لم يكن من المفترض أن تحظى شبه جزيرة «صغيرة» على الخريطة بكل هذا الجدل، الذي حظيت به قطر عبر تاريخها القصير. فالإمارة الخليجية كان من المرجّح أن تكون جزءًا من مملكة عبد العزيز آل سعود التي لم يوقف تمددها في شبه الجزيرة العربية سوى الحماية البريطانية المفروضة على بعض بلدانها المطلّة على الخليج. وقد ظلّت الحماية البريطانية على قطر قائمة إلى العام 1971.

لم تكن تلك آخر المفارقات القطرية، بل هي أولها فحسب. فقد كانت قطر من بين ممالك الخليج وإماراته هي الإمارة التي يحمل عرشها لعنة لكل من يعتليه. فقد عَزَل الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، ابن عمه الأمير أحمد بن علي بن عبدالله آل ثاني من فوق ذلك العرش عام 1972. بينما انقلب حمد بن خليفة، والد الأمير الحالي، على أبيه عام 1995، ليتنازل أو يُنحَّى هو الآخر لصالح ولده، الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، عام 2013.

ومنذ ولاية الأمير الأب حمد بن خليفة آل ثاني عام 1995، تحوّلت قطر إلى رقم صعب في المعادلة السياسية العربية، منتهجةً خطًا موازيًا، إن لم يكن مصادمًا، لسياسات النظام الإقليمي العربي برمته تحت القيادة السعودية منفردة، أو بالاشتراك مع مصر. إن وراء تلك السياسة المتفرّدة ما يستحق الاكتناه.


السياسة: هواية تميم وأبيه

كان الأمراء العرب قبل الاستقلال يخرجون للصيد، وتُغريهم السيارات الفارهة والأسلحة الحديثة وبعضهم يهوى المبارزة وركوب الخيل وغيرها من الاهتمامات البدائية، لكنهم ما إن استقلّوا حتى اتجه أكثرهم لعالم الأعمال، فكانت أرصدتهم في البورصة الأمريكية والبريطانية وأملاكهم وشركاتهم وأنديتهم الرياضية دليلًا واضحًا على ما يشغل بالهم وأموالهم، إلا أن الأمير حمد بن خليفة، والد الأمير القطري الحالي، كان يهوى السياسة، وأحب أن يكون لإمارته الصغيرة وزن كبير، يتقي به توحش الجاريْن، السعودي والإيراني.

لضعف بلاده، خشي حمد بن خليفة من اللعب على وتر دون آخر، فشأنه في ذلك شأن المضاربين في سلّة عملات، لا يتأثرون بواحدة فقط، ويمكنهم الربح من ناحية إذا ما خسروا من ناحية أخرى. ولهذا تتسم السياسات القطرية بالتناقض في كثير من الأحيان، فبينما تدعي علاقات طيبة بإيران، ترتبط بالمملكة العربية السعودية، وتتبعها داخل مجلس التعاون الخليجي. وبين علاقات بُنيت قوية نسبيًا مع إسرائيل، كان الدعم اللامحدود لحركة المقاومة الفلسطينية، حماس. وبينما أوَت على أراضيها عناصر الحركة البارزين، وتبنت عالميًا بعض خطابهم وخرجت وثيقة حماس الأخيرة من أراضيها، اتسمت علاقاتها بالسلطة الفتحاوية بالتعاون الجدي، وتوسطت بين الحكومتين.

أما تتويج تلك المفارقة الجديدة، فكان حين قدّمت قطر دعمًا ماليًا سخيًا لحزب الله اللبناني عقب العدوان عليه عام 2006، بينما كانت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تقيم علاقات تجارية معلنة مع إسرائيل، وتسمح لممثليها بالولوج إلى أراضيها بحرية تامة، ولم تتوقف هذه العلاقات إلا بعد الحرب المفتوحة على قطاع غزة عام 2008. وكرد على هذا العدوان دشّنت مؤتمرًا إقليميًا غاب عنه وكلاء أمريكا وحضره الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، والرئيس السوري بشار الأسد وخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس.

ولعبت قطر دور الوسيط في العديد من النزاعات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، توسطت بين الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي وبين الولايات المتحدة وبريطانيا، حتى أُعيدت العلاقات بين الجانبين عام 2003، كما توسطت بين السودان وتشاد وبين حماس والسلطة الفلسطينية وبين السودان ومتمردي دارفور، وكانت وساطة القرن بين واشنطن وجماعة الإخوان المسلمين.

وفي كل هذه الوساطات كانت تسبب الضيق للجيران العرب، فمصر كما ورد في وثيقة مسربة لدى ويكيليكس، كانت تضيق ذرعًا بالتدخلات القطرية في فنائها الخلفي، حيث التوسط بين البشير ومتمردي دارفور، وبين السودان وتشاد. ولا شك أن واشنطن كانت تدعم الوساطات القطرية طالما كانت تحت سمعها وبصرها، وكانت قطر بعلاقاتها المفتوحة على الجميع قادرة دون غيرها على حسم مشكلات عدة وتبني مبادرات صعبة.


الإمارة والجماعة

«خالد مشعل» رئيس المكتب السياسي لحركة حماس

دعمت السعودية في وقت من الأوقات جماعة الإخوان المسلمين، بينما كان المشروع القومي حاضرًا بحضور عبدالناصر، وقرّبتهم ووفرت لهم الدعم، لكنها ما لبثت أن لفظتهم مع أفول الخطر الناصري؛ إذ أن مشروعها لم يلتقِ مع مشروع الجماعة، سواء في الموقف من القضية الفلسطينية والهيمنة الأمريكية، أو في طبيعة النظام السياسي الذي يسعى الطرفان إلى إقامته.

بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، توجهت أصابع الاتهام للمملكة العربية السعودية، باعتبار أن القاعدة امتداد للسلفية الوهابية التي ترعاها السعودية في ثنائية الحكم والدين لديها، بين آل سعود وآل الشيخ، وهنا قدّمت قطر الإخوان المسلمين لإدارة بوش، كجماعة إسلامية سُنية لها برنامج سياسي واجتماعي، ولا تحمل السلاح، ويمكن دمجها والتعامل معها، لما لها من انتشار بطول العالم العربي، وحتى غير العربي.

وكان للأمير حمد بن خليفة نفوذ لدى الجماعة، ليس لاستخدامه رأس المال السياسي فحسب، وإنما لما له من رأس مال رمزي، بتقريبه الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي، وتجنيسه بعد أن أخُرج من موطنه الأصلي مصر، وبهذا تبنّت الدولة القطرية خطابًا إسلاميًا مقابلًا لهذا الذي تتبناه المملكة العربية السعودية، وهو ما تعتبره المملكة تهديدًا وجوديًا لها. وكان الأمير حمد بتقريبه الإخوان المسلمين يُضيف لإمارته الصغيرة شبكة لا نهائية من العلاقات الممتدة بطول العالم العربي وغير العربي، شرقًا وغربًا. وكانت المملكة حين لفظتهم مطلع التسعينات آملةً أن يتوبوا عن مشروعهم للحكم ويعودوا لأحضانها، ولم تتوقع أن يكون الأمير القطري في انتظارهم.

نوفمبر/تشرين الثاني 2002، نظمت الحكومة القطرية مؤتمرًا مشتركًا مع مؤسسة بروكينجز الأمريكية، افتتحه الأمير شخصيًا وحضره الشيخ القرضاوي ومارتن إنديك، نائب رئيس مؤسسة بروكينجز، الذي عمل في وقت سابق سفيرًا للولايات المتحدة في تل أبيب، وانبثق عن هذه المبادرة «المنتدى العالمي الأمريكي الإسلامي» الذي بات يُعقد دوريًا منذ العام 2004، ويحضره سياسيون أمريكيون بارزون من أمثال الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ووزيرة الخارجية السابقة أيضًا، مادلين أولبرايت، وديفيد بترايوس، قائد القوات الأمريكية المركزية في حينها. كما حضره من الجانب الآخر، الشيخ راشد الغنوشي، ورئيس الوزراء التركي في حينها، رجب طيب أردوغان، والدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، المرشح الرئاسي المصري السابق، وغيرهم. وعزّز وصول حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة في 2002 من موثوقية الصلة بين الأمير القطري والإخوان المسلمين.

في العام 2003 اضطر البنتاجون لإخلاء قواعده العسكرية في المملكة العربية السعودية، مخافة تعريض أراضي المملكة لمخاطر أمنية من جراء الوجود العسكري الأمريكي عليها، فانتهزت قطر الفرصة وعرضت خدماتها على الحