أفلام «رأفت الميهي» أو كيف تُستدعى الأحلام على الشاشة
لطالما ارتبطت الأفلام وصناعة الصورة المتحركة بالأحلام، قبلها لم يكن بوسع الإنسان رؤية صور متتابعة خيالية مختلفة عن واقعه إلا في أحلامه، وبسبب ذلك التشابه بينهما سعى كثير من صناع الأفلام لمحاكاة الأحلام كمادة خام لاستدعاء الصور، لإعادة إنتاج اللاوعي على الشاشة، استقت السينما من مدارس الفن التشكيلي مثل السريالية التي تعنى بتداعي الوعي، واستخراج الصور الحلمية من العقل الباطن إلى العقل الواعي، لكن ولأن السينما ذات طبيعة روائية قصصية فإن المدرسة السريالية تطورت داخلها، واندمجت مع الأنواع السينمائية، فالتحقت بالنوع الكوميدي وأصبحت الكوميديا السريالية على سبيل المثال. بدأت السينما في استخدام لغة الأحلام في إطار أوروبي مرتبط بالحركات الطليعية في فرنسا وغيرها، بداية من رحلات جورج ميليس إلى القمر وحتى سخرية لويس بونويل اللاذعة من البرجوازية، لكن ندر رؤية التطرق للغة الأحلام في السينمات العربية بخاصة السينما المصرية، على الأقل ليس بشكل تجاري قبل أن يبدأ المخرج والسيناريست رأفت الميهي في ترك التقليد الميلودرامي المتأصل في الصناعة المصرية والتوجه نحو أفق جديدة.
لم ينذر فيلم «عيون لا تنام» 1983 بميلاد مخرج ذي نزعة ساخرة واتجاه كوميدي بصري وأفكار عدمية، يسير «عيون لا تنام» أول أفلام رأفت الميهي كمخرج والمقتبس عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» وفق قواعد الميلودراما دون أن يحيد عن أي منها، فيلم يقول فيه الجميع ما يعنونه، ويعاقب الجميع على أخطائهم دون سخرية أو وعي بالذات، كل الشخصيات تراجيدية والعلاقات العائلية والعاطفية معقدة ومتشابكة، لم يمهد الفيلم لمسيرة رأفت الميهي الشهيرة، أو لسمعة «الفانتازيا» التي تلاصقه، لكنه مهد لوعي اجتماعي وسينمائي، يستخدمه الميهي بشكل مباشر أو خفي.
مشهد من «فيلم عيون لا تنام» 1983
في فيلمه التالي الـ«أفوكاتو» 1983 نبذ الميهي الميلودراما بشكل كلي وكأنه لا يعرفها، لم يستخدم نصًا موجودًا مسبقًا، بل خلق شخصياته من خامات خاصة به، مجموعة من الأنماط الكوميدية التي تحمل بداخلها أفكارًا واضحة يتم تناولها دون جدية أو ثقل ميلودرامي، شخصيات تدعي عدم الاكتراث، على عكس الشخصيات التراجيدية التي تكترث لكل شيء، يمكن وصف مسيرة الميهي بأكملها كحالة من الصراع المحتدم بين الميلودراما التي تتسم بالإفراط الذي يكترث المأساة الحياتية بكل أشكالها والكوميديا السريالية التي تستبعد الاكتراث تمامًا، وتستخف بالتراجيديا المتأصلة بداخلها، تحمل بعض أفلامه سمات الميلودراما وحدها وبعضها الكوميديا السريالية وحدها، وفي بعض اللمحات النادرة تصطدم الميلودراما بالكوميديا يقتربان من بعضهما ويتنافران مما يخلق صراعًا بين الأنواع السينمائية مثل حلم رقيق يحاول اختراق كابوس مزعج.
