نظرية المجال الكمّي: دليل كارهي الرياضيات
مما يتكون هذا الهاتف النقال ؟!
إنه سؤال عادي، يمكن لعبد الرحمن، ابني الذي بدأ عامه السادس منذ أيام، أن يبدأ به حديثًا معي حينما يراني منشغلاً عنه، سوف أجيب بأن هذا الهاتف يتكون من قطع صغيرة من البلاستيك والمعدن والزجاج وربما نفتح هاتفًا قديمًا ونرى ما بداخله. هنا سوف يريد عبد الرحمن أن يستمر في اللعبة، فهو يود تحقيق أكبر كم إزعاج ممكن كي أبتعد عن تطبيق فيسبوك قليلاً، سوف يسأل مجددًا: «ومما يتكون كل هذا؟!»، لا زالت في جعبتي بعض المعارف تمكنني من الإجابة عن سؤاله، سوف أعتدل في جلستي متخذًا وضع فيزيائيي الجسيمات مع نظراتهم الغامضة أحيانًا والحائرة أحيانًا أخرى ثم ربما بحكمة ديمقريطس أقول أن:
«كل شيء يتكون من ذرات».
ثم بعد سؤال أكثر عمقًا سوف أجيب أن الذرات تتكون من جسيمات أصغر؛ كالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، وأن البروتونات والنيوترونات تتكون بدورها من كوَاركات، لكن حينما يسألني عما تتكون منه تلك الجسيمات الأصغر فأنا لا أملك إلا إجابة واحدة أخيرة لا يمكن لي بعدها أن أستمر في تلك اللعبة؛ إنها:
«كل شيء يتكون من مجالات».
من أين نبدأ؟
من المفهوم نفسه، المجال الكمّي هو إذن ربط بين مفهومي «الكم» و «المجال». دعنا نبدأ بشرح ما تعنيه كلمة «مجال». حينما يسألني أحدهم عن دور مادة الباراسيتامول الموجودة في الدواء الشهير «بنادول» في علاج الصداع المزمن الذي يتعرض له، قد أبدأ أثناء حديثي المطول معه في سرد بعض الجوانب التي ربما لا يعرفها مستمعي، كدور تلك المادة في حالات معينة من التليف الكبدي وضرورة ضبط جرعتها لمرضى الكبد. هنا ربما سوف يسأل أحدهم :«كيف تعرف كل هذا؟»، فأجيب:«إنه مجال تخصصي»، هذا هو ما تعنيه كلمة «مجال» في استخداماتنا اليومية، وتستخدم أيضًا بمعنى «حقل»؛ كأن أقول «حقل ألغام» فيعني ذلك أن هناك مساحة محددة من الأرض يمكن أن تتواجد بها الألغام، لذلك لا تمر من هناك.
في الفيزياء لا يختلف الأمر كثيرًا، إذا وضعت مغناطيسًا صغيرًا على طاولة ثم قمت بنثر مسحوق من الحديد على مساحة واسعة حول المغناطيس، لنقل أنها دائرة قطرها 80 سم، فإن القطع الأقرب للمغناطيس سوف تكون هي الأكثر تأثرًا بجذبه، أما قطع الحديد الأبعد سوف تكون الأقل تأثرًا، وفيما بينهما سوف تتخذ كل قطعة صغيرة من هذا المسحوق الحديدي قيمة ما تعبر عن درجة تأثرها بالمغناطيس.
لنقل مثلاً أن قطعة الحديد الأقرب للمغناطيس سوف تتأثر بقوة ما قدرها «10»، وهو رقم اعتباطي لغرض التبسيط لا أقصد به التعبير عما يعنيه المجال المغناطيسي، وهو مجال متجهي فذلك موضوع آخر. لنفترض أيضًا أن أبعد قطعة حديد عن المغناطيس تتأثر بقيمة قدرها «1»، ما بينهما إذن يحمل درجات وقيمًا متفاوتة من الأرقام، كأن تقف على قطعة حديد صغيرة فتجدها «5» وأخرى «7» وأخرى«4» وأخرى قبلها بقليل فتكون مثلا «4.1»، …وهكذا. يعني ذلك أن المجال هو منطقة من الفضاء تتحدد بمعامل ما، لهذا المعامل تعريف في كل نقطة من هذا المجال.
