد في نفس أبيها الذي اشتهر في العالم بأسره بقسوته واندفاعه السريع نحو الدماء، إلا أنه في الوقت ذاته كان أبًا حنونًا على ابنته الصغيرة، وهو الجانب الخفي الذي لم يرَ منه العراقيون إلا لمحات لا تُذكر، وظلت الشاهدة الوحيدة عليه هي رغد.
عقب الإطاحة به، لم تتوقف جهود رغد أبدًا في محاولات تبييض صفحة أبيها أبدًا أمام العالم؛ هو ليس بالوحش الذي أسرف الأمريكان في تشويه صورته ليبرروا الإطاحة به واستعمار بلاده، وإنما هو أب حنون كان يخاف على أهل بيته ويعتني بتربيتهم جيدًا.
الأب الحنون على «وِش السعد»
ولدت رغد صدام حسين عام 1967، وهي الفتاة الأولى لوالدتها ساجدة خير الله طلفاح ابنه خالة صدام، قبلها رُزق صدام بذكرين هما عدي وقصي، ولكن رغد كانت «وش السعد» لوالدها، فبعد أقل من عام على مولدها، نجحت ثورة حزب البعث في الإطاحة بحُكم الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف، وهي الثورة التي مهّدت الطريق أمام صدّام حسين لحُكم العراق عقب تعيينه نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر.
وبينما كانت رغد في الـ12 من عُمرها، تنازل الرئيس البكر عن منصبه لصدام حسين، ليتولّى حُكم العراق بدلاً منه.
تصف رغد مرحلة طفولتها بأنها «مرحلة سعيدة جدًا»، فلقد عاشت العديد من اللحظات المبهجة بصحبة والدها، أبرزها اصطحابها إلى رحلات الصيد، وتصف والدها بأنه كان عطوفًا على الفتيات، فبينما كان لا يتوانى عن معاقبة إخوانها الصبيان إن أخطأوا، كان يكفيه لردع بناته مجرد نظرة ساخطة لا أكثر.
تحكي رغد أنه خلال الحرب الإيرانية كانت في الـ13 من عُمرها، وقعت بغداد تحت طائلة القصف الإيراني، لدرجة خافت معها ابنة الرئيس شخصيًا حتى أنها طلبت منه ألا تذهب إلى المدرسة، لكنه رفض وأجبرها على الذهاب قائلاً لها «يجب أن تكوني قدوة لزميلاتك»، مؤكدًا لها أن زميلاتها العراقيات يستمددن الشجاعة منها.
لا سياسة للنساء
في عام 1983م، تزوّجت رغد من ابن عم والدها حسين كامل، وهي بعد في الخامسة عشر من عُمرها، بعد قصة حب استمرت شهرين على حد قولها. كان زوجها أحد الضباط القلائل في الجيش الذين حظوا بثقة تامة من جانب صدام حسين، وأفسح له الكثير من الصلاحيات أثارت عليه نقمة الآخرين، وعلى رأسهم وزير الدفاع عدنان خير الله.
طوال هذه الفترة، ركزت رغد اهتمامها على دراسة الترجمة والعناية بأطفالها، مبتعدة تمامًا عن الشأن السياسي، حتى أنها لم تكن تعلم الكثير عمّا يحدث في الساحة الداخلية العراقية، فلقد كان استعمال أطباق الأقمار الصناعية محظورًا في البلاد تحت حكم أبيها، ولم يكن مسموحًا لنساء العائلة أن يشتركن في أي قرارات حكومية أو نقاشات سياسية. تقول كان على النساء أن يُجاوبن فقط إن سُئلن، ولم يكن يُسألن أبدًا.
اضطرت رغد للعب دور سياسي مرة واحدة تحت حُكم والدها، بعد ما كُلِّفت بمقابلة زوجة رئيس بيلاروسيا بشكل رسمي، بسبب انشغال والدتها في مهمة عائلية أخرى.
