«البوصلة القرآنية»: كيف تخرجنا من مأزقنا المعاصر؟
هذه روشتة وضعها بين أيدينا الدكتور «أحمد خيري العمري»، في كتابه «البوصلة القرآنية.. إبحار مختلف بحثًا عن خريطة للنهوض»، الشاهد على سعة عقل كاتبه وتنوع مصادر ثقافته بين أدبيات التراث، وكتب المعاصرين، وبين فنون الفقه والحديث واللغة والتاريخ والفلسفة.
استعان كاتبنا بمراجع من كل هذه المجالات ليخرج لنا هذا المؤلَّف الذي تحيطك كثير من الأسئلة حوله بمجرد الانتهاء منه: هل يعرض كيف نقرأ القرآن؟ أم هو طريقة لقراءة تاريخنا الإسلامي؟ أم أنه أفكار لمشروع نهضوي معاصر؟
حول «البوصلة القرآنية»
يشتمل كتاب «العمري» مقدمتين وبابين وخاتمة. أما الباب الأول، فهو بعنوان «عناصر الخطاب الإسلامي أساسية، لكن مفقودة»، والباب الثاني، بعنوان «أمس واليوم وغدًا».
تحدث «العمري» في مقدمته الأولى عن أن فكرة الكتاب في الأصل كانت حول البحث في أولويات القرآن، عن طريق تتبع الترتيب الموضوعي الفكري للآيات حسب توالي النزول في مكة، وبالطبع فأولى الآيات نزولًا كانت «اقرأ»، التي مثلّت الجوهر الأساسي لرسالة الإسلام التي تحددت ملامحها تباعًا بتوالي نزول القرآن.
وجد الكاتب صعوبة في متابعة ترتيب النزول بدقة، كذلك فإن المبادئ التي زرعها القرآن في فترة التكوين الأولى صارت مفقودة في الوقت الراهن، ومن ثم فالأولى البحث عن عوامل وظروف فقدان تلك المبادئ القرآنية.
المقدمة الثانية، اختص بها كاتبنا الحديث عن فعالية «اقرأ»، أول كلمة اختارها الله ليعرّف نفسه إلى نبيه، وكما أن في الإسلام ثوابت وفي مفاهيمنا ثوابت فكذلك في قراءتنا ثوابت، ثوابت محكومة بالقواعد القرآنية والمقاصد الثابتة للشريعة، وهي مقاصد منتقاة من القرآن نفسه، جاءت «اقرأ» في صيغة الأمر، فهي فرض غير منسوخ، فرض ينسحب ويستمر على سائر الأوامر والأمور التالية له.
عناصر أساسية مفقودة
يرى «العمري» أن القرآن معجزة الإسلام، وبينما كانت المعجزات الحسية السابقة تعتمد على خرق للظواهر التقليدية، يتبعها اعتراف بعجز العقل المشاهد، مما يستلزم التسليم. فالقرآن سلك مسلكًا آخر في هذه الثلاثية المتلازمة (التحدي – الإعجاز – التسليم)، فالقرآن يستنهض قيم وطرق تفكير ترتقي بالعقل بدلًا من أن يعلن عجزه.
كيف يمكن لدين سماوي أن يجعل السؤال، بدلًا عن الجواب المنتظر، نقطة ارتكازه الأولى؟
هكذا أضحى التساؤل أول عناصر الخطاب الإسلامي، فلدينا «إبراهيم» أبو الأنبياء، وكذلك هو أبو التساؤلات أيضًا، سأل «إبراهيم» أباه «آزر» عن اتخاذه الأصنام آلهة، راقب الكوكب والقمر والشمس، بحثًا عن إله هذا الكون، وكذلك سأل ربه كيف يحيي الموتى لكي يطمئن قلبه، ليصل إلى اليقين النهائي، فالسؤال معول هدم من أجل البناء.
التساؤلات أيضًا من أساسيات النظام السياسي الإسلامي، وما الشورى –كحالة اجتماعية وسلوك اجتماعي- إلا نظام تعود أفراده على طرح الأسئلة وقبول الأجوبة، وقد كان النبيﷺ حريصًا على الشورى في كل وقت.
فتش عن السبب
يقول «العمري» إن عناصر الفكر المبثوثة في الخطاب القرآني لا تتضح إلا بربطها ببعضها البعض، والبحث عن الأسباب هو الخطوة المنطقية التالية بعد التساؤل التي اتبعها القرآن.
فالطبيعة على سبيل المثال عالم متداخل من الأسباب والمسببات والغايات، فالمطر ناتج من تصاعد البخار ثم تكاثفها، إلى أن تواجه درجات حرارة أعلى فتهطل الأمطار، وقصة ذي القرنين خير دليل فقد «آتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا»، أردف الكتاب هذا العنصر بتناول الأمر الذي حدث بين من نفى الأسباب ومن جعل الفعل الإلهي سببًا لكل ما يحدث في الواقع في شتى نواحي الحياة السياسية والاجتماعية.
الإيجابية، وهي ثالث عناصر الخطاب الإسلامي، فكيف تحول العرب تحولات هائلة في خضم عقود قليلة، بعدما كانوا أمة أمية مستسلمة لواقع دوني وسلبي، يعيشون دون كيان سياسي واجتماعي واضح المعالم.
