حصيلة العام كانت كبيرة ومؤسفة، ضباط وجنود ومدنيون، مسلمون ومسيحيون، جوامع وكنائس، مواقع أمنية وأماكن عامة، بجانب الآثار المستمرة على السياحة والاستثمار والتجارة وعلى فرصة البلد فى التنمية والاستقرار. الكل دفع ثمنًا ما، لكن البعض دفع ثمنًا أكبر فى حياته أو فى مصاب أليم لفرد من أفراد أسرته وزملائه.
زياد بهاء الدين

في أحدث التفاصيل بشأن الهجوم الذي وقع على كنيسة «مارمينا» بحلوان في آخر جمعة من العام 2017، وراح ضحيته تسعة قتلى وآخرون مصابون. في مشاهد تبدو أقرب إلى الطرافة الحزينة، أطلت السلطات ببيان تفاصيل أكثر عن تاريخ منفذ العملية «إبراهيم إسماعيل إسماعيل مصطفى».

تبنِي تنظيم الدولة للهجوم بعد ساعات من وقوعه عبر وكالة أعماق أضاف إلى الأمر تعقيدًا أكثر، وأثار العديد من التساؤلات والدلالات التي باتت أكثر إلحاحًا مع مقاطع الفيديو المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي. لذا حاولنا رصد وتحليل أهم تلك الدلالات والتساؤلات التي أحاطت بالهجوم.


من هو منفذ العملية؟

على خلاف التترس، تأتي بعض العمليات الجهادية لتكون أكثر تحديدًا من حيث تحديد الهدف وطريقة التنفيذ وبدائل المساندة وخطط الهرب للمنفذين. وتشير العمليات الإرهابية التي وقعت في الآونة الأخيرة أيضًا إلى وجود دعم خفي يقوم به بعض الأفراد من حيث تقديم أنماط مساعدة مختلفة للإرهابيين الذين ينفذون تلك العمليات وعلى رأس تلك الأنماط الدعم اللوجيستي مثل الإيواء والمساعدة على الهرب والتخفي.

بالرغم من تضارب الأنباء في بداية الأمر عن عدد منفذي الحادث ومصيرهم، إلا أن مقاطع الفيديو التي صورها الأهالي أثبتت بوضوح تورط المدعو «إبراهيم إسماعيل» في الحادث وتمت إصابته ومن ثم اعتقاله، ومن ثم جاء بيان الداخلية للتأكيد على اعتقاله، ثم أُعلن مساءً عن تفاصيل سجله الإرهابي. وفقًا لهذا السجل فقد نفذ «إبراهيم إسماعيل إسماعيل مصطفى» -عامل ألوميتال- من مواليد 1984 عددًا من الهجمات خلال العامين الماضيين بمعاونة آخرين منها:

  1. مايو/آيار 2016؛ التعدي على ميكروباص تابع لقسم شرطة حلوان مما أسفر عن استشهاد 8 من عناصر الشرطة.
  2. 5 يوليو/تموز 2017؛ التعدي على منفذ تحصيل الرسوم بالطريق الإقليمي بنطاق مركز العياط بالجيزة مما أسفر عن استشهاد 3 أفراد.
  3. 23 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ التعدي على أحد المقاهي بنطاق قرية العامرية بدائرة مركز العياط مما أسفر عن مصرع 3 أشخاص.
  4. 28 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ التعدي على منفذ تحصيل رسوم الطريق بنطاق مركز الواسطى بمحافظة بني سويف مما أسفر عن استشهاد 3 من العاملين.
  5. 29 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ الهجوم على كنيسة مارمينا ومحلًا تجاريًا لأحد الأقباط بحلوان وسقوط تسعة قتلى وإصابة آخرين.

السجل الإرهابي لـ «إبراهيم» يشير في البدء إلى أنه خلال الأسبوع الأخير فقط من 2017 نفذ ثلاث عمليات نوعية مختلفة في أماكن متفرقة، منها اثنتان في أقل من 24 ساعة، وهو ما يصعب عليه تنفيذه بمفرده، كما أن تنقله وتخفيه وتسليحه يحتاج إلى نمط من الدعم الخفي ولمن يعاونه. كما أنه يلاحظ أنه عقب كل عملية يحرص على الهرب لتنفيذ عمليات أخرى – إن صحت رواية هذا السجل – وليس الثبات في مواجهة لا طائل منها.


