الهرمنيوطيقا القرآنية: لماذا تأخَّرتْ؟ وكيف تتقدم؟
يمكن ملاحظة غياب مبحث الهرمنيوطيقا النظرية (التأويلية)، نسبيًّا، مِن دائرة العلوم الإسلامية، إذا ما قورن الحال بهرمنيوطيقا الكتاب المقدس مثلًا في أوروبا مِن شلايرماخر إلى بولتمان ومَن بعده؛ فإلى جانب علمي الأصول المتبلورين: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، اللذين يبحثان الأساس النظري للعقيدة والشريعة على الترتيب، يفتقد التفسير عِلمًا نظريًّا يحدد ويبحث أصوله، في مقابل حضور العلم التطبيقي (تفسير القرآن) نفسه، وهو غياب يدعو إلى التساؤل؛ بالنظر إلى أهمية هذا العلم مِن زاويتين: أهمية التفسير نفسه، وأهمية بحث الأساس المنهجي والنظري له.
وبرغم بعض المحاولات القديمة مثل: «مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية، «الإكسير في علم التفسير» للطوفي الحنبلي نجم الدين، «قانون التأويل» للغزالي، «قانون التأويل» لابن العربي الإشبيلي، «أساس التأويل» للقاضي النعمان بن محمد، «نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد» للبسيلي، «الفوز الكبير في أصول التفسير» للدِّهلوي، يكاد الباحث لا يجد بحثًا مستفيضًا في الموضوع بما يتناسب مع أهميته المذكورة.
ولقد تنوعت المحاولات المعاصرة (نحو) هذا العلم، منها مثلًا لا حصرًا: «أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص» لعماد الدين الرشيد، «المناهج التفسيرية في علوم القرآن» لجعفر السُّبحاني، «أصول التفسير والتأويل» لكمال الحيدري، «أصول التفسير وقواعده» لخالد العك، وغيرها.
لكنَّ هذه المحاولات القديمة والمعاصرة لم تحاول بلورة (أصول) تفسيرية محددة، وخلطت بين (الأصل التفسيري) وبين (المنهج) تارةً، وتارةً أخرى بين (المنهج) وبين (التفسير كعمل ناتج عن المنهج)، وهي مفاهيم ينبغي التمييز بينها بوضوح، مما سلبَ أصولَ التفسير في المحاولات المعاصرة، بالذات، صفةَ الوضوح التي ميزت الأصول في أصول الدين وأصول الفقه.
وأما المحاولات البحثية المعاصرة في الهرمنيوطيقا النظرية الإسلامية فلم تحاول، غالبًا، استكشاف أصولٍ تفسيرية في سياق حرصها على تقديم ما هو جديد مِن نَقدٍ، أو إعادة بناءٍ، أو إعادة إركاز استراتيجيةٍ تفسيرية مختلفة أكثر تقدمًا وطموحًا، وهي الظاهرة التي يمكن ملاحظتها في أعمال حسن حنفي ونصر أبو زيد مثلًا، والتي تعتبر -بلا كثير مِن الجدال- مِن أهم المحاولات في مضمارها وسياقها التاريخي برغم ذلك.
بين المسبَّبات والأسباب
مِن أهم أسباب ذلك الغياب قديمًا: أولاً: ارتباط التفسير بالرواية عن الصحابة والتابعين وحرمة التفسير بالرأي؛ فهو يعوق التنظير لحضور منهجية جاهزة مقدسة أو شبه مقدسة، وثانيًا: تنوُّع مصادر التفسير كممارسة؛ من أصول الفقه وعلوم القرآن وأصول الدين إلى علوم اللغة والبلاغة، وثالثًا: طغيان التفسير العقَدي-الأيديولوجي على حساب الوضوح المنهجي، كما في تفاسير المعتزلة والأشاعرة والإمامية والإسماعيلية والصوفية، ورابعًا: الاكتفاء، أحيانًا كثيرة، بعلوم القرآن لتحل محل أصول التفسير، رغم أن علوم القرآن هي علوم الوثيقة القرآنية، فيما يتعلق بتاريخها وتكوينها، وليست علوم (فهم الوثيقة).