الكوميديا السريالية والميلودراما الكلاسيكية
غالبًا ما توصف أفلام رأفت الميهي بلفظ «الفانتازيا»، نظرًا لطبيعتها الخيالية أو عناصرها الميتافيزيقية، توصف بكونها واقع يتداخل مع الخيال، لكن كلمة فانتازيا ليست بالدقيقة نوعيًا لوصف نوع السينما الذي اختاره الميهي، النوع السينمائي الأقرب لوصف ما يفعله يمكن أن يكون الكوميديا السريالية، لكن الميهي لم يتوصل لإتقان ذلك النوع الذي تفرد به في مناخ سينمائي صارم الأنواع من أول أفلامه، بل تدرج حتى وصل إليه، تدرج من أعلى مرتفعات الميلودراما حتى وصل إلى سخرية لا تعترف بالمشاعر المفرطة.
أخرج الميهي أول أفلامه «عيون لا تنام» بشكل رومانسي تراجيدي يأخذ مشاعره بالجدية التي تتطلبها، ينظر المحبون في أعين بعضهم دون مزاح أو كسر للإيهام، للقتل عواقب حقيقية وكل الاحتمالات الحياتية مرتفعة: الاتفاقات الإنجيلية لقتل الأشقاء، الوقوع في حب امرأة رجل يشاركك الدم، طبيعة الحياة في ظل البطريركية واستخدام النساء كأوعية للولادة والاستفادة من استمرار النسل للمصالح الخاصة، كل تلك المآسي الحياتية تبدو السخرية منها مستحيلة، لكن تلك ليست هي الحقيقة، في الأفلام التالية لرأفت الميهي سيتضح أن السخرية من كل شيء ممكنة، يمكن جعل الحب والموت والفقر والسلطة والجنس عناصر لاستجلاب الكوميديا، لا تزال المشاعر حقيقية لكنها ليست ثقيلة، والعلاج لم يعد التطهير الميلودرامي بالنهايات التي تعاقب الجميع على الخطايا بل بالترفع عن التطهير والعقاب، بالنظر من فوق على كل شيء وكأنه لا يخص أحدًا رغم كونه معاشًا بالكامل.
مشهد من «سمك لبن تمر هندي» 1988
يمكن تعريف الكوميديا السريالية بحسب التعريف الذي اختارته ويكيبيديا من كتاب «لغة السريالية» باعتبارها شكلًا من الكوميديا يعتمد على الخرق المقصود للمنطق السببي، وبذلك تنتج أحداثًا ومواقف غير منطقية بشكل واضح، تمثيلات الدعابة السريالية تميل للاحتواء على تراكيب غرائبية، وتنافر في العناصر، وجمل حوارية بلا معنى، وتعبيرات متعددة من الهراء، كل تلك العناصر يصعب رؤيتها في فيلم الميهي الأول «عيون لا تنام»، لكننا نلمح بدايتها في «الأفوكاتو»، على الرغم من اتباعه للمنطق السببي، لا تقع أحداث الفيلم في عالم معلق بلا منطق بل في عالم أرضي يعبر عن فترته الزمنية والمكانية وهو ما جعل شخصياته بخاصة شخصية حسن سبانخ (عادل إمام) جزءًا لا يموت من ثقافة المصريين الشعبية، لكن ظهرت به بعض لمحات الكوميديا البصرية التي يمكن وصفها بالسريالية أو التي تتبع نهج الأحلام، مثل مشهد دخول المحامي حسن سبانخ لغرفة السجن الفارهة وفتحه ستارًا يظهر خلفه خلفية للشمس والبحر وأصوات العصافير والأمواج، تلعب مشاهد مثل تلك التأثير الكوميدي والنقد السياسي لكنها تحمل داخلها صيغة الكوميديا السريالية التي سيلتزم بها الميهي في بقية مسيرته بينما يتأرجح بين السخرية والتراجيديا.