وبخلاف هذه المهمة لم يكن في خلدها أبدًا أن تلعب دورًا سياسيًّا، تقول «أنا نشأت وسط عمالقة رجال حقيقيين أشعر بالأمان والحماية وسطهم، وما أحتاج أن يكون لي دور، وكان دورهم خرافيًا وكبيرًا، وعمر عيني ما كانت على هذا الدور»، لكنها لاحقًا اضطرت إلى الانخراط في الساحة السياسية بعد مقتل أخويها وسقوط نظام والدها.
في عام 1995م، هرب زوجها وشقيقه إلى الأردن، ومن هناك أعلن انشقاقه عن صدام حسين، وافقته رغد على السفر إلى الخارج لأنها كانت تعلم أن حمام دم سيقام لا محالة إن ظلا في العراق، وحينها كانت رغد في الـ25 من عمرها، ولديها 5 أطفال.
لكنها تؤكد، أنها لم تكن تعلم بما سيقوله في المؤتمر الصحفي الذي عقده في الأردن، ودعا فيه للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، وهو ما أثار غضبها ورفضت تصرفه جُملة وتفصيلاً، فتركت أبناءها معه في الأرض وغادرت، تقول «عُدتُ إلى العراق على الفور كي أنال رضا والدي».
فيما بعد تراجع زوجها وشقيقه عن موقفهما وعادا إلى العراق بعد ما وعدهما صدام بالعفو عنهما، وهو ما لم يتم، ففور دخولهما العراق أمرهما صدام بتطليق ابنتيه ثم أعدمهما، وهي المرحلة التي وصفتها رغد بأنها كانت «وقتًا صعبًا جدًا بالنسبة لها»، عندما وجدت نفسها عالقة بين عائلتين، أبوها وشقيقاها من ناحية، وزوجها وأولادها من الناحية الأخرى.
تأذَّت رغد كثيرًا بقرار إعدام زوجها، وخافت على مستقبل أطفالها، لكنها لم تجرؤ على عتاب والدها على هذه الفِعلة، وتابعت أن صدام تفهّم حزنها على زوجها، وأنه حاول إرضاءها لكنها لم ترضَ أبدًا.
اللحظات الأخيرة
تحكي رغد، أن هذا الحادث أفسد علاقتها بأبيها لفترة طويلة، لكن هذه العلاقة عادت إلى قوتها وقت الغزو الأمريكي وبعد اعتقاله وإعدامه، وكانت إحدى القلائل الذين يرونه حتى في أيامه الأخيرة كحاكمٍ للعراق، تقول «حتى اللحظة الأخيرة كان أبي راضيًا وممتنًا وفخورًا بي».
آخر مرة رأت رغد والدها فيها كان في غرفة معيشته قبل 5 أيام من الغزو، حيث جمع كل أفراد أسرته وطلب منهم أن يتحلوا بالقوة، متوقعًا أن تقصف منازلهم، وبالفعل، كان أول مكان قصفته الولايات المتحدة في العراق عام 2003م هو مزرعتها، وانتهى اللقاء العاطفي بتوزيع صدام الحلوى على أحفاده.
حكت رغد تفاصيل قصف مزرعتها، قائلة: كان الأمر مرعبًا، كنت بصحبة أختي وأطفالها داخل المزرعة، سقطت 10 صواريخ حولنا، ذهبنا إلى الملجأ ولم نُصب بسوء، لكننا كنا خائفين للغاية.
حكت رغد عن اليوم الذي سقطت فيه بغداد بأيدي القوات الأمريكية، وأن والدها تعرّض للخيانة من مساعديه المقربين مما عجل بسقوط نظامه، وتحكي أنها اختبأت في منزل داخل حي المنصور بالعاصمة بغداد، تستمع إلى أخبار المعارك من الراديو، وعبر أخبار الأثير علمت أن كل شيء انتهى.