وضرب المؤلف مثالًا بـ«يونس» عليه السلام، وكيف تغيرت رؤيته للعالم بعد أن دخل بطن الحوت، وخرج منه شخصًا آخر متصديًا لمسئولية الدعوة والتغيير والتحدي، وقد واجه النبيﷺ ما واجهه يونس وأكثر، وجاء الوحي «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ».
هل يستولي الأمس على اليوم ويشكل الغد؟
في تاريخنا الإسلامي -وكذلك كل تاريخ- هناك لحظات شكلت منعطفًا تاريخيًا واجتماعيًا ونفسيًا على المجتمعات والأفراد، وكانت لها بالغ الأثر في تكوين البنية التحتية الأساسية للفرد والمجتمع المسلم، رغم تغير الظروف واختلاف المتغيرات بعد تلك اللحظة.
يتساءل المؤلف هنا كيف يمكن للحظة تاريخية أو لمرحلة تاريخية أن تستمر وتهيمن على مراحل تاريخية بل عصور تاريخية لاحقة؟
يرى «العمري» أن ذلك يحدث عندما لا تعرضها لحظات تاريخية أخرى تمحو أثرها وتنفيها عن الوجود. على سبيل المثال؛ لحظة الصراع بين الكنيسة والعلم أنهت الاستبداد الكنسي بالمجتمع والحكومة، وهو حدث مؤسس في العقلية الغربية، وتستمر آثاره إلى الآن. على الجانب الآخر نجد سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا وإعلان هزيمة اليابان من قبل الإمبراطور هي منعطفات تاريخية، استطاع كلا البلدين أن يتغلب عليها، ويؤسس لمراحل أخرى تمحوها.
لكن يأسف الكاتب لكون اللحظات الإيجابية في تاريخ المسلمين لم تدم طويلًا، فلحظات التسامح التي سيطرت على مشهد دخول النبيﷺ مكة في عام الفتح، والعفو العام الذي صدر منه، تلك الأجواء لم تستمر فيما بعد، وكذلك فعلاقة الحاكم والمحكوم التي انبنت على المحاسبة والرقابة كما تجلت في قول أبي بكر «وليت عليكم ولست بخيركم، فإن ضعفت فقوموني» لم تستمر طويلًا كذلك.
تطرق حديث الكاتب بعد ذلك إلى المرحلة التاريخية التي يراها منعطفًا مهمًا في تاريخ المسلمين، ألا وهي بداية الحكم الأموي مع تولي «معاوية بن أبي سفيان» للخلافة، وقبل أن يخوض فيها، وضح أن الحساسية من الخوض في ذلك لا معنى لها، داعيًا لتناسي السب والتجريح بين مؤيد ومعارض، وأنه لا ينبغي التغاضي عن أخطاء تلك المرحلة بزعم أن ذلك يعني الانحياز إلى الطرف الآخر «الشيعي» في هذا النزاع.
لا يدّعي الكاتب أن فترة «معاوية» كانت خالية من الإيجابيات، إلا أنه يرى أنها لم تستمر من بعده، وعلى العكس فقد وجد من يكرس سلبيات فترة حكمه ويركزها لتصير نمط حياة، لقد ترسخ الاستبداد المتمثل بالبطش بالخصوم من بعده، كما فُعل بالحسين وعبد الله بن الزبير.
قد يقول قائل إن الاستبداد الأموي كان أكثر أخلاقية من تجارب الحضارات الأخرى، إلا أنه بالتأكيد دون مستوى المثل القرآنية والتجربة النبوية والحكم الراشد، فانتقاد هذه المرحلة وتقييمها هو بمقاييس قرآنية، وإذا أردنا الخروج مما وصلنا إليه من انحطاط، علينا أن نبدأ من هناك حيث المنزلق الأول، هكذا يرى «العمري».
واقعنا.. وعودة إلى الماضي
كتاب «البوصلة القرآنية» يبحث عن الخطوط القرآنية والثوابت المفقودة، وبالتالي كيفية فقدانها، والظروف والملابسات التي أدت إلى ذلك وأتت بخطوط أخرى مختلفة، بل ومضادة للخطوط القرآنية.
ولو طالعنا مراجع الكتاب قبل النظر في صفحاته لظننا أنه أطروحة علمية ذات طبيعة كتابية جافة، إلا أن الكاتب استخدم أسلوبًا أدبيًا مخاطبًا العاطفة، وفي الوقت نفسه سعى للتدليل على آرائه ومواقفه وأهدافه بأمهات الكتب والمراجع، ليعلن أن ما يهدفه من الكتاب ليس بدعًا من القول، ولكنه فقط يريد أن يعيد المسلمين النظر في تاريخهم ليتأملوا كيف ومتى حدث الانحراف عن المقاصد القرآنية، وما السبيل للعودة إليها من جديد.
لذلك انتقل كاتبنا للواقع المعاصر ليسرد إحصائيات توضح الفارق الهائل بين دول العالم المتقدم ودول الجنوب، في المأكل والملبس والدواء، تأكيدًا لدور الإسلام الريادي في قيادة البشرية جمعاء إلى مجتمع عادل مبني على أسس سليمة.