كرات وزنبرك
لنتصور الآن أن هذا المجال الكمومي يتكون من عدد غير محدود من الوحدات المنتظمة والمنتشرة في كل مكان، كل وحدة عبارة عن كرة بيلياردو صغيرة ملونة فوق زنبرك معدني، يمكن لهذا الزنبرك فقط الحركة لأعلى ولأسفل، وهذا يعني أنها يمكن فقط أن تحصل على قيمة واحدة تعبّر عن ارتفاعها أو انخفاضها حسب حركة الزنبرك، هذا هو ما نسميه مجالًا عدديًا Scalar Field ذا معامل يتحدد بقيمة واحدة فقط.
إذا كانت كل كرة منفصلة عن الأخريات في المجال فهي حرة للحركة بمفردها لأعلى و أسفل دون أي تأثير على ما يجاورها من الكرات، لكن إذا قمنا بربطها جميعًا بقطع بلاستيك أو خشب صغيرة فإن الضغط على واحدة من تلك الكرات سوف يُنشئ موجة تنتشر في مستوى الكرات كلها، بالضبط كأن تلقي بقطعة طوب في الماء. الآن عندنا مجال كمّي، وهذا الاهتزاز الحاصل في المجال هو ما نسميه «الجسيم».
الجسيمات إذن، في نظرية المجال الكمي، هي اهتزازات في المجال. لكي تُحدث اهتزازًا في شبكة كرات البيلياردو الصغيره أعلاه يجب أن تضغط بإصبعك على إحدى الكرات، فيتسبب ذلك في موجة من الاهتزازات تسري في الشبكة كلها بحكم ارتباطها. إنّ ما قدمت من ضغط على إحدى الكرات هو دفع بقدر من الطاقة للمجال. إذن فالجسيمات –الاهتزازات- تتكون فقط بعد الدفع بقيمة محددة من الطاقة للمجال، وهذا هو ما تعنيه النسبية في نظرية المجال الكمّي، إنها معادلة أينشتين الشهيرة E=MC2 التي تقول بأن الطاقة والكتلة وجهان لعملة واحدة.
لنحاول توضيح ذلك بشكل أفضل، أنت تحتاج لقيم محددة، أو قل «مكممة»، من الطاقة لإنشاء أول تذبذب في المجال، فالكرات لن تستجيب مع ضغطة خفيفة جدًا، ولا ضغطة أقوى منها بقليل، فقط تحتاج لضغطة بقوة ما لتنزل الكرة تحت يديك، تكون الدفعة الأولى – أقل كمية طاقة يستجيب لها المجال – هي ما يسمى كتلة الثبات للجسيم Rest mass، وكلما ازدادت طاقة الاهتزازات بتلك القيم المحددة ازدادت كتلة الجسيم.
يشبه الأمر هنا أن تقف أمام ماكينة تقديم مشروبات غازية، تطلب منك الماكينة وضع عملة واحدة لكي تحصل على قطعة من المشروب، لن تستجيب الآلة لنصف عملة أو لثلث عملة أو لربع عملة، عملة كاملة أو لا شيء، و مع كل عملة إضافية تعطيك قطعة بيبسي إضافية. لنفترض الآن أن عندنا 10 ماكينات تحتاج كل منها عملة مختلفة لكي تسمح لك بقطعة من المشروب الغازي، فهناك سبرايت وهناك بيبسي وهناك شويبس وهناك فيروز، …إلخ. كذلك يحتاج كل جسيم لطاقة –عملة– محددة ليظهر في المجال. لذلك، في مصادمات الجسيمات نحتاج لقيم مختلفة من الطاقة لكي نتحصل على جسيمات مختلفة، قطع مشروبات غازية مختلفة، تلك هي آلية عمل المصادم الهادروني الكبير في CERN وغيره من مسرّعات الجسيمات.
الكون إذن يتكون من مجموعة مجالات متداخلة مع بعضها، والمنتشرة في كل مكان فيه. هناك المجال الكهرومغناطيسي، الكهربي، الجذبوي، كذلك هناك مجال لكل جسيم، فهناك مجال الإلكترون والكوارك ومجال هيجز ومجال الجلوون -وهو المسؤول عن القوة النووية الشديدة -، ..إلخ. لكل جسيم في الكون مجال خاص به، قد تتداخل تلك المجالات أو تصطدم اهتزازاتها فنحصل في المقابل على نواتج مختلفة. حيث تنتقل الطاقة فيما بين الجسيمات عبر تلك الاهتزازات المتحركة في المجال، يعطينا ذلك – نحن وفيزيائيي الجسيمات – فهمًا أفضل لفكرة تحول بعض الجسيمات لأخرى، كأن يتحول البوزون W سريعًا إلى إلكترون ونيوترينو مضاد، هنا ينقل مجال البوزون W طاقته لمجالي الإلكترون والنيوترينو المضاد.