ومِن أهم أسباب الغياب حديثًا: التوجه نحو تقديم تفسير جديد معاصر، يندمج في سرديات الإصلاح الإسلامي الكُبرى، في مقابل التوجهات الروائية والعقدية سابقة الذكر، وسابقة الوجود، مثل تفاسير محمد عبده ورشيد رضا وسيد قطب وغيرهم، أو محاولة مؤدلَجَة لتطبيق مناهج معاصرة، كالمنهج الظاهرياتي عند حسن حنفي في «التفسير الموضوعاتي» أو المنهج البنيوي-التطوري عند عابد الجابري في «فهم القرآن الحكيم». فقد ركزت هذه المشروعات الحديثة على تقديم (محتوى) معاصر ذي رؤية فيما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم المعاصر، على حساب بلورة منهجية متكاملة تستوعب القديم كشرط لتجاوزه.
ولا يستهدف تأسيس علم لأصول التفسير تأصيل التفسير في أصول بعينها، بل الكشف عن أصوله، بما يسهم في فهمنا لطبيعة هذه المناهج، وفي حصرها في تصنيف محدد دقيق، اعتمادًا على وحداتها الأساسية، أي أصولها، وليس اعتمادًا على نتائجها، أو جهات إنتاج التفاسير ومذاهبها.
وأهم مصادر التأويلية الإسلامية هو علم أصول الفقه؛ فهو العلم الإسلامي الوحيد المتبلور المنظَّم، الذي نظَّر لأنواع الدلالة القرآنية، وأساليبها، والحقيقة والمجاز والخاص والعام والخطابات القرآنية، في صورة منهجية نسقية .
الأصول الأربعة للتفسير ومشكلة اللا مُفَسَّر القرآني
يمكن تعريف الأصل التفسيري في مقابل المنهج التفسيري بأنه «الوحدة المنهجية الأوَّلية التي ينحلُّ إليها المنهج التفسيري في أقصى تحليل له». وبناءً عليه يمكن تحديد أربعة أصول تفسيرية أساسية، هي: الرواية، والمجاز، والرمز، والموضوع.
وتعد الرواية أقدم الأصول التفسيرية، وهي اعتماد التفسير على محتوى تفسيري منقول تاريخيًّا، وهو ما يُؤسِّس للتصور التاريخي-الديناميكي للنصِّ القرآني، أي باعتباره قابلًا للتفسير في إطار المنقول عبر التاريخ، وفي اتصاله كنص بنصوص أخرى هي في الغالب نصوص منقولة عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وهي التي برزت فيها أشهر مجموعة من التفاسير المتداولة حتى اليوم، خاصة في الدوائر السلفية، مثل سفيان الثوري وعبد الرزاق الصنعاني والطبري وابن كثير والقرطبي وابن أبي زمنين ومكي بن أبي طالب القيسي والبغوي.
وكرد فعل، ربما على مرحلة التفسير الروائي، حاول المعتزلة تحقيق استقلالية النص القرآني عن غيره من النصوص ضعيفة السند ومتناقضة المحتوى (الروايات)، فقدموا منهجية مختلفة، هي المنهجية اللسانية، تقوم على مسلَّمة أن القرآن خطاب إلهي للبشر، استعمَل المجازَ استعمالَ العرب له في الأدب واللغة عمومًا، وبالتالي فإنه أصلح للفهم المبني على دراسة نَظمه، واستعمالاته اللغوية في علاقة ذلك بعلوم اللغة والبلاغة، ومِن أشهر ما أُنتج بهذا المنهج تفاسير كل من أبي مسلم الأصفهاني وأبي بكرٍ الأصم والشريف الرضي والزمخشري، وتفاسير الأشاعرة، الذين استفادوا من هذا المنهج مع مزجه بمنهج الرواية، مثل أبي حيان الأندلسي والثعالبي والبيضاوي والخازن. وهي المرحلة التي تم فيها تنظير (النَّظْم)، لأنه –من دون فهم النظم القرآني- يستحيل بالبداهة تفسيره وتحليله اعتمادًا على الاستعمال اللغوي والمجاز والخطاب.
