صراع الكم والنسبية على البعد الخامس
رحلة في عالم من الأبعاد الإضافية – الحلقة الرابعة
نحن الآن في عام 1926، حيث يسود في أوساط الفيزيائيين قبول عام للتفسيرات الحديثة الخاصة بالظواهر الكمية. بدا في الأفق اقتراب نظرية الكم من توفير تفسيرات أفضل للظواهر الكهرومغناطيسية، لكن نظرية الكم ما زالت بعيدة عن تفسير الجاذبية في إطار واحد قادر على شرح وصفها على مستوى الجزيئات وعلى مستوى المجرات، لذلك قرر «أوسكار كلاين – Oskar Klein» التركيز على توحيد النسبية العامة مع نظرية الكم عبر تطوير البعد الخامس لنظرية كالوزا كهرومغناطيسيًا وكميًا.
نظرية كلاين: كيف أصلحت نظرية الكم عيوب نظرية كالوزا؟
تقترن الظواهر الكمية بالكهرومغناطيسية عبر افتراض طبيعة دورية لمدارات الإلكترونات حول نواة الذرة. في غياب هذا الفرض، لم يكن متاحًا لنا سوى رصد اقتراب الإلكترونات من النواة نتيجة التجاذب الكهرومغناطيسي الكلاسيك، فتفقد الإلكترونات طاقتها في صورة موجات كهرومغناطيسية، بالتالي تسقط الإلكترونات داخل النواة متسببة في انهيار الذرة ككل، وهو ما لا يحدث بالتأكيد.
كان أول من افترض الطبيعة الدورية لمدارات الإلكترونات حول النواة هو إيشيوارا، بطل فضيحة المقال الثاني، ثم عمل «أرنولد زومرفِلد – Arnold Sommerfeld» و«نيلز بور – Niels Bohr» لاحقًا على تطوير هذا الافتراض في صورة النموذج الذري في النظرية الكمية القديمة قبل تفسيرات كوبنهاجن.
سعى كلاين لاستغلال التفسير الكمي عن طريق فرض طبيعة دورية على البعد الخامس ذاته في نظرية كالوزا، بحيث تتشابه مع طبيعة مدارات الإلكترونات في نموذج بور الذري Bohr Atomic Model؛ فاقترح كلاين استخدام دالة جهد واحدة تعبر عن الجاذبية والكهرومغناطيسية معًا، وتعرف بـ«دالة الجهد الجذب-كهرومغناطيسية – gravitoelectormagnetic potential».
ثم أضاف كلاين شرطًا يتعلق بسلوك مقياس ڤايل gauge في البعد الخامس. نعرف أن مقياس ڤايل غير مقيد باختيار معين. لذا يمكننا اختيار أو تثبيت مقياس gauge fixing بخواصٍ تجعلُ الدالة القياسية المعبرة عن دالة الجهد الجذب-كهرومغناطيسية معتمدة على الأبعاد الأربعة التقليدية ولا تعتمد على البعد الخامس.
ومن خلال تعريف «لويس دي برولي – Louis de Broglie» لثنائية الجسيم/الموجة particle/wave duality في نطاقات ذات طبيعة دورية، اتضح لكلاين أن «طول» البعد الخامس في نظريته يقترب للغاية من أقصر مسافة في عالم الكوانتم والمعروفة بطول بلانك Planck length. وطبقًا لمبدأ اللايقين Uncertainty principle يمكننا استنتاج ضخامة الزخم المرافق لأي جسيم يتحرك في هذا الطول المتناهي الصغر.
ولأن الزخم يتناسب مع الطاقة، نكون في حاجة إلى طاقة جبارة للكشف عن هذا البعد، وهو ما تتفق معه نظريات الأوتار الفائقة كما سنرى في المقالات اللاحقة. بَرَعَ كلاين في استخدام تلك المبادئ الجديدة نظرًا لاشتراكه في تأسيسها مع بور وهايزنبرج، وهو دور لا يُذْكَر إلا قليلًا في أدبيات الفيزياء على الرغم من اعتراف هايزنبرج به.