مشهد من فيلم «للحب قصة أخيرة» 1986
عطل الميهي بعد «الأفوكاتو» رغبته في استكشاف الهراء لصالح صناعة أرق أفلامه، «للحب قصة أخيرة» 1986 الذي عاد به بشكل أكثر نضوجًا للتراجيديا، لكن ليس بنفس الثقل الميلودرامي الذي تناول به فيلمه الأول، في للحب قصة أخيرة ميل نحو التوثيق الإثنوغرافي لمكان مغلق ومنعزل وهو جزيرة الوراق، وتصوير للحب والموت، بشكل يمكن استشفاف السخرية تحته لكن دون فقدان جدية المشاعر، في ذلك الفيلم يخاف الجميع الموت وينتظره في الوقت نفسه، والكل يخلق قصصًا وهمية للتخفيف عن الآخر، وهو مفهوم إذا تم تفكيكه بعيدًا عن أجواء الفيلم الحزينة يمكن استخراج سمات الميهي المقبلة منه، وهو فعل خلق القصص وتبديل الأدوار، يعاني حسن من مرض مميت فيقرر بدافع الحب التظاهر بأنه على ما يرام ويورط في قصته طبيب الجزيرة، تلك الأفعال التعبيرية المجازية التي يقوم بها الأفراد من أجل الحب سوف تحرك أبطال جميع أفلام الميهي المقبلة لكن على آخر طيف الجدية، بعد «للحب قصة أخيرة» لن تحمل مشاعر الحب الصلابة نفسها، ستحل محلها الكوميديا السريالية بكل لا منطقها وغرابتها.
يتخطى الميهي التراجيديا ويصل بالنزعة السريالية لأقصاها في فيلم «سمك لبن تمر هندي» 1988، الذي يستعرض به الميهي كل قدراته على التداعي الحر والتخيل، في هذا الفيلم وما بعده يحاول الأبطال الحصول على أساسيات الحياة، الاجتماع بمن يحبون والاستقرار المادي والمعيشي، لكن السياسات القائمة تمنعهم عن ذلك، يعمل الفيلم كسخرية سياسية من مفهوم العمالة للخارج والهوس بالأمن القومي وسذاجة السياسيين، يفكك أفكارهم لتظهر كما هي، أفكار تصلح تمامًا لخلق مواقف كوميدية دون منطق سببي، تدور الأحداث في مركز ضخم لمعالجة «متمردي العالم الثالث»، يتم العلاج بغسيل كامل للجسم، من هذه الفرضية ينطلق الفيلم في سلسلة من المواقف والمشاهد التي تفضل الكوميديا البصرية على الحوارية، يتحول الأطباء إلى جزارين ينشرون اللحم البشري ويصبح كل ما هو مرعب غير ذي معنى، يزن أحد الأطباء كبد أحد المواطنين ويضعه في رغيف ليأكله، يستيقظ الأموات لقول ما يخطر في بالهم ثم يعودون للموت، وتستدعي إحدى الشخصيات ملائكة من الجنة لاصطحابها إلى الآخرة.
الميتا فيلم أو كيف تصبح الأفلام أحلامًا
في أحد مشاهد فيلم «سمك لبن تمر هندي» في تتابع يبدو كالحلم كبقية الفيلم يبدأ الخط الفاصل بين الإيهام السينمائي والواقع في السقوط كما تنهار الخطوط الفاصلة بين الحلم والحقيقة، ينادي يوسف داوود الممثل القائم بدور رئيس المنظمة السرية معالي زايد باسمها، ويستدعي فيلمًا سينمائيًا آخر وهو «الكرنك» لكي يهددها بما حدث به، ذلك التتابع لم يكن فقط وليد لحظة تداعٍ عشوائية، فالفيلم نفسه يبدأ بمحمود عبد العزيز متحدثًا مباشرة للكاميرا لكي يوضح بشكل استباقي أن أي رموز أو مجازات يتناولها الفيلم لا تعني أي شيء وأن العساكر والأطباء هم ليسوا عساكر أو أطباء بل ممثلين، تتكرر في أفلام الميهي ما يمكن تسميته «الميتا فيلم» أو الفيلم داخل الفيلم، حيث تتوقف الأحداث عن محاولات الإيهام بأنها واقعية وتستسلم لكونها مصنوعة بالكامل، دون نية في إخفاء الممثلين خلف شخصيات أو الصناعة السينمائية خلف أحداث خيالية، الميتا سينما لا تهتم بتعطيل الاستنكار suspension of disbelief بل تتحداه، تمامًا مثلما تعي أنك تحلم داخل حلمك.
مشهد من فيلم «تفاحة» 1996
في الأفلام كما في الأحلام يمكن استدعاء أشخاص من حياتك وتعيين أدوار مختلفة لهم، يمكنك أن تضيف وتحذف، تغير الملابس والأماكن، في فيلم «تفاحة» 1997 يبدأ حسن (ماجد المصري) وزينات (ليلى علوي) في سرد قصة أمام المحكمة لتبرئة أنفسهما من تهمة ما، فتبدأ الأحداث في الظهور أمامنا على الشاشة، تستدعي قصصهم المختلقة ممثلين وشخصيات من داخل الفيلم في أدوار أخرى، ويمكن لكل قاص أن يرى ما يحدث في قصة الآخر، وكأنهما يحلمان معًا، يتلاعبان بأحداث حياتهما، بأدوار الشخصيات بداخلها وكأنهما يخرجان أفلامهما الخاصة، ومثل «سمك لبن تمر هندي» يبدأ فيلم «تفاحة» بإرساء كونه فيلمًا فيخبرنا الراوي أن ليلى علوي تقوم بدور تفاحة، وأن الوجه الجديد ماجد المصري يقوم بدور حسن، وأن الأحداث تقع قبل القرن الواحد والعشرين بأربعة أعوام.
يمكن رؤية ذلك الصراع بين صناعة الحلم وصناعة الفيلم الواعي بكونه فيلمًا في أوضح صوره في فيلم «قليل من الحب كثير من العنف» 1995، تنبع أحداث الفيلم التي نراها من خلال قراءة بعض الشخصيات لنسختين من سيناريو مقتبس عن رواية لفتحي غانم المقتبس عنها الفيلم، فيتشكل الفيلم أمامنا بينما نشاهده، ويتداخل المنطق الحلمي مع المنطق السينمائي، أحد تلك السيناريوهات يتناول الأحداث بشكل واقعي ميلودرامي والآخر بشكل كوميدي سريالي، تتصارع الرؤيتان أمامنا، يتغير الممثلون فجأة، يقوم ممثلون مختلفون بأداء نفس الأدوار مما يستدعي طبيعة ولغة الاحلام، كأن ترى شخصًا تعرفه في المنام لكنه لا يبدو كما تعرفه في الحقيقة، وأن يدخل أحدهم كادر الحلم فجأة يربكه ويغير مساره، يعمل قليل من الحب كثير من العنف كحلم معقد وفي الوقت ذاته صراع داخلي بين الأنواع الفيلمية، بين النوعين اللذين طالما تصارعا داخل رأفت الميهي، لكن وعلى عكس المتوقع تنتصر الميلودراما هنا، وتصبح الكوميديا السريالية فواصل من حلم غير مكتمل.
تملك أفلام رأفت الميهي القدرة على الصمود في اختبار الزمن، على حمل العديد من التأويلات بحسب من يشاهدها في أي عقد وحقبة زمنية وسياسية وبحسب التغيرات المجتمعية، عند رؤيتها في المناخ الحالي تتفاجأ أن الاشياء لم تتغير كثيرًا، المسميات كما هي، المعاناة كما هي، التطور في ما يخص الأدوار الجندرية حدث بشكل ظاهري لكننا ما زلنا ندور في نفس الفلك الذي درنا فيه في الثمانينيات والتسعينيات.
صنع رأفت الميهي أفلامه في مناخ سياسي خامل ومحتدم في الوقت نفسه، لا تميزه النزعة الوطنية الواضحة التي ميزت أفلام الستينيات والسبعينيات وجاءت في مرحلة انتقالية طويلة وممتدة انتشر بها النقد السياسي وأفلام السخرية السياسية التي تستخدم المجاز لإيصال ما تريده، لكن دون ترك مساحة للشك بالمقصد المطلوب، لكنه على عكس كاتبين ومخرجين تلك الفترة لم ينتهج منهج التطهير، في نهايات أفلامه لا يحدث حدث ضخم وتطهيري، لا يصرخ المظلوم أو يموت الظالم، بل تستمر الأحوال على ما هي عليه، لا تتوقف السرديات فجأة لإلقاء العظة بل تستمر وكأنها لن تتوقف، كأنها سوف تعيد نفسها إلى الأبد.