ولأن هذا المنهج اللغوي-المجازي قد توقف حائرًا أمام ظاهرة يمكن لنا أن نطلق عليها (اللا مفسَّر القرآني)، مثل الحروف المقطَّعة مثلًا، ومثل الكثير من الآيات التي احتار في فهمها المفسرون اعتمادًا على الرواية أو المجاز، خاصة في القرآن المكي، الذي يستعمل أسلوبًا مختلفًا من حيث النوع البلاغي عن المدني، بما هو أكثر غموضًا وأعلى إيقاعًا وأعمق تأثيرًا وأغرب تصويرًا، فقد نشأ منهجان رمزيان لتفسير القرآن، أحدهما هو الباطني، الذي يعترف فقط بباطن النص دون ظاهره، هذا الباطن الذي لا يعلمه -في زعم زاعميه- سوى خاصة الخاصة من البشر، مثل تفسير كل من أبي الحسن الطبرسي وأبي الحسن العاملي (المنسوب خطأ إلى الكازُراني)، وثانيهما هو المنهج الإشاري، الذي يُعرَف به الصوفية، والذي يعتبِر بكل من ظاهر النص، وباطنه، معًا. مثل تفاسير كل من السلمي والواحدي النيسابوري والتستري والقشيري والآلوسي، وما يمكن استخلاصه وجمعه من مصنفات محيي الدين ابن عربي.
وقد استطاع المنهجان الرمزيان، فعلًا، حل مشكلة اللا مفسر القرآني، بافتراض أن هذا اللا مفسر (رمز)، له معنى في عالم الغيب، ولا يعلمه سوى خواص مراجع الشيعة، أو مشايخ الصوفية، وغير ممكن التفسير بناءً على الرواية أو الاستعمال اللغوي.
لكن الناتج عن استعمال هذين المنهجين الرمزيين ظل قاصرًا على طوائف الشيعة، وطرُق الصوفية، ولم يرقَ بطبيعة الحال إلى أن يصير تفسيرًا (جديدًا) للقرآن، بسبب أنه يعتمد على الإلهام الإلهي، الذي هو مصدر معرفي غير قابل للتداول، مما أعطى دفعة لظهور التفسير الموضوعاتي فيما بعد؛ باعتبار الأخير قادرًا على تحقيق أعلى قدر من الإجماع بين السنة والشيعة، كما سيلي توضيحه.
ففي العصر الحديث، ومع بدء حركات الإصلاح الديني الإسلامي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، واستجابةً إلى تحديات معاصرة تتعلق غالبًا بمقاومة الاستعمار والتحديث والديمقراطية، نشأ التفسير الموضوعاتي، معتمدًا على أصل تفسيري رابع هو (الموضوع).
ويعني التفسير الموضوعاتي تفسير الجزء في سياق كلي أشمل، بحيث يتكون هذا السياق الأشمل من (موضوعات) النص الأساسية، لذلك فهي أعلى مرحلة في إطار التوجه نحو التفسير السياقي. وفيها تفاسير محمد عبده ورشيد رضا وسيد قطب وابن عاشور والجابري والمرزوقي وحنفي، ومِن الإمامية الطباطبائي والمُدرّسي ومحمد حسين فضل الله، فجميع هذه التفاسير قد فسرت الآيات المفردة في سياق يحدد الموضوعات الأساسية للقرآن استقراءً مِن الجزئيات نفسها، هذه الموضوعات التي غالبًا ما تكون: الربوبية والتوحيد، قصص الأنبياء، الشريعة، الوعد والوعيد، وغيرها، لكنها تترابط عادةً لتفيد رؤية إصلاحية معاصرة بشكل ما.
وقد تنوعت المناهج التفسيرية الأساسية: الروائية، اللغوية-المجازية، الرمزية، الموضوعاتية، ليس على أساس الأصول التفسيرية التي تستعملها فقط، بل كذلك بناءً على العلاقة بين الأصول التفسيرية داخل المنهج الواحد؛ فمثلًا استعملت كل المناهج التفسيرية قدرًا من التحليل اللغوي والمجاز، ولكن الفرق كان دائمًا في العلاقة بين التحليل اللغوي والمجاز من جهة، وبقية الأصول التي تُستعمَل معها في المنهج الواحد.
اعتمد الطبري، مثلًا، على المجاز والتحليل اللغوي في تفسير (الكرسي) في آية الكرسي، لكن المنهج في صورته الشاملة يجعل الأسبقية والأولوية للرواية على ما سواها من أصول تفسيرية مختلفة، ولهذا تبرر الروايةُ الأخذَ بالمجاز عند الطبري. وكمثال آخَر اعتمد المنهج الإشاري على الرمز والمجاز والرواية معًا في توازن، بينما اعتمد الباطني على الرمز بدرجة أكبر بوضوح، بما يحقق له السيادة على غيره.
وهي علاقات السيادة والتنحي التي يمكن رصدها بين الأصول في المناهج التفسيرية. ومِن هنا فقد تنوعت، ويمكن أن تتنوع، المناهج التفسيرية، ولكن بناءً على عدد محدود من الأصول التفسيرية، كما تتنوع المركَّبات برغم محدودية عدد العناصر الداخلة فيها.
أهم النتائج: تحولات مفهوم النص ودور المفسِّر
يمنحنا علم أصول التفسير فهمًا أدق لطبيعة عمل المناهج التفسيرية وتكوينها، كما يمكِّننا من ردها إلى علم أصول الفقه، الذي تم فيه تنظير الرواية في مبحث الأدلة (الكتاب والسنة خاصةً)، والمجاز والدلالة القرآنيين في مباحث الحقيقة والمجاز والخاص والعام والخطابات القرآنية، والرمز في تنظير الحكيم الترمذي، مثلًا في «إثبات العلل» للتعامل الرمزي مع الشريعة، كما تم تنظير الموضوع في مبحث المقاصد؛ فجوهر التفسير الموضوعاتي عند مطبِّقيه هو «المقصود من الدين» وغايته في الأرض، لكن أهم النتائج، ربما، هي منحنا فهمًا لتحولات مفهوم النص، وقد تعرض نصر أبو زيد إلى هذا المفهوم في كتاب له بالعنوان نفسه، لكنه -كما لاحظ عدد من الباحثين بالفعل- لا يتكلم فيه عن عنوانه، بل هو دراسة نقدية في علوم القرآن، وربما كان العنوان تسويقيًّا.
لقد مر مفهوم النص –في رؤيتنا لا رؤية أبي زيد- بتحولات أساسية طبقًا لهذه الأصول التفسيرية نفسها: النص في علاقته بنصوص أخرى (الرواية)، النص المستقل الذي يُفهَم لغويًّا (المجاز)، النص الشفرة (الرمز)، وأخيرًا النص-الأطروحة الإصلاحية (الموضوع). كما يمنحنا كذلك فهمًا لدور المفسر في كل مرحلة: المفسر المؤرِّخ (الطبري مثلًا)، المفسر عالم اللغة (الزمخشري مثلًا)، المفسر الزعيم الروحي (ابن عربي مثلًا)، المفسر المصلح الديني (محمد عبده مثلًا) أو الفيلسوف (الجابري مثلًا).
والسؤال أخيرًا: هل يمكن إضافة أصل تفسيري خامس، هو الضمير الوجودي، أي تفسير النص باعتباره عملية تحقق وجودي للذات في العالَم؟