كان عام 1926 عام «المعجزة» بالنسبة لكلاين كما كان عام 1905 بالنسبة لآينشتاين، فبعد نجاته من مرض الالتهاب الكبدي الوبائي، نجح كلاين في اكتشاف معادلته الشهيرة لوصف الجسيمات المعروف بالبوزونات والمعروفة بـ«معادلة كلاين-جوردون – Klein-Gordon equation» بعد توصله إلى الطريقة المثلى لتعديل معادلة شرودنجر بما يتلاءم مع النسبية الخاصة. واقترح مع «باسكوال يوردان – Pascual Jordan» التعامل مع الجسيمات الكمية على أنها «مجالات – fields»، وهو ما سماه «بول ديراك – Paul Dirac» لاحقًا بـ«التكميم الثاني – Second Quantization».
تكمن أهمية هذا الاقتراح في كونه حجر أساس «نظرية الكم للمجالات – Quantum Field Theory» بكل نجاحاتها الساحقة في فيزياء الجسيمات الأولية، كما حققت تعديلات كلاين على نظرية كالوزا ما يعرف بـ«معجزة كالوزا-كلاين – Kaluza-Klein miracle». تتمثل هذه المعجزة في تعريف انحناء ريتشي القياسي كدالة في خمسة أبعاد، وهي الدالة التي نستنبط منها معادلات الحركة. تُحَلَّل تلك الدالة الخماسية الأبعاد بحيث ينتج عنها ثلاثة مكونات رئيسية: المكون الأول هو انحناء ريتشي القياسي في أربعة أبعاد، أي النسبية العامة؛ أما الثاني فهو وصف منكوفسكي Minkowski للكهرومغناطيسية، وأخيرًا لدينا الوصف الديناميكي للمجال القياسي لدالة الجهد الجذب-كهرومغناطيسية نفسها، أي تطورها عبر الزمكان.
كما افترض كلاين أن المجال القياسي ينكمش أو يتضاعف بالنسبة للأبعاد الأربعة بنفس طريقة انكماش أو مضاعفة التنسور المتري تحت تأثير مقياس ڤايل كما استعرضنا في المقال السابق، وهكذا تتمثل المعجزة في أنه -ولأول مرة- أصبح لدينا نظرية «متسقة ذاتيًا – self-consistent» في أربعة وخمسة أبعاد، كما أن النظرية «متسقة مقياسيًا – gauge-consistent»، وهو ما افتقدته نظرية ڤايل في أربعة أبعاد كما أخبرنا آينشتاين.
تلقت نظرية كلاين دفعة أخرى باختيار «فريتز لندن – Fritz London» لمقياس شبيه بما اختاره كلاين، فحصل على نتائج مماثلة بما يعني أن كلاين على الطريق الصحيح. وزاد الدعم المعنوي باحتفاء لورنتز بإنجاز كلاين في رسالة شخصية بينهما، وأكد لورنتز لاحقًا إعجابه بأعمال كلاين في رسالة أخرى إلى بور [1].
بداية خلاف بين النسبية والكم في مؤتمر سولفاي
حقق كلاين نجاحًا مبهرًا، وفي توقيت حرج للنسبية العامة. فقد بدا لآينشتاين أن اقتراحه القديم للفوتونات والكم -قبل أكثر من عشرين عامًا- قد تطور بطريقة سوف تتسبب في سحب البساط من تحت أقدام النسبية العامة. لقد نجحت التفسيرات الحديثة لظواهر الكم في التعامل مع الكهرومغناطيسية بشكل أكثر كفاءة من النسبية العامة، والآن لدينا نظرية كلاين الكمية للكهرومغناطيسية والجاذبية بدون افتراضات هندسية مسبّقة، بل إنه -بقليل من التعديلات- يمكن للهندسة الريمانية أن تظهر فيها باعتبارها نتيجة، لا سببًا، ولذلك رد آينشتاين سريعًا بأن الشروط الكمية على طول البعد الخامس سوف تفرض شروطًا كمية أخرى على كتلة الإلكترون بما يجعلها أضخم بكثير من الحقيقة، كما أنه من الممكن الحصول على نفس النتائج التي حصل عليها كلاين وبدون افتراض الشروط الكمية على البعد الخامس [2].
