القنطار.. لقد فات الجطار
مما لا شك فيه أن الشهادة تأخذ معانٍ أخرى بعيدا عن معانيها الدينية التي يتعارف عليها عوام المسلمين اليوم، فالشهادة في العرف الحربي أسمى مراتب البطولة وليست وحسب استحقاقا دينيا؛ فلمّا ذاع خبر استشهاد القنطار في جرمانا بسوريا ذهب الناس إلى إنكار حقه في أن ينال الشهادة من بابين، أولهما نابع عن تصور ديني بأن هذا اللقب لا يناله إلا من شهد بوحدانية الله وسموّ رسولية نبيه، وأمّا الثاني فنابع عن تصور أخلاقي بأن سمير القنطار، كائنا من كان، فهو أدنى من أن يحوز هكذا شرف بعدما تلطّخت -بشكل مباشر أو غير مباشر- يداه بدماء السوريين في الحرب المستعرة الدائرة هناك.
من هذين التصورين للشهادة تشعبت جدالات جمة طافت مواقع التواصل الاجتماعي، فهل سمير القنطار شهيد فعلا؟ وإن كان، فبأي حق؟ لا يجب أن يكون هذا محل شك. بالنسبة لي على الأقل، وبالنسبة لي أيضا، فقد تمكنّا كشعب من النجاة بأنفسنا طيلة 70 عامًا من التطهير العرقي والتهويد ومحاولات الاقتلاع والهدم والطحن ومص الدماء. وإن أيادي الشبّان العزل، التي تقذف الحجارة وتطعن بالسكاكين لأشدُّ طهرا من الأيدي التي ترفع السلاح على السوريين وتطيل أمد موتهم إلى أجل غير معلوم. فلماذا سيساورني الشك مرتين بشأن شخصية كشخصية سمير القنطار؟
إن كانت المسألة مسألة تقاطع مصالح واصطفاف، ألا يبدو من غير المبرر وغير المقبول التفاهمات الأمريكية الإيرانية الأخيرة بشأن الملف النووي؟ وألا تعني هذه التفاهمات صيغة من تقاطع المصالح مع كل من إيران والولايات المتحدة فيما يخص الجنون الذي يشوب المنطقة؟ فلماذا يحق لإيران الوصول إلى تفاهمات مع أمريكا ولا يحق للثوار السوريين الحصول على دعم لوجستي أو أن تتقاطع مصالحهم مع الولايات المتحدة؟ وإن كان العدو الصهيوني قد دعم جبهة النصرة بقصفه عددا من المواقع أو إسعافه عددا من مصابي الجبهة، فهل يُعقل أن الثورة السورية متمثلة في جبهة النصرة؟ لم تكن النصرة من أشعل فتيل الثورة الأول، وإن عددا كبيرا من قادتها هم خريجو سجون النظام السوري نفسه الذين أرسلهم كي يمارسوا تكفيرهم على العراقيين أيام الحرب الأمريكية على العراق. أي ازدواجية هذه؟
ومنذ متى والقضية الفلسطينية مختزلة في رموز وشخوص حولها الكثير من علامات الاستفهام؟ نحن لم نتوقف عن إنجاب الأبطال، وما أكسبنا القدرة على الاستمرار كان على الدوام قدرتنا على تجاوز مرحلة ومن ثم القفز نحو المستنقع الجديد، لكن يبدو أن مستنقع حزب الله أخطرها على الإطلاق. فبعد اغتيال الكثير من الشخصيات البطولية الفلسطينية، أو أسرهم، ترك على الساحة قيادات هشة تتصارع فيما بينها على أوراق سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع. سواء شئنا أم أبينا، فإن اسماعيل هنية بوجهه البريء يفتقر إلى كاريزما الرنتيسي العسكرية، فقائد حماس تحوّل من الرجل الذي يحمل البندقية ويصرخ في الفلسطينيين «عدوكم لا يعرف سوى هذه اللغة: مشيرا إلى البندقية»، إلى خطيب يوم الجمعة في إحدى مساجد المخيمات. ناهيكم عن الترهل الإعلامي الذي تعانيه الحركة في ظل غياب الخطاب العسكري لأبي عبيدة، والذي طالما منح الأداة الإعلامية للمقاومة الفلسطينية قواما صلبا ومتماسكا.
