فيلم «Quo Vadis Aida»: من يتذكر مذابح البوسنة؟
في نسخة عام 2020 من مهرجان الجونة، حصل فيلم «إلى أين تذهبين يا عايدة؟ – quo vadis aida» على الجائزة الذهبية، جائزة أفضل فيلم، وحصلت الممثلة الرئيسية للفيلم «جاسانا غورزيتش – Jasna Đuričić» على جائزة أفضل ممثلة في دور رئيسي.
صعود الفيلم في مهرجان الجونة لفت أنظار المشاهد العربي له، خاصة أنه آتٍ من احتفاء مبدئي أثناء العرض في مهرجانات أكثر عالمية، مثل مهرجان تورنتو السينمائي، ومهرجان فينيسيا، هذا كله قبل أن يصل للقائمة القصيرة لترشيحات الأوسكار.
عايدة، مدرسة لغة إنجليزية في بلدة «سريبرينيتشا» في البوسنة، تعمل أيضًا مترجمة بوسنية/إنجليزية لصالح قوات حفظ السلام الهولندية التابعة لمفوضية الأمم المتحدة. تجد عايدة نفسها، دفعة واحدة ودون مقدمات، في مركز حرب واعتداء مباشر على بلدتها من قبل الجيش الصربي في منتصف التسعينيات، يتضخم دور عايدة كحلقة وصل بين سكان البلدة وبين قوات حفظ السلام، خاصة عندما يلجأ الأهالي، هاربين من قذف المدينة وقتل المسالمين، إلى مقر القوات التي تمثل الأمم المتحدة.
مفارقات ممتدة، تبدأ من أحداث جانبية سريعة، مرورًا بأزمات تضع عايدة بين الشخصي والعام. استدعاء لأزمات الحروب بتفصيلاتها، لوضع المشاهد في قلب الحدث، محاولة توثق –بإصرار- أن قاعدة “التاريخ يكتبه المنتصر” يمكن أن تُقاوَم.
استدعاء متقن للماضي
يبدأ الفيلم مع انطلاق المذياع بهذه الأخبار، بلدة مسالمة تتعرض للإبادة، بينما العالم يغفل متعمدًا كل هذه الاعتداءات. في عام 1995 داهمت قوات الجيش الصربي، خلال مرحلة الحرب العرقية على مسلمي البوسنة والهرسك وغير مسلميها، بلدة صغيرة قد أعلنت الأمم المتحدة أنها منطقة “أممية آمنة” أي ليست تابعة لأحداث الحرب الجارية. لكن تجاوزات الجيش الصربي تمادت، داهموا القرية وأمطروها بالقذائف، ما سبب ذعرًا لأهل البلدة، ولجئوا مجبرين، كحل وحيد آمن، إلى مقر القوات الهولندية، التابعة لمفوضية الأمم المتحدة.
في المشهد التالي للبداية التي تقدم الحدث في ذروته، دون مقدمات مبدئية، ربما لأن الحرب هي في الأساس نشاط بشري وحشي غير منطقي، يصعب ردُّه إلى طباع يمكن تناولها بطرق عقلانية. يجلس عمدة البلدة مع ممثل قوات حفظ السلام، التي تمثل الخلاص الوحيد من الوحش الصربي.
يتناقش العمدة مع رئيس القوات في ضرورة التدخل العسكري لقوات الأمم المتحدة، يعده رئيس القوات بقدوم تدعيمات وطائرات حزب الناتو لضرب الجيش، وعايدة تجلس بينهما، كحلقة وصل، تصبح بعد ذلك مركزًا للحرب التي يناقشها الفيلم، تترجم بين الاثنين. يطلب العمدة بندية، تعبر عن خوف من هلاك قادم، أن تترجم عايدة جملته الموجهة إلى الرئيس بأنه مسؤول عن وعوده بفرض الحماية وإنقاذ المدنيين، إلا أن الرئيس يجيب، محددًا موقعه من القدرة على صنع القرار في مثل هذه الظروف، يقول: “أنا مجرد عازف بيانو”. أي مجرد رسول، ينفذ التعليمات ليس أكثر.
هذه البداية، التي تعزل المدينة عن تدخلات الشأن العالمي، وتضع العالم الذي تقف فيه عايدة كحلقة وصل أخيرة بين الحدود المحلية العاجزة والتدخلات الدولية، تمثل الأمل الوحيد.
تتم زحزحة ذلك العالم إلى مساحة فردية، كي يواجه مصيره القادم، في حرب غير عادلة، لم يختر طرفها الآخر أن يحارب، وحتى في إجباره على الحرب تقوم مقاومته على فوارق كبيرة في توزيع مراكز قوى الطرفين واحتمالات النجاة.
دفعات كبيرة من الناس تغادر منازلها، قطعات مشهدية سريعة لقتلى مسالمين في الشارع، طعام يطيب على النار ولا يجد أصحابه، الآن ذروة الحرب دون مقدمات تمهيدية، لا فرصة لتقديم شخصية أو وضع خطوط مبدئية في قصة، تتعمَّد مخرجة الفيلم أن تمركز قصتها حول شيء واحد، استدعاء تفصيلات الاعتداء على البلدة؛ لأن هذه قصة ليست عادلة كفاية لتتقبَّل بطولات تشتبك وتصنع قصة، بل تقبل بطولة للحرب، ينسحق أسفلها أشخاص لم يختر أي منهم ذلك المصير.
أسلوبية التصوير في الفيلم مختلفة، رغم أن لدى المخرجة مادة حكائية يمكن من خلالها خلق تتابعات من التأثير المباشر على المشاهد، باعتبار أن الحرب فعل مؤثر، وأن التعاطف والتأثر كردود أفعال آمنة من المشاهدين، هي أقرب ردود الفعل وأكثرها مجانية، التي يمكن أن يدفعها المشاهد بحب.
لم تستجب طبيعة الصورة في الفيلم إلى استغلال هذه الميزة. مثلًا، محاولة التعبير عن تفاهة الأزمات الفردية الكبرى أثناء تهديد جماعي بالإبادة، لم تعبِّر عنها الصورة إلا في حالة جانبية، حينما تتفاجأ عايدة مثلًا خلال حضورها المربك لتخلق حالة وصل بين الأهالي وبين قوات حفظ السلام، وتتذكر أنها لا تعرف أين عائلتها، وحين تبحث عنهم، تجد فردًا وحيدًا من أفراد عائلتها الثلاثة داخل مقر القوات، أما الاثنان الآخران، الزوج والابن الآخر، فموجودان في الخارج لأن القاعة لم تعد تحتمل دخول مدنيين أكثر.
تناول جانبي، سريع ومقتضب، لأزمة كبرى تزيحها الحرب إلى مساحة جانبية، كيف يكون شعور أحدهم حينما يتفاجأ مرة واحدة بأنه يفقد عائلته في أرض تسكنها الحرب ويلتصق التهديد بناسها المسالمين؟
تتابعات سريعة أخرى، استدعتها مخرجة الفيلم، ووضعتها في مساحتها المناسبة خلال الحرب، لتعبِّر بالتزام واقعي، وطرق فنية خلاقة، عن فظاعة حرب دون توثيق اعتداءات حربية واضحة، رغم أنها ميزة مشروعة، أن تستعيد المشاهد التفصيلية لقتل الأبرياء وإبادة أفراد لأسباب عرقية أو دينية، أو حتى بدون أسباب أصلًا.
حاولت مخرجة الفيلم ياسميلا شعباني أن تعزز من فكرة فظاعة الحرب وتهديداتها بتوثيقها لافتقاد أشياء عادية، نمتلكها بصورة يومية باعتبار أنها بديهية في الحياة. تسير سيدة عجوز وراء عايدة في القاعة الكبيرة، وتخبرها أن القوات لم توفر لهم طعامًا، والأسوأ أنه ليست هناك حمَّامات عمومية لكل هؤلاء الناس، بينما عايدة تسير وراء رئيس القوات بسرعة، وتخبر السيدة بأنها ليست أكثر من مترجمة وليس في يدها شيء، ورئيس القوات يتبين دوره المهندم مع تطورات الفيلم أنه أيضًا ليس أكثر من منفذ للأوامر، كل هذه المؤسسات والمفوضيات والاشتباكات السياسية الدولية تقف عاجزة عن توفير دورات مياه لمجموعة من المدنيين.
في حوار لمخرجة الفيلم ترد على سؤال المحاورة عن التركيز على استدعاء اللحظة التاريخية بكل أشكالها، رغم أننا الآن في مساحة زمنية متقدمة، نعرف ما حدث وما سيحدث وكل توابع هذه الحرب حتى الآن، فإن الفيلم يلتزم باستعادة تخبط الحاضر، ويضع المشاهد في سؤال متتابع، رغم أنه يعرف حيثيات الحكاية، عن ماذا ستفعل عايدة ؟ كيف ستتدخل قوات حفظ السلام وإلى أي مدى هنالك أمل في أن تنقذ الهيئات الدولية هؤلاء المدنيين؟
العام أم الخاص؟ الناس أم العائلة؟
عند الوقت الذي تدرك فيه عايدة، أثناء الانشغال بالوجود في محيط الكوادر العسكرية التابعة لقوات حفظ السلام وفي محيط السكان المحليين للبلدة، وعندما تقع في أزمة تعنيها بشكل خاص، يصبح زوجها وواحد من أبنائها خارج بناء قوات حفظ السلام، يقفان بين جماعات ضخمة من سكان البلدة، منعتهم القوات من الاحتماء في الداخل، هذه الجماعات، معرضة بشكل أكبر، لخطر مداهمة الجيش الصربي لهم وإبادتهم جميعا.
كل سكان البلدة تعنيهم عايدة المترجمة؛ لأنها على مستوى الممارسة، هي صوتهم الوحيد تجاه أملهم الأخير للخلاص، لذلك فإن حدود العام والخاص، ما يعني عايدة بصورة شديدة الخصوصية، وما يعنيها على مستوى عمومي، كالتزام سياسي أو أخلاقي، كل هذه التقسيمات أزالتها طبيعة الوقت الحرجة.
لكن باعتبار أن العائلة، خاصة في مثل هذه الأوقات، هي كل شيء، تحاول عايدة التدخل لأجل إدخال ابنها وزوجها، استثناءً من جماعات الناس المنتظرة بالخارج. تضع مخرجة الفيلم عايدة دائمًا أمام مفارقة مركزية، ما الفارق بين عائلتك وبين بقية المنتظرين بالخارج؟ وهل هذا وقت مناسب لوضع استثناءات؟ وهل كونها مترجمة تابعة لقوّات حفظ السلام يعطيها الحق في استثناء عائلتها للدخول إلى موقع أكثر أمانًا من بين كل هؤلاء الناس؟
عمومًا، الفيلم لم يكن منشغلًا بالإجابة عن هذه المفارقة، بقدر ما كان منشغلًا أكثر بالتعبير عن طبيعة الأزمة المركبة، امرأة تتوسط بوادر إبادة جماعية، تقف كحلقة وصل بين الخوف من الهلاك وبين الأمل الوحيد الباقي، وهو أمل عاجز على كل حال، وهي على مستوى أولي قبل كل هذه الأشياء أم وزوجة، بالطبع، تدفعها أنانيتها المشروعة للحفاظ على عائلتها!
حينما نضع خصوصية القصة عند عايدة، نستقطعها من السياق العام لحكاية الفيلم، يتضح أن الصورة الكلية لذلك الحدث، هي مجموعة متباينة من المفارقات، مجموعة عددها يساوي عدد كل المدنيين المتورطين عنوة في الحرب دون اختيار، المتجهين إلى الموت دون اختيار أيضًا، أو حتى الحصول على رفاهية المقاومة.
البلدة جميعها، هي عبارة عن نماذج حكائية متعددة، مشتبكة مع بعضها، منفصلة ومستقلة أيضًا، تشبه أزمات عايدة، تشبه أسئلتها الكبرى، إشكالياتها التي تتصاعد مع التدفق اليائس لسردية الفيلم.
مع تصاعد الأحداث وتفحش سلطة الجيش الصربي تظهر قدرة ياسميلا مخرجة الفيلم على التعبير الشجاع عن تخاذل سلطات اتخاذ القرار في الأمم المتحدة، يتفق الجيش الصربي مع رئيس قوات حفظ السلام على تخيير المدنيين بين البقاء أو الرحيل، يقدم رئيس قوات حفظ السلام اقتراحًا بتولّي مسؤولية إخلاء المدنيين، مع الحصول على دعم من قوات الجيش الصربي. ينتهي الأمر بتولي الجيش الصربي عملية نقل المدنيين، يتم فصل الرجال عن النساء، وتبدأ عمليات الإبادة الجماعية، مجموعات صغير تقتل على مسافة قريبة من مقر قوات حفظ السلام، ومجموعات أخرى يتم ترحيلها إلى بلدات مجاورة، تقع تحت سيطرة الجيش الصربي، وهناك تحدث الإبادة بصور أكثر بشاعة.