وتضيف، أنه في اليوم الذي سقطت به بغداد، أرسل إليها والدها سيارة من قوات الأمن الخاصة أخذتها بصحبة شقيقتها رنا وأولادهما إلى منزل آخر على مشارف بغداد، بقيت تعيش فيه حتى قررت الرحيل عن العراق بأسره إلى الأردن.
إثر اعتقاله، تابعت رغد تفاصيل محاكمة والدها والتعامل مع هيئة الدفاع والالتقاء بهم، كانت تصلها رسائله، عبْر الصليب الأحمر، من معتقله غير مكتملة، حتى مذكراته شُطبت أجزاء كبيرة منها، استنكرت الصور التي عرضها الأميركيون لوالدها أثناء القبض عليه، وقالت إنهم أعطوه مخدرًا ليظهر بتلك الصورة فتهتز مكانته في قلوب العراقيين ويضعف عضد المقاومة، كما أعلنت أن «الأسد سيظلُّ أسدًا، ولو كان في الأسر»، وعقب الاستيلاء على ممتلكات والدها، وبيع بعضها، كسيارته الفيراري الحمراء، في مزادات بالخارج، أعلنت أنها ستقاضي كل مَن استولوا على أملاكه.
كما طالبت بمحاكمة دولية عادلة لوالدها خارج العراق، باعتبار أن من يحاكمونه هم خصوم له، وأن المحاكمة في بغداد قرارها محسوم مسبقًا، لا تتوفر فيها ضوابط العدالة وشروطها.
اختارت أن تحل ضيفة على الأردن، فبالرغم من وجود خيارات أخرى أمامها كالانتقال إلى دولة قطر- مقر إقامة والدتها- أو الانتقال على سبيل المثال إلى ليبيا حيث تربطها علاقة صداقة مع عائشة القذافي التي سبق أن عرضت عليها ذلك، غير أن تلك الخيارات لم تكن لتوفر لها القدرة على متابعة ملف والدها القانوني، حيث يُعدُّ الأردن هو المنفذ الوحيد الذي تتحرك منه وإليه كل الفعاليات القانونية الخاصة بوالدها.
تمتّع الأردن بعلاقة قوية مع صدام حسين طوال فترة حُكمه وحتى سقوطه، وبلغ التبادل التجاري بين البلدين قرابة 700 مليون دولار سنويًّا، وعقب الاحتلال الأمريكي للعراق حاول العديد من المسؤولين البعثيين اللجوء إليه.
كان الموقف الأردني مُرحبًا، وكذلك واضحًا وحازمًا، وطُلِب من رغد احترام الضيافة التي تحظى بها وأسرتها وعدم القيام بأي نشاط سياسي خارج العمل مع هيئة الدفاع عن والدها، وهو ما التزمت به رغد بشكل صارم.
وعلى الرغم من الترحاب الملكي الأردني عانت رغد من صعوبات العيش من دون صدام حسين، تقول عن حياتها الجديدة: أقضي أيامي في الطهي وأداء الأعمال المنزلية، وهي أشياء لم أكن أفعلها في الماضي، لأنني منذ طفولتي كان لديَّ خادمات ومدبّرات منزل، ونعيش في منازل أكبر حجمًا بداخلها حمامات سباحة.
لم تحضر رغد جلسة الإعدام، ولم تشاهد فيديو إزهاق حياة صدام حتى اليوم، بعد إعدام والدها طالبت السلطاتِ العراقية بتسليمها جثته لكي تدفنها في اليمن خوفًا عليها منهم، ريثما يتحرر العراق من الاحتلال الأميركي فتعيده مرة أخرى إلى مسقط رأسه، لكن السلطات رفضت، وعندما طالبت بأن يُدفن والدها في مدينة الرمادي كما أوصى، رفضت السُلطات أيضًا.
في 2018، نشرت الحكومة العراقية أسماء 60 شخصًا من أهم المطلوبين أمنيًا، لانتمائهم إلى تنظيمي «داعش» و«القاعدة» وحزب البعث الذي كان يرأسه الرئيس الراحل صدام حسين، وكانت رغد من ضمن المطلوبين، وطلبت من الحكومة الأردنية تسليمها.