جاء رد آينشتاين في ورقتين بحثيتين عام 1927 وقبل مؤتمر سولفاي الخامس الذي شهد مناظرة القرن بين آينشتاين وبور، وكانت أعمال كلاين جزءًا من المناظرة، وبالتأكيد نتوقع انحياز بور لتلميذه السابق كلاين. وبغض النظر عن التفاصيل الرياضية للمناظرة، فقد تميزت طريقة آينشتاين عن كلاين بشيء «ميتافيزيقي» مشابه لما كان في فضاء منكوفسكي، إذ ناقش آينشتاين تبعات أن يكون مجال كلاين الجذب-كهرومغناطيسي القياسي ذا قيمة سالبة، وهو ما يسمح به المقياس.
وتوصل إلى أن هذا الشرط يتيح أن تكون سرعة الضوء في البعد الخامس سرعة دنيا لا قصوى! وفي هذه الحالة لا يمكن للجسيمات في البعد الخامس التفاعل مع الجسيمات التي تعيش في عالمنا الرباعي الأبعاد كما حدث من قبل في نظرية كالوزا. ما نعرفه حاليًا أن هذا الشرط لا يختلف عما يُعرف في فضاء منكوفسكي بالمدى شبيه-المكان space-like intervals والذي تعيش فيه الجسيمات الافتراضية «التاكيونات -tachyons» كما سنرى عندما نناقش نظرية الأوتار [3].
بعد مؤتمر سولفاي، انتقل الصراع بين الفيزيائيين من كونه دائرًا على روح الجاذبية إلى صراع على روح الفيزياء نفسها. فقد انشغل معظمهم بالشكل الجديد لنظرية الكم، وتوالت انتقاداتهم للنسبية العامة، لكن ظلَّ معسكر آينشتاين متشبثًا بحلم الجمع بين النسبية والكهرومغناطيسية والكم في نظرية هندسية واحدة. ومع ظهور مشكلة «مفردات الثقوب السوداء – black holes singularities»، بدأ آينشتاين في التشكك في بعض أصول النسبية العامة، بل والارتياب حتى في وجود موجات الجاذبية [4]، وتصاعد التوتر من جديد بين الفيزيائيين بالتزامن مع تعالي أصوات طبول الحرب العالمية الثانية. كان آينشتاين قد هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933. وبعد استقراره في برينستون، استأنف العمل على البعد الخامس بالتعاون مع «بيتر بِرجمان – Peter Bergmann».
ولد برجمان لأسرة يهودية في نفس العام الذي ظهرت فيه النسبية العامة، وبدت على برجمان علامات النبوغ منذ نعومة أظافره. وبعد أن أتم دراسة الثانوية، راسلت والدته آينشتاين على أمل قبوله لبرجمان كطالب. في ذلك الوقت كان آينشتاين قد هرب إلى بلجيكا ويستعد للهجرة إلى الولايات المتحدة، فلم يتمكن من مساعدة برجمان. ثم انتقل برجمان إلى الجامعة الألمانية ببراغ -بعيدًا عن النفوذ النازي وقتها- وأنهى دراسته العليا وحصل على الدكتوراه وعمره 21 عامًا. ومع تزايد المد النازي بين التشيكيين من أصول ألمانية، هاجر برجمان إلى برينستون عام 1936 وهناك بدأ العمل مع آينشتاين، وفي عام 1937 وصل إلى «برينستون فالنتين بارجمان -Valentine Bargmann»، وانضم إلى آينشتاين وبرجمان للعمل على نظرية جاذبية كهرومغناطيسية في خمسة أبعاد بدون شروط كمية.
نظرية آينشتاين-بارجمان-برجمان
في عام 1938، توصل آينشتاين وبِارجمان وبرجمان إلى وصف البعد الخامس طبقًا لمفهوم «التراص -compactification» بدون استخدام شروط كمية. فإذا نظرت إلى البعد الإضافي عن قُرب كافٍ، فسوف يبدو كسطح أسطوانة، أما إذا نظرت إليه من بعيد فسوف يبدو كخط في بعد واحد. إذن وبالمقارنة بنظرية كلاين، لا جديد في نظرية آينشتاين-بارجمان-برجمان، ولكن نحتاج إلى معرفة ما سوف ينتج عن عدم استخدام مفاهيم الكم.