ماذا فعلت عايدة لكي تحافظ على عائلتها؟ كل ما فعلته لم يكن كافيًا لإنقاذهم، لذلك تحولوا من حكاية مركزية في فيلم، إلى مجرد أشخاص أُبيدوا بين مجموعات كبيرة، وتحولت عايدة من بطلة مركزية وحكاية مؤثرة في فيلم، وتراجعت إلى الوجود بين مجموعة من فاقدي ذويهم، وقتها استجابت لها كل الأدوات الفيلمية، استدعى الفيلم موسيقى تعزز فظاعة الحدث، تحركت الكاميرا لتقدم كوادر أكثر سعة، بعدما كانت أغلب الفيلم محصورة في كوادر ضيقة، تعبر عن قلة الحيلة وعن سيادة الحصار.
في الجزء الأخير من الفيلم، بعد حادث الإبادة بفترة، لا زالت عايدة تبحث عن ابنيها وزوجها، تدافع عن حقها في الاحتفاظ بالذاكرة قبالة حرب أخرى ذهنية، حيث تنزع السلطة حق الاحتفاظ بالجثث، وتحاول أن تخلق حكايتها ذات الصوت الأعلى، قوات الجيش الصربي وضحايا الإبادة أصبحوا جيرانًا، وعايدة تعود إلى مدرستها كمدرسة للغة الإنجليزية، تدرس لأطفال قاتلي عائلتها، بعدما حصلت على رفاهية واحدة ووحيدة، هي إيجاد ثياب وعظام أحد المفقودين من عائلتها. وقتها فقط أصبح البكاء مستحقًّا.
مقاومة الحرب على الذاكرة
فيلم إلى أين تذهبين يا عايدة ليس تجربة سينمائية عابرة، أو محاولة سينمائية ناجحة لاقت اهتمامًا جيدًا في عدة مهرجانات. مخرجة الفيلم، صاحبة الـ 46 عامًا، هي مخرجة بوسنية، تنتمي إلى هذه الإبادات التي حدثت في مرحلة عمرية لها، كافية أن تتفهَّم مدى الظلم الذي حدث لأبناء شعبها، لذلك بعد دراسة السينما في أمريكا، بدأت هي في تأسيس مشروع سينمائي محوره هذه الحرب، بدأت بفيلمين قصيرين، ثم فيلم روائي طويل بعنوان “جربافيسكا: أرض أحلامي”، عُرض الفيلم في مهرجان برلين عام 2006، ونال جائزة الدب الذهبي.
في عام 2013، تعود ياسميلا بفيلم آخر «من أجل هؤلاء الناس الذين لا يستطيعون أن يحكوا حكايتهم»، لا يخرج عن إطار توثيق الحرب، لكن برؤى خارجية، تستقطب التغفيل الدولي للشعوب كي يتم تحويل سردية الحرب وتخاذل الكيانات الدولية وقتها، يقدم الفيلم حكاية بعيون أجنبية، ليست محيطة بتفاصيل أحداث الحرب.
إلى أين تذهبين يا عايدة هو آخر محطات المخرجة في مشروعها الطموح، وهو عمومًا محطة أكثر تأثيرًا من الأفلام السابقة، نظرًا للانتشار الدولي الذي ناله الفيلم، وتأثيره حتى في توجهات السلطات السياسية في البوسنة، وقبول الأخيرة ترشيح الفيلم ليشارك في مسابقة الأوسكار فئة الأفلام الأجنبية.
الحروب، عادة، يطوِّع أحداثها المنتصر، لكن القدرة على الدفاع عن الذاكرة ممكنة، أو على الأقل فعل يستحق المحاولة، وربما هو النقطة المحورية في هذا الفيلم، إن الحكايات دائمًا، على اختلافها، لديها جانب آخر، مقهور ومزوي بفعل المركز الأقوى، لكنه جانب يستحق أن يُروى.