هوس الاقتباسات: هل يصمد الأدب أمام الريتش؟
يقول دستويفسكي:
هذا الاقتباس ليس مزحة من تأليفي، بل هو منشور على لسان صاحبه، في صفحة فيسبوكية باسمه، يتابعها أكثر من مليون شخص، ويتم ترويج هذه الاقتباسات على نطاق واسع باعتبارها مقتصة بالفعل من كتبه.
دوامة الاقتباسات الأدبية على الميديا هائلة ولا تنتهي تقريبًا. هناك اقتباسات مناسبة لكل موقف حياتي يمر به القارئ، خصوصًا ما يعبر عن ضعفه وبراءته في وجه الحياة، حتى صار الأمر شبيهًا بتعليب المقولات الأدبية واستنطاقها وقت احتياجها، ثم تجاوز ذلك لمحاولة تخليق مقولات جديدة على لسان الكتاب المتحققين لضمان تأثيرها وانتشارها، مما يضعنا أمام إشكالية أن القراء اليوم يهملون كل فنيات الأدب وجمالياته في سبيل سطحية اقتباساته العابرة.
القراء من عطارد، والاقتباسات من أين؟
ظاهرة الاقتباسات ليست وليدة اليوم، لكنها لاقت رواجًا خرافيًّا مع انتشار الميديا، حتى إنها صارت بشكل ما أحد معايير الحكم على جودة الكتاب أو العمل الأدبي.
على موقع جودريدز المختص بنشر آراء القراء في الكتب، قيَّم أحد القراء رواية ما بأنها فذة وعبقرية ومكتوبة بفلسفة مبهرة لدرجة أنه أخذ منها أكثر من ثلاثمائة اقتباس. هنا لا نتحدث عن الاقتباس بمفهومه الفني ومحاكاة فكرة عمل أو جزء من تيمته والتنويع عليها لإنتاج عمل فني جديد بروح مختلفة. ما يقصده القراء هنا هو الترجمة الحرفية لكلمة quote، وتعني تكرار كلام شخص ما، خصوصًا لو كان مشهورًا مع ذكر مصدر الكلام، أو ما يفعله القراء بتظليل جمل معينة من الكتب وإعادة نشرها كمنشورات وتغريدات يومية.
تتعدد الأسباب التي تجعل القراء يلهثون خلف الاقتباسات وإعادة نشرها، بل تأطيرها على حساباتهم الشخصية باعتبارها مدخلًا تعريفيًّا بهم، وتماهيهم معها أحيانًا.
تقول الناقدة ناهد راحيل إن الأمر يتعلق بارتباط عاطفي ما، حيث «إن الاقتباسات تتصل بحالة المتلقي النفسية ومشاعره الخاصة وقت الاستدعاء، ويتعلق كذلك بوظيفة فكرية تكشف عن الاتجاه الثقافي والسياسي أحيانًا؛ فاختيار نص بعينه لا يخلو من القصدية، سواء عند اختيار مؤلف النص أو العبارة المنسوبة إليه». في ظل هذا التفسير يصير مفهومًا بشكل ما فيضان الاقتباسات على الميديا، خصوصًا مع رواج نبرة الشكوى من كل تفصيلة يومية حتى ولو عابرة.
قد يبحث القراء عن كلام عميق ومنسوب إلى مؤلف معتمَد ثقافيًّا وجماهيريًّا ليعبروا عن حالتهم النفسية وتكتسب الحالة مصداقية شكلية وسط دوائرهم القريبة. ذلك الارتباط العاطفي بين الكلام ومزاج المتلقي يلقي بظلاله على تقييم العمل الأدبي، ويوجه دفة الكتابة لتنتج سنويًّا فيضانًا من أعمال لا تهتم بصناعة الأدب بقدر ما تهتم بحشد أكبر قدر من الحكم -المقصودة- على لسان الأبطال.
يظهر بوضوح هذا الهوس بالكلام الحكيم في الأعمال الأدبية التاريخية، خصوصًا التي تسترجع فترة متوترة من التاريخ الإسلامي. يلتفت الكاتب محمد عبد القهار لتلك الظاهرة في محاولة حشر الكلام الحكيم على لسان أبطال الروايات. يقول عبد القهار في إجابته على سؤالنا إن الاحتفاء بالاقتباسات أمر طبيعي في عالم اليوم المحكوم بالوسائط المكتوبة، واستخدام أفعال الكتابة اليومية كالتغريدات والدردشات.
عبد القهار روائي مصري له روايتان تاريخيتان تحت عنواني «سراي نامه» و«غارب»، لاقتا استقبالًا جيدًا من القراء والنقاد، وبرغم أنهما يعنيان بفترات ملتبسة من التاريخ الإسلامي، فإنه يحاول إعطاء صورة واقعية لتلك الفترة، حتى إن الشخصيات تتكلم بلهجاتها المحلية المناسبة لزمانها. يضيف عبد القهار أن «قارئ اليوم لا يكتفي بكونه قارئًا فقط وإبداء رأيه في العمل، وإنما يريد أن يكون منتجًا للمحتوى المكتوب؛ لأنه يعيش في عالم من النصوص على مواقع التواصل، بما يدفعه لمحاولة جذب الانتباه المستمرة في سبيل أن يكون موجودًا دائمًا، وهذا ما يجعل بعض الروايات تحصد رواجًا خرافيًّا بسبب قابليتها العالية للاقتباس السريع بغض النظر عن قيمتها الأدبية والفنية، كانتشار أصداء السيرة الذاتية كأكثر أعمال نجيب محفوظ اقتباسًا على الإنترنت في مقابل أعماله الأخرى الأعلى فنًّا وفلسفة».
إنهم يقرأون الأدب.. أليس كذلك؟
يندفع القراء اليوم إلى محاولة خلق محتوى خاص بهم، حتى لو كان مجرد اقتباس كلام منمق للفت الانتباه ليس إلا. لا تتوقف ظاهرة تدوير الاقتباسات عند حد استنطاقها من الكتب فقط، بل تغولت إلى درجة ظهور صفحات مليونية وموثقة بأسماء أدباء متحققين عالميًّا كنجيب محفوظ ودوستويفسكي وغيرهما، لتنشر كلامًا عشوائيًّا وغير متماسك على مستوى البنية الأدبية أساسًا، وباعتباره من إنتاج أولئك الأدباء، ثم يلقى رواجًا ومشاركات مهولة.
تنتج تلك الصفحات نسخًا مشوهة من الأدباء المعروفين والمتحققين أدبيًّا، نسخًا لا تشبههم في شيء، خاصة أن أغلب الاقتباسات تدور في فلك الندب والشكوى الطفولية والحكمة المباشرة، وهو أمر بعيد عن جوهر إنتاجهم الحقيقي المشتبك مع الحياة. قد لا يهتم مديرو تلك الصفحات بمصداقية المحتوى الذي يقدمونه في سبيل تحقيق (الريتش) والتفاعل، لكنهم يحسنون استغلال لهاث الجماهير خلف الاقتباسات وشهرة الاسم لنشر اقتباساتهم المفبركة، في محاولة لتحقيق الشرعية لها. ذلك الرواج والتدليس المتعمد يخلق فجوة هائلة بين حقيقة إنتاج أولئك الأدباء، وبين الصورة الذهنية التي تتشكل عنهم لدى أجيال مستخدمي الميديا حاليًّا، بما يشكل خللًا في نمط التعامل مع الأدب وفهمه.
قد نعود بالذاكرة للوراء قليلًا لنرجع الظاهرة إلى أصلها، عندما انفجرت مجموعات القراءة على الفيسبوك بشكل فيروسي منذ عشر سنوات تقريبًا بعدة (جروبات) حققت جماهيرية كاسحة وسط القراء الشباب، الذين استيقظوا فجأة على مجتمع مدهش من القراء من كل أنحاء الوطن العربي بأعداد مهولة. في ذلك التوقيت كانت فكرة جروبات القراءة فكرة ثورية على مركزية أندية الكتب والمراجعات. زاد تدافع الشباب على الجروبات مع نشر المراجعات وأغلفة الكتب المحببة لهم، وبالطبع الاقتباسات التي لامستهم. ظهر وسط (الجروبات) وجوه جديدة من الكتاب الشباب، كانت لهم بعض التجارب الجيدة أحيانًا، لكن يمكننا القول إن أغلبيتها اتسمت بتماشيها مع المزاج العام للجروبات دليلًا على أنهم لا يهدرون وقتهم في التوافه.
بعدما خفت الانبهار بجروبات القراءة وقل التفاعل والحديث اليومي عنها، بقي أثرها ظاهرًا في أنماط قراءة كثيرة، في فيسبوك تحديدًا.
سارة الشبراوي، صيدلانية، ومديرة مجموعة قراءة «جمعية غرينزي وفطيرة قشر البطاطا»، تقول لنا إن الجروب ساعدها في اكتشاف كتاب كثيرين وساهم في تعزيز مستوى قراءتها واطلاعها. تضيف سارة أن مجموعتهم تسعى إلى قراءة ونشر الأدب الجاد، أو ما يمكننا تسميته بالأدب الرفيع، في محاولة للسباحة في تيار كبير من الجروبات التي تروج لأعمال سطحية. وتشير إلى أن نشر الاقتباسات باتت أداة ترويج أساسية من الكاتب وأصدقائه ودور النشر للعمل الأدبي، لأنها قد تدفع بعدد من القراء للبحث عنه وإرضاء فضولهم، فـ «هذا الوقت هو وقت الاقتباسات، لأن معظمنا لا يتوقف كثيرًا أمام المنشورات الطويلة، والأجيال الجديدة من القراء لا تحتمل قراءة ريفيوهات دقيقة ومفصلة، بل تحتاج شيئًا مشجعًا للذهاب نحو الأعمال الأدبية، وهذا ما قد يفعله الاقتباس في عشر ثوانٍ، وأنا أحيانًا قد أستخدمها في الجروب للتدليل على جودة كتاب ما».
قد تكون المشكلة في نشر الاقتباسات هي أنها ستصبح مثل «ريلز الفيسبوك» أو مقاطع التيكتوك، مجرد محتوى هوائي لا يتوقف المتلقي أمامه سوى ثوانٍ ثم يزيحه بإصبعه، مبتعدًا عن جوهر الأدب، نحو خلق شكل جديد تمامًا من الكيتش.
زمن ما بعد الكيتش
استخدم الروائي ميلان كونديرا مصطلح الكيتش في روايته الأشهر: كائن لا تحتمل خفته، للتدليل على حالة ثقافية يُعاد فيها إنتاج شيء جميل وأصيل، لكن بصورة أكثر رداءة تنزع منه جوهره، وتجعله مبتذلًا.
كلمة الكيتش في أصلها اللغوي في قاموس اللغة الألمانية مشتقة من كلمة «Kitschen» التي تعني «جمع القمامة من الشارع»، أو من كلمة أخرى وهي «Verkitschen» وتعني «جعل الشيء رخيصًا». وربما هذا ما تفعله الصفحات المليونية التي تنسب الاقتباسات الرديئة والمزيفة إلى الكتاب المتحققين.
في كتابها الأخير «أقفاص فارغة» تقول الشاعرة والروائية فاطمة قنديل إن أسوأ ما قد يحدث لها بعد موتها هو اقتصاص الاقتباسات من كتبها، وتصوير حياتها كأنها قول مأثور. تعارض قنديل بتخوفها ذاك فكرة تحويل الأدب إلى «كيتش» رديء من الاقتباسات يتناقله الجمهور باعتبارها عبرة أو موعظة.
اليوم تستخدم صفحات الفيسبوك زهوة الاقتباس لتخلق سلطة من كتاب متحققين في الوعي الجمعي حتى يمكن تمرير شعارات بعينها، وهو ما يتنافى مع مفهوم القراءة بالأساس، التي لا تعطي سلطوية لأي كاتب بعينه بقدر ما تمنح حرية التلقي والتفاعل بينه وبين قرائه. ومن ناحية أخرى فلهاث القراء خلف الاقتباسات وتكديسها على الإنترنت يخلق فقاعة مهولة من «كيتش» جديد بالكلية يعتمد على ادعاء الثقافة الزائفة التي تصير مع الوقت مجرد أكسسوار يتحلى به الشخص لاكتساب احترام أو وجاهة اجتماعية لحظية على الميديا لا أكثر.
ربما يأخذنا هذا الطريق على استقامته إلى احتمالية تخليق جيل من الكُتاب لا هم لهم سوى حشر الاقتباسات المبهرجة غصبًا وسط صفحات كتبهم بما يناسب مزاج مستخدمي الميديا، عندها يفقد العمل الفني قيمته المعنوية والثقافية ويصير شيئًا مبتذلًا لا يمكن تحديده، مثل ما يحدث مع رسومات فان جوخ التي تتم طباعتها اليوم على كل شيء بداية من الولاعات وانتهاءً بـ «مشايات الحمام». هذا الابتذال يدفعنا في دوامة من الأسئلة المقلقة، أهمها: هل يصمد الأدب اليوم أمام شهوة الريتش؟