تخبرنا الكهرومغناطيسية الكلاسيكية بأن شحنة الإلكترون ثابتة لا تتغير بتطبيق تحويلات لورنتز، لكنها لا تخبرنا لماذا تحمل كل الإلكترونات نفس القدر من الشحنة. وهذا ما نجحت في تفسيره نظرية الكم. ومن خلال إسقاط الشروط الكمية في نظرية آينشتاين-بارجمان-برجمان، فإن النظرية تؤكد على تساوي الإلكترونات في قيمة الكتلة واتفاقها مع التجارب، بعكس نظرية كلاين. ولكن النظرية تسمح أيضًا لنفس الإلكترونات بالاختلاف في مقدار الشحنة الكهربية التي تحملها! وقبل أن يحاول آينشتاين وبارجمان وبرجمان حل تلك المشكلة، ظهرت مشكلة أخرى أكبر.
عند مقارنة نظرية آينشتاين-بارجمان-برجمان بنظرية كلاين، تظهر أجزاء إضافية في نظرية آينشتاين-بارجمان-برجمان بدون تفسير. وتتصرف تلك الأجزاء بطريقة مقاربة لديناميكا دالة الجهد الجذب-كهرومغناطيسي التي اقترحها كلاين من قبل، وهو ما لا يريده آينشتاين. ولتفادي تلك الأجزاء، أضاف آينشتاين وبرجمان شرطًا آخر يُلزم جميع المسارات التي تسلكها الجسيمات بأن تكون مغلقة على سطح أسطوانة البعد الخامس بما يحصر دالة الجهد في البعد الخامس داخل التنسور المتري بعيدًا عن باقي الأبعاد، مع ملاحظة أن القيم الرياضية للدالة ما زالت ثابتة بالنسبة للتغير في البعد الخامس، وبالتالي يصبح لدينا نظرية يمكن فصلها بشكل تام إلى نسبية عامة وكهرومغناطيسية بدون إضافات، لكن ذلك الشرط يجعل من المستحيل إجراء تجارب لمعرفة كيف تتفاعل جسيمات البعد الخامس مع باقي الأبعاد الأربعة.
حاليًا، يعرف الفيزيائيون أن إزالة شرط المسارات المغلقة -مع الحفاظ على تلك الأجزاء الإضافية- يؤدي إلى ظهور مجال قياسي جديد -وليس مجالًا تنسوريًا كما يرغب آينشتاين- يُعرف حاليا باسم الديلاتون dilaton. هذا الديلاتون هو عصب معظم نظريات الكونيات cosmology التي تناقش قضايا تمدد الكون [5].
بقي أن نذكر أنه في عام 1938، حاول كلاين أن يوحد بين نظريته وبين التعريف الجديد لمقياس ڤايل والخاص بتفسير القوى النووية بين مكونات النواة من بروتونات ونيوترونات. ففي ذلك التوقيت ظهرت نظرية لتمثيل القوى النووية بجسيمات كانت تسمى «ميزوترونات – mesotrons» والمعروفة حاليًا بـ «ميزونات يوكاوا -Yukawa Mesons».
يكمن الفرق الأساسي بين نظرية كلاين عام 1938 ونظريته القديمة عام 1926 في افتراض أن التفاعل النووي يعتمد على البعد الخامس بشكل أُسي آخذ في «الاضمحلال – exponential decaying»، بالإضافة إلى كونه قانون تناسب عكسي. كان ذلك الفرض مهمًا لجعل النظرية منسجمة مع كون التفاعل النووي صغير المدى وعظيم الطاقة. وبدلًا من حصول كلاين على معادلات آينشتاين-ماكسويل، حصل على ما عُرف لاحقًا بمعادلات «آينشتاين-يانج-ميلز – Einstein-Yang-Mills equations».
هذا الجزء الجديد الخاص بـ «يانج-ميلز» في معادلات كلاين هو بالأساس تعميم لمقياس ڤايل بغرض وصف القوى النووية، وهو ما سنناقشه في المقال القادم. عمومًا، كان كلاين قد تمكن من فصل نظام الجسيمات في نظريته إلى نظام يشبه «النموذج العياري – Standard Model» الحالي، غير أن ذلك النموذج تلقى ضربة تجريبية سريعة وقاضية، فمن خلال تحليل المكونات الكهرومغناطيسية للنموذج اتضح استلزامه لأن يكون الإلكترون عديم الكتلة، وهو بالطبع ما يخالف التجارب، كما لم يستطع نموذج كلاين شرح مصدر كتلة الميزوترونات.