وسبق للأردن أن تلقى طلبًا مماثلاً من الإنتربول، غير أنه تجاهل كل تلك المذكرات ولم يعلق عليها، مكتفيًا بالتأكيد على أن رغد صدام حسين تقيم في الأردن بصفة ضيف على الملك والحكومة والشعب، لأسباب إنسانية، وأن السلطات تراقب نشاطاتها عن كثب وتعلم أنها لا تمارس أي نشاطات سياسية أو إعلامية.
أبي ليس وحشًا، لكن العراق بلد صعب
على الرغم من حجم الدماء الغزيرة التي سالت في العراق طول فترة حُكم صدام حسين، تُصرُّ رغد على أن والدها لا يحبُّ الحروب ولا الدماء، فعندما سُئلت عن المجزرة التي أمر صدام بتنفيذها في مدينة الدجيل ذات الأغلبية الشيعية، قالت رغد: «نعم، كانت هناك وحشية، أحيانًا الكثير منها، وأنا لا أستطيع أن أدعم الوحشية. ولكن العراق بلد صعب حكمه، والآن فقط يدرك الناس ذلك».
كما دافعت عن الإعدامات التي كانت تحدث وقت حكم والدها، قائلة «أي إنسان يخطئ يُحاكم وفق القانون العراقي، والقانون العراقي فيه فقرات للإعدام، حتى إن كان الضحية هو زوجها».
وعندما تحدثت رغد عن عمليات غزو الكويت، حاولت استخدام عبارات تُلطِّف بها قرار صدام بحقِّ جارتهم التي احتلَّ أرضها ولم يرحل إلا بعد ما حاربه العالم بأسره، تقول «كانت عائلاتهم وعائلاتنا جزءًا واحدًا.. لذا كانت مرحلة صعبة، أخطؤوا في حقنا وأخطأنا في حقهم، وهذا يصير بين الإخوة».
وفي عام 2012م، أعلنت أنها بدأت مساعي نشْر مذكرات والدها لدى إحدى دور النشر العالمية.
بعد مرور 15 سنة على إعدام أبيها، لا تزال رغد صدام حسين تذكره كـ«بطل شجاع ووطني»، وترى أن رجلاً مثله كان لا بد أن يقضي في ميتة صعبة، وأنه كان يعلم ذلك، وأكدت أن موت والدها رغم القبح الذي صاحبه، لكنه شرّفها وشقيقاتها وأولادهما وكل من أحب والدها، وأن إرثها الحقيقي هو المكانة التي تركها في قلوب محبيه، والتي جعلتها وعائلتها مستضافين بترحاب أينما حلّوا.
وحتى الآن لا تتوقف رغد عن التباهي بأنها تحمل جينات والدها وصفاته صدام حسين بشكل كبير، معتبرةً أن أكثر ما ورثته عنه هو التحمل والإدارة، وتؤكد رغد أنه لا يوجد من يضاهي والدها في محبته داخل قلبها، قائلة «أنا أحب الوالد بلا منازع.. بالنسبة لي لا أقارن محبتي إليه بأي شخص.. لا زوج ولا أولاد.. الوالد عندي رقم واحد بالمكانة والمحبة».
وحاليًا، تعيش رغد حياة مريحة في الأردن، ولكنها تشتاق لوطنها وتتمنّى أن تعود إليه إذا دخل «مرحلة وسطية وبعيدة عن الهوس بالكراهية والانتقام، بعد انتهاء ما يعانيه العراق من ارتباك واحتلال وخلط أوراق».
وتؤكد رغد أن هذه الحالة المتردية لا يُمكن أن تكون مصير العراق، فالعراق أكبر من أن يفقد الأمل.. فهو بلد الحضارة، بلد الأبطال، مثل صدام حسين.