حينما نتحدث إذن عن إلكترون في تلك الذرة وآخر في الذرة التي هناك آخر الشارع وثالث في الفاصلة الواقعة في نهاية تلك الجملة، فنحن نتحدث عن اهتزازات بقيمة محددة من الطاقة في مناطق محددة من مجال واحد منتشر في كل الكون يسمى مجال الإلكترون Electron Field.
في تلك النقطة، غالبًا، سوف تبادر بسؤال بديهي عن: «كيف يمكن أن أتصور أن الكرسي الذي أجلس عليه الآن يتكون من مجالات؟»، حسنًا، ليس الأمر سهل الفهم، لكنه مرتبط بميكانيكا الكم في نقطتين أساسيتين هنا:
- فكرة التكميم، و هو أن مفهوم المجال العادي يستمر بانسيابية تامة بلا قيم محددة، أما تلك الموجات المنتشرة في المجال تنشأ و تتحرك بقيم كمّية محددة. أضف لذلك أن أحد الخصائص الأساسية ذات العلاقة بميكانيكا الكم هي أن هذا المجال، بطبيعته، مستمر في الاهتزاز بقيم مختلفة طوال الوقت.
- فكرة الملاحظة، فرغم أن الجسيمات تكون في حالة تراكب كمّي أثناء عدم ملاحظتنا لها، كنّا كائنات واعية أو حيوانات أو مجرد آلة قياس ما، إلا أننا حين نقوم بالملاحظة فتلك الاهتزازات تتخذ قيمة محددة وموضعًا محددًا في الفضاء؛ إنه الفوتون الذي يضرب أعيننا قادمًا من الشمس كل صباح، وهو الإلكترون والكوارك اللذان يعتبران مكوّنيْ كل مادة الكون، بما في ذلك فستان فنّانة معروفة في مهرجان سينمائي شهير وسلة القمامة آخر الشارع والشحاذ الذي يبحث فيها عن بقايا وجبة لم تكملها نفس الفنانة في نفس المهرجان. لمزيد من الفهم للفكرتين محل النقاش هنا اسمح لي أن أحيلك لمجموعة مقالات سابقة لي بعنوان «تفسير كوبنهاجن».
نحن الآن في نهاية رحلتنا، اسمح لي أن أعيد التأكيد كعادتي أن ما أقوم به هنا هو محاولة للتقريب لا أكثر؛ بمعنى أن المجال الكمّي في الواقع، إن كان هناك واقع، لا يحتوي على زنبركات ولا على كرات و لا على أي شيء مادي، لكن المادة هي ما يتكون منه، عبر آلية لها علاقة بالبوزون هيجز. إن ما أقوم به هنا هو فقط استعارة من أدواتنا اليومية ضربها في أحد محاضراته الفيزيائي المعروف «أنتوني زي» صاحب كتاب quantum field theory in a nutshell الشهير والذي يعد مرجعًا للكثير من الطلبة، ثم طورها براين سكينر الفيزيائي بـ MIT لتصبح أقرب لنا، أضف لذلك أن الفيزياء التي تدرس تلك المجالات لا تحتوي على تصورات أو رسوم كتلك، إنما فقط صفحات طويلة للغاية من المعادلات المعقدة والمملة.
يمكن لنا التعامل مع نظرية المجال الكمّي كامتداد للميكانيكا الكمية، يسمي البعض ميكانيكا الكم «الثورة الكمومية الأولى»، ثم تأتي معادلات ديراك التي حاول من خلالها تطبيق أثر النسبية الخاصة كثورة كمومية ثانية، ثم نظرية المجال الكمّي كثورة كمومية ثالثة قدمت لنا فهمًا أكثر اتساعًا و حرية للواقع الذي نعرفه، والذي تبين أنه أكثر غرابة مما كنّا نتوقع.
يمكن القول إن نظرية المجال الكمّي QFT هي واحدة من أعظم إنجازات البشر إلى الآن، وهي بالفعل كيان غاية في التعقيد و التركيب للدرجة التي تجعل من الصعب إيجاد تعريف محدد لها. رغم ذلك، لا زالت هناك أسئلة كثيرة مطروحة: لماذا هناك فقط أربع قوى في الكون؟، لماذا يوجد فقط ذلك العدد من الجسيمات بتلك الطاقة المحددة؟، ما هي المادة المظلمة؟، من أين جاء ذلك كله؟، مرحبًا، هل من أحد هنا؟
- موسوعة ستانفورد الفلسفية – نظرية المجال الكمّي
- quantum field theory in a nut shell – A. zee
- Quantum Field Theory for the Gifted amateur – Tom Lancaster, Stephen J. Blundell