حدث ذلك قبل اكتشاف نظريات يانج-ميلز بأكثر من 15 عامًا، وقبل 25 عامًا من اكتشاف جسيم هيجز المسئول عن منح الجسيمات كتلتها. لذلك، لم يستطع أحد تفسير اختلاف نظرية كلاين عن القياسات التجريبية، كما لم يعرف أحد كيف يمكن تعديل تلك النظرية لتلافي الأخطاء المجافية للتجارب.
حاليًا، نعرف أن نظرية كلاين حالة خاصة من نظرية يانج-ميلز، وهي بعيدة عن كونها نظرية قوى نووية شديدة، وأقرب لكونها «نظرية كهرو-ضعيفة – Electroweak theory»، ولكنها كهرو-ضعيفة تصف انبعاث جسيمات افتراضية عديمة الكتلة وذات شحنة. وبتعديل خواص الغزل، فإن تلك الجسيمات الافتراضية تدعى «فرميونات راريتا-شوينجر – Rarita-Schwinger fermions». ولذلك، لا تكافئ نظرية كلاين تمامًا النظرية الكهروضعيفة التقليدية في النموذج العياري (القياسي) المصاحبة لانبعاث جسيمات بيتا أو الإلكترونات. وحتى لو حاول كلاين التغلب على مشكلة الإلكترون العديم الكتلة، أو حاول تفسير كتلة الميزونات، فالنتائج التي حصل عليها كلاين تحتم على نظريته البقاء في أدراج التاريخ حتى ظهور نظرية الأوتار.
فإذا تلقيت مقررًا أوليًا في المدرسة عن الجسيمات الدقيقة، فلابد أنك تعرف أن النموذج العياري (القياسي) استغنى عن خدمات ميزونات يوكاوا بالكلية لتمثيل القوى النووية الشديدة بعد اكتشاف حقيقة أنها ليست جسيمات أساسية، بل مكونة من كواركات quarks. حاليًا، توصف القوى النووية الشديدة ببوزونات مقياس تعرف بالجلونات.
عودة أشباح نوردشترم وإبراهام للظهور، وبديل جديد للنسبية العامة!
خلال الفترة بين عامي 1926-1940، لم يلتفت أحد إلى الفخ الذي وقع فيه كلاين وفريق العمل ببرينستون نتيجة حصر المجال الجذب-كهرومغناطيسي القياسي في البعد الخامس دون اعتماد تغير المجال عليه. فمع تطوير الوصف الرياضي لاتصال ليفي-تشيفتا في خمسة أبعاد، اتضح أن انحناء تنسور ريتشي خماسي الأبعاد يصبح لاغيًا، وبالتالي نفقد نصف معادلات آينشتاين، ولا يتبقى لدينا سوى انحناء ريتشي القياسي فقط. لقد عدنا من جديد إلى نظرية نوردشترم! ليس هذا فقط، بل وتختفي الكهرومغناطيسية لاحقًا عند التعامل مع معادلات الحركة الناتجة عن مثل هذا النظام.
وفي أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن المنصرم، أصبح معظم الفيزيائيين مهتمين بمحاولة استيعاب الكهرومغناطيسية داخل الكم، ولم يعد أحد مشغولًا بتوحيد الكم مع النسبية، باستثناء بعض المحاولات من «ماكس بورن – Max Born»، و«ماتفي بتروفيتش برونشتاين – Matvei Petrovich Bronstein»، و«ليون روزنفيلد – Léon Rosenfeld»، و«فريدريك بِلينفانتيه – Frederik Belinfante».
ومع الوقت، زادت الانتقادات ضد النسبية العامة كونها فشلت حتى اللحظة في استيعاب الكهرومغناطيسية، بجانب أن محاولات التخلص من المجال القياسي قد باءت بالفشل، أي أنه من المستحيل وصف الجاذبية هندسيًا فقط دون مجال قياسي، ولذلك لم يكن أمام الفيزيائيين سوى افتراض مجال قياسي متغير بما يسمح بوجود نظرية جاذبية ذات «طبيعة قياسية-تنسورية – scalar-tensor theory of gravity». بدأت تلك المحاولات عام 1941 على يد «ويلي شيرر – Willy Scherrer»، ثم اشتغل على تطويرها بين عامي 1946-1949 المجموعة الألمانية «باسكوال يوردان – Pascual Jordan» و«كلاوز مولر – Claus Mueller» و«جونتر لودفيج – Günther Ludwig» و«ماركوس فيرتس – Markus Fierz» و«ولفجانج باولي – Wolfgang Pauli».
