ثلاثية «رضوان الكاشف» والفرح بالسينما
هكذا بدأت تترات فيلم «ليه يا بنفسج»، الفيلم الذي تعرفت من خلاله على «رضوان الكاشف». كنا مجموعة من الأصدقاء، نعيش سويا في شقة صغيرة تستقبل مزيدا من الأصدقاء في ليال عابرة، كنا نبحث في جلساتنا عن البهجة التي نفتقدها طوال الأسبوع ، حكايات، موسيقى، كتبا وأفلاما. وكان «ليه يا بنفسج» هو الفيلم المثالي لما كنا نبحث عنه.
بهجة من قلب المعاناة، هكذا تعرفت على رضوان الكاشف، وأقصد هنا حالتنا أثناء المشاهدة، وحالة الفيلم في آن واحد، كان الأمر بمثابة بطاقة عبور لعالم رضوان – ورضوان هو اسم حارس أبواب الجنة. عالم ضم إلى جانب «ليه يا بنفسج» فيلمين هما «عرق البلح»، و«الساحر/نظرية البهجة». عالم يمكننا وصفه بعالم الفرح بالسينما.
لم تطل رحلة الكاشف، الذي ولد في حي السيدة في يوم 5 أغسطس/آب 1952، فالرجل الذي ولد عقب حركة ضباط يوليو/تموز غادرنا في ذكرى نكسة يونيو/حزيران قبل أن يتم الخمسين. وبعد رحلة بدأت بالتخرج في قسم الفلسفة، ثم الاعتقال في سجون السادات حينما قرر أن يعتقل الجميع عام 1981، ثم التخرج في المعهد العالي للسينما، وصل رضوان أخيرا إلى السينما الروائية الطويلة.
صنع ثلاثة أفلام قبل أن يغادر الدنيا مبكرا، ولكننا نستطيع أن نرى عالمه فيها جليا. فأنا أصدق -على أي حال- أن المخرج يصنع فيلما واحدا طوال حياته، ولكنه يعيد اكتشافه من خلال حكايا متعددة.
واقعية سحرية
بين حكايا ثلاثة شباب في حارة شعبية، قرية صعيدية يسكنها النساء، وساحر شبه متقاعد على سطوح منزل يربي الحمام، يمكننا تصنيف سينما الكاشف ببساطة في خانة سينما الواقعية. سينما الواقعية -ومنذ ظهور المصطلح- هي سينما تهتم بسرد حكايات البشر العاديين، في الشوارع والبيوت، بلا مواقع أو أبطال معاد تلميعهم. ظهر المصطلح مع جيل الواقعية الكلاسيكية في السينما المصرية، وأقصد هنا جيل هنري بركات، صلاح أبو سيف، يوسف شاهين. ثم أتى من بعدهم وعقب فترة من الركود جيل الواقعية الجديدة، جيل خان والطيب، وكما كان لكل واحد من هؤلاء علامته الخاصة ترك لنا الكاشف بصمته السحرية.
ظهر السحر من البداية في ليه يا بنفسج، ظهر في حكاية الحارة التي لا نعرف زمانها، كما ظهر في النعش المسرع إلى القبر للدرجة التي نحسبه معها طائرا. السحر في الموقف الثاني مجرد إيحاء يصنعه أبطال الكاشف، ملمح سنراه مكررا في فيلمه الأخير «الساحر»، فمنصور بهجت لا يملك سوى الإيحاء بالسحر لنشر البهجة أيضا.
ظهر السحر في صورته الأوضح في عرق البلح، فيلم رضوان الكاشف الأهم من وجهة نظر كثيرين، الفيلم الذي قضى عشرة أعوام في محاولة صنعه، لتنتجه في النهاية «ماريان خوري» وشركة أفلام مصر العالمية، وليمكث أسبوعا في دور السينما المصرية، وستة أشهر في دور السينما الفرنسية. في عرق البلح نشاهد حكاية القرية التي تركها رجالها إلا فتى قرر أن يصعد النخلة ليجمع بلحا أبيض يعيد «عرقه» الصحة والرخاء للقرية وأهلها، يعود الرجال في نهاية الحكاية، يملؤهم الشك فيما فعله فتى تركوه وحيدا بين نسائهم.
صورة مليئة بالتفاصيل
من فيلم ليه يا بنفسج
في مشهده الأول في فيلمه الأول «ليه يا بنفسج» نرى شابا يحمل حقيبة، يمشي وكأنه يجر أقدامه، في مشهد ليلي بحارة ضيقة، يصل الشاب أخيرا إلى باب، وبعد بضع دقات تخرج سيدة كبيرة، تظهر عليها علامات المفاجأة، تحتضنه، يلقي الشاب نظرة على الغرفة، ليرى شابين نائمين على الأرض وعلى رأسيهما طائر، يبتسم فيما تزال عيناه مليئتين بالدموع.
مشهد كامل بلا كلمة، نعرف منه حكاية كاملة، نتعرف على الشخصيات وخلفياتها، ونشعر بالبهجة المنتزعة من قلب الحزن. ظلت كادرات الكاشف مليئة بالتفاصيل، ففي عرق البلح شاهدنا ما يمكننا وصفه باللوحات البصرية، بالإضافة للأداء الحركي للشخصيات، وخصوصا شخصيات النساء أثناء موال «بيبة»، رقصات جنائزية تحمل معنى قد يفوق الكلمات.
لغة شاعرية
هكذا بدأ رضوان الكاشف فيلمه الثاني «عرق البلح»، سرد لغوي مسرحي يكشف الحكاية، يقدم شخصياتها، مكانها، وأحداثها. ظلت اللغة الحوارية والسمعية عند الكاشف مميزة وشاعرية في ثلاثيته، قد تكون الصفة الشاعرية حالمة كما نرى في كلمات أغاني فيلمه الأول «ليه يا بنفسج» التي كتبها «سيد حجاب»، والفيلم ذاته يحمل اسم أغنية صالح عبد الحي؛ «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين»، وقد تكون الصفة الشاعرية جنائزية كما في كلماته وموسيقى «ياسر عبد الرحمن» في عرق البلح، وربما تحمل أيضا تناقضا ساخرا كما في جملة «وزة بيضا حلوة» من فيلم الساحر.
كان «رضوان الكاشف» محبا للسينما، نرى هذا واضحا للغاية في عالمه السينمائي، كان على جانب أشبه بشيخ مهموم بأهل مصر في الحارات والقرى، وعلى جانب آخر أشبه بطفل موهوب يحتفي في كل مشهد بقدرته على صنع السحر. ربما يكون قد تركنا بثلاثة أفلام فقط، ولكنها تركة غير محدودة من الواقعية السحرية، البهجة المنتزعة من قلب الألم، والفرح بالسينما.