حول توقيت الهجوم

الهجوم على كنيسة «مارمينا» تزامن مع الاستعدادات الأمنية لتأمين الكنائس مع بدء احتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد، وبالرغم من تلك الاستعدادت إلا أن الهجوم وقع على مرأى ومسمع من الجميع صباح يوم الجمعة التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، أي قُبيل الاحتفال برأس السنة بيومين وهو توقيت في الغالب تكون فيه كافة الإجراءات الأمنية قد مورست على أرض الواقع.

الروايات الأولى والرسمية أشارت إلى أن قوات الأمن تصدت لمجهول كان يقود دراجة نارية حاول تجاوز النطاق الأمني لتأمين الكنيسة وتعاملت معه حتى اعتقاله، وحسب البيان فإن «إبراهيم» كان بحوزته سلاح آلي و5 خزائن (150 طلقة) وعبوة متفجرة. بالرغم من بساطة وسهولة بيان الداخلية الذي لا يتناسب مع المدة التي استمر فيها الهجوم، إلا أن استمرار الهجوم لأكثر من ربع ساعة يتحرك فيها الفاعل بحرية مطلقة حسب روايات شهود العيان يضع الإجراءات التأمينية الاستئنائية المفترضة محلًا للتساؤل.

على خلاف بيان الداخلية الذي أشار إلى سرعة التعامل مع الحادث تشير اللقطات المنتشرة إلى حالة من التراخي والفوضى التأمينية حول الكنيسة. فبعد سقوط الشرطي أمام نقطة التأمين، حمل أحد المارة سلاحه وحاول مطاردة الفاعل ولكن أعيدت عليه الكرة بعد نفاد الذخيرة، ثم بدأ الرجل يتجول لدقائق معدودة في شارع مفتوح دون مواجهة أو قنص من أعلى المباني، ناهيك عن عدم تعامل إحدى المدرعات الشرطية المارة معه بعد أن اقتربت منه واكتفت بتغيير مسارها.


توافرت له فرص الهرب ولم يفعل، فلماذا؟

https://www.youtube.com/watch?v=c2moAbJAIRU

لأكثر من تسع دقائق تثير الفيديوهات المنتشرة للحادث دهشتك؛ فما الذي يريده الرجل وما الذي يخطط له؟ ففي الشارع المجاور لكنيسة مارمينا يتجول شاهرًا سلاحه في وجه الجميع، يمشي بثبات وهدوء منقطعي النظير، يغدو ويعود مرة أو مرتين، يطلق الرصاص بين الحين والحين دون هدف واضح، وبجانبه يسير بعض المارة في مشهد أقرب للخيال من الواقع لولا أن هناك ما يوثقه.

بدا على الرجل أنه غير متجهز سوى لمحاولة اقتحام الكنيسة وقتل من فيها، لكن غلق أبواب الكنيسة حسب شهود العيان وكاميرات المراقبة الخاصة بالكنيسة أحبط عليه سعيه. وبالرغم من ذلك فهو لم يحاول الهرب، بل بدت خطواته رغم هدوئها وكأنها مترددة تنتظر أمرًا ما. ثبات الرجل وعدم هروبه على عكس ما يوضحه سجله الإرهابي يثير بشكل أكبر الحيرة، فقد كان أمامه الكثير من الوقت والمساحة المفتوحة ليتدبر أمره – ظل يتجول في الشارع أكثر من 15 دقيقة كاملة دون اعتراض – كما أن حركة المرور لم تتوقف فكان من اليسير تدبر وسيلة لنقله لكنه لم يفعل، وفي أحد مقاطع الفيديو قابلته دراجة بخارية ووقفت أمامه لكنه لم يستقلّها للهرب!

عدم هروبه يشير إلى عدة احتمالات؛ أولها أنه كان ينتظر وصول رفقةٍ لاستكمال هجومه وهو ما يفسره احتفاظه بسلاحه والعبوة التي بحوزته للنهاية. أو أن الرجل لم يكن سوى جندي في لعبة شطرنج يحركها لاعب ما، أو أنه يعاني من مرض نفسي ما يجعله لا يهتم بحياته الشخصية ومن ثم يتنافى هذا مع سجله الإرهابي المعلن من قبل وزارة الداخلية. وأخيرًا قد تمثل هذه العملية غطاءً أوسع لعمليات لاحقة في ظل سياق الاحتفالات بأعياد الميلاد وخاصة أعياد الـسابع من يناير/كانون الثاني.