وبالتوازي، كان الفرنسيان «أندري لِكنيروويش – André Lichnerowicz» و«إيڤ ثيري – Yvis Thiry» يعملان على نفس المشكلة. كان ثيري يعد رسالة الدكتوراه تحت إشراف لكنيروويش حتى عام 1950، وما لفت النظر في رسالة ثيري أنها تمكنت من وصف نظرية كالوزا-كلاين باستخدام منهجية كارتان والتي أشرنا إليها في المقال السابق. كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وأثمر تعاون الفريقين الفرنسي والألماني عن النظرية التي تعرف بـ«نظرية يوردان-ثيري – Jordan-Thiry theory» -والتي تطورت لاحقًا إلى «نظرية برانز-دِكي Brans-Dicke theory»- التي حاول آينشتاين وبرجمان تجنبها طول الوقت [6].
بقي آينشتاين متعلقًا بأحلامه/أوهامه بتوحيد النسبية العامة مع الكهرومغناطيسية والكم كنظرية تنسورية بحتة، حتى توفي عام 1955 قبل خمس سنوات من ظهور نظرية برانز-دكي عامي 1960-1961، مما جنبه الاشتباك مع تلك النظرية. لقد أثارت نظرية برانز-دكي ماضيًا قديمًا بحيرته ومعاركه. فهي تفترض تغير «ثابت» نيوتن للجاذبية «Newton Gravitational constant»، وبطريقة مشابهة لتلك النظريات القديمة ذات السرعات المتغيرة للضوء بتغير الجاذبية، أي أننا عدنا من جديد إلى اقتراح إبراهام قبل خمسين عامًا، والذي أدخل آينشتاين في متاهات الجاذبية القياسية كما ناقشنا في المقال الثاني.
لاحقًا، أصبحت نظرية برانز-دكي أحد أشهر الاتجاهات الفيزيائية في نظريات الجاذبية Alternatives to General Relativity كبديل للنسبية. ورغم الاعتراضات على نظرية برانز-دكي، تبقى النظرية الأم لنظرية الحرباءة Chameleon theory ونظريات f(R)-theories والتي لفتت الأنظار مؤخرًا [7].
لكن معظم الفيزيائيين في الخمسينيات من القرن الماضي أصبحوا مشغولين بالبحث عن المزيد من النجاحات في إطار تطبيقات نظرية المقياس لڤايل على نظرية الكم للمجالات. في تلك الفترة، تم تعميم مقياس ڤايل ليتحول إلى نظريات يانج-ميلز. في هذه النظريات، تتمثل جميع القوى -باستثناء الجاذبية- في صورة جسيمات تدعى «بوزونات المقياس – gauge bosons»، وتوارت الجاذبية بالكلية عن ساحة الاهتمام، إلى أن تطورت الرياضيات الخاصة بنظرية يانج-ميلز بالتزامن مع ظهور موجة جديدة من اهتمام الفيزيائيين بالجاذبية، وهي الموجة التي يسميها «كيب ثورن – Kip Thorne» بـ «العصر الذهبي للنسبية العامة» بين عامي 1960-1975، وظهرت من جديد علاقة بين نظرية يانج-ميلز وبين نظرية كالوزا-كلاين، ترتب على تلك العلاقة ظهور أبعاد إضافية أخرى بخواص جديدة، وهو ما سوف نناقشه في المقال القادم.
- Mehra J., Rechenberg H. The Historical Development of Quantum Theory. Vol.6, Part 1, Section: II.4.(d) Oskar Klein and the advantages of the Undulating Theory, p.174-180.
- Ravndal, F., Oskar Klein and the Fifth Dimension.
- Peruzzi, Rocci, Albert Einstein and the fifth dimension: A new interpretation of the papers published in 1927.
- Einstein Versus the Physical Review
- Witten, A Note on Einstein, Bergmann, and the Fifth Dimension.
- Goenner, On the History of Unified Field Theories. Part I, 2004.