وعليه، أصبح التفات الفلسطينيين نحو شخصية كشخصية حسن نصر الله يتجاوز مسألة محور الممانعة التي لم تكن مقنعة لكثير من الفلسطينيين في ضوء وهج الثورة الفلسطينية الضيّاء في الحرب الأخيرة، وأصبحت مساندة حزب الله من قبل قطاعات متزايدة من الفلسطينيين تعزى في رأيي إلى غيابشخصية البطل في الوعي الجمعي، هذا بالإضافة إلى حصار عربي خانق على المقاومة، أو دعم مشروط في فنادق الدوحة واسطنبول. وفيما يتعلق بسمير القنطار، فلا يتعدى الأمر إحساسا بالوفاء لأيام الملحمة الفلسطينية في أزقة بيروت. لكنني سأظل متشوقة لرؤية هذه الوطنية حينما يستشهد أحمد سعدات القابع في سجون الاحتلال هذه الأثناء.
لقد بات هذا الاصطفاف المحموم خلف حزب الله في تزايد مستمر، ولا يمكن إلا أن تكون له عواقب وخيمة في المستقبل، كنشرالتشيع، والذي بات يتفشى في غزة نفسها، والتشيع هنا كما قال سمير القنطار حين سئل عن سبب تشيعه من الدرزية «لقناعات ذاتية»، ولاصطفاف سياسي، بكلمات أخرى سيكون التشيع في البداية سياسيا لكنه سيكون ثغرة تفتت نسيج الوحدة الفلسطينية التي أبقاها غياب العنصر المذهبي صلدة برغم كل الأساطير التي ولدها انقسام حركتي فتح وحماس عن حرب أهلية في فلسطين ناجمة عنه.
بمناسبة استشهاد سمير القنطار خرج حسن نصر الله على قناة تلفزيون المنار، خلفه خريطة فلسطين ملفوفة بالعلم الإيراني، وقد هالني أن أرى خريطة وطني التي اعتدت عليها بعلم فلسطين ملفوفة بما سأحب تسميته:الكفن الإيراني. قبل شهور قامت القيامة ولم تقعد لأن إشاعات تناثرت بأن الحكومة المقالة في قطاع غزة قد غيرت اسم مدرسة من «مدرسة غسان كنفاني» إلى مدرسة «رجب طيب أردوغان». وخرج اسماعيل هنية بنفسه لينكر الخبر، لكن الكفن الإيراني على جغرافيا فلسطين لا يخيف أحدًا على ما يبدو.
لا أحد يسأل نفسه عما سينتظرنا لو لم تتقاطع مصالح المقاومة مع مصالح الإيران، أي إجرام كان ليكون بانتظارنا، لو أننا كنا مكان أولئك القابعين داخل أسوار حلب، ليس هذا سؤالا عرضيا، إنني أطالبكم بتحريك مخيلاتكم قليلا فقط. منذ متى وفلسطين بحاجة مرتزقة أفغان وإيرانيين وحثالة الأرض كي ينتصروا لقضيتها؟ وأي مصلحة هذه التي تخولني الدفاع عن هؤلاء المجرمين؟
إن أمثالكم ليس لديهم مشكلة مع الظلم والاستبداد والقهر، طالما أن الإيرانيين وحزب الله من يقوم به. وكما قال أحدهم: «ليس لديكم مشكلة مع القذارة طالما أنها من النوع الذي تفضلونه». اكتسبت فلسطين ولا زالت رمزية عالمية للعدالة ورفع الظلم والانتصار للفقراء والمسحوقين تحت عتلات الإمبريالية العالمية، ولم تعد حكرا على التجاذبات الإقليمية القذرة بشقّيها أو ربما خازوقيها.
ليس سمير القنطار شهيدا بأي معنًى، بالنسبة لي ولن يكون.