لعبة التوازنات: عندما تتورط السياسة

مع مطلع سبعينيات القرن المنصرم كانت البدايات الأولى لبدء الصراعات الطائفية ضد الأقباط في مصر والتي مرت بمرحلتين؛ تأسست الأولى عبر الأحداث الجماعية الكبرى من أحداث الخانكة 1972 وحتى أحداث مطرانية نجع حمادي في 2010، وتشكلت تلك الأحداث في ضوء الصراعات السياسية والحزبية، لكنها وجدت في بناء الكنائس الجديدة أو الخلافات التجارية أو العروض الفنية المسيئة للمسلمين مسلكًا ومبررًا لوقوعها. وحظيت بتفسيرات «لعبة التوازنات» التي أُلقي فيها بلوم أكبر على السلطات باهتمام بالغ في الأوساط التحليلية لقضايا العنف ضد الأقباط في هذه الحقبة.

أما المرحلة الثانية، فتبلورت مع حادثة القديسين 2011 وحتى الآن، ويغلب عليها الطابع الفردي والتسلسل الزمني. فقد جرت العادة في السنوات الأخيرة على مزامنة الهجمات الإرهابية للمناسبات والأعياد القبطية على أرض الكنانة. فالسنوات السبع الماضية شهدت الكنائس المصرية سلسلة من الهجمات المتزامنة مع تلك المناسبات بدءًا من هجمات مطرانية نجع حمادي في يناير/كانون الثاني 2010 مرورًا بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية في يناير/كانون الثاني 2011 وصولًا إلى هجمات الكنيسة البطرسية يناير/كانون الثاني 2016، ثم توالت بعد ذلك بمناسبة قداس «أحد السعف» أو «الشعانين» في أبريل/نيسان 2017 بتفجيرين استهدفا كنيسة مار جرجس بطنطا والكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية.

وتيرة الأحداث ضد الأقباط تزايدت بشكل حاد فيما بعد ثورة 2011، ووصلت إلى أقصاها فيما بعد أحداث الـ 30 من يونيو/حزيران 2013 وهي جميعها أحداث جماعية وجاءت في فترات عُرفت بالاضطراب الأمني والتجاذب والاستقطاب السياسي. ليخفت ضوءها في عامي 2014 و 2015، السنوات الأولى من حكم النظام الحالي، ثم أخذت تتزايد.

خفتت الهجمات في السنوات الأولى من حكم النظام الحالي ثم تزايدت وتيرتها فيما بعد 2016، وكان مرجعها الأساسي صعود تنظيم الدولة الإسلامية في مصر عبر جماعة «ولاية سيناء» التي تبنت منذ ديسمبر/كانون الأول 2016 غالبية الأحداث ضد الأقباط. وتعتمد «الدولة الإسلامية» على الأسلوب الفردي في تلك العمليات وذلك لمركزية عملياتها ووجودها في سيناء، وصعوبة نقل كميات ضخمة من الأسلحة إلى الداخل، ومن ثم تسعى عبر «الإرهاب الفردي» للتوغل في الداخل دعائيًا بعملياتها النوعية ضد الأقباط.

وقد اعتمدت تلك الهجمات على العمليات التفجيرية الانتحارية «التترس»، ولكن مع منتصف 2017 انتقلت إلى مرحلة أخرى وهي استخدام أدوات «الذئاب المنفردة» من إطلاق النار أو الطعن كما يظهر في عمليات حافلة النقل في مايو/آيار المنصرم بالمنيا، وكذلك طعن القس سمعان شحاته في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بالمرج. ويعزو البعض توجه الجماعات إلى تفضيل أسلوب «الذئاب المنفردة» إلى التراجع الكبير في سيولة وقدرات التنظيمات وتنفيذ عملياتها في ظل التعقيدات والإجراءات الأمنية المشددة.

الإرهاب الفردي لا يمتاز فقط بالقدرة العالية على الاختراق للحشود وضمان نسبة أكبر في نجاح العمليات الإرهابية، لكنه أيضًا يمتاز بصعوبة التتبع والملاحقة، فغالبًا ما تكون خيوط الرابطة التنظيمية مفقودة، ومن ثم يصعب ربط تلك العمليات بتنظيمات معينة حتى ولو أعلنت تبنيها لها دون دليل واضح بانتماء العنصر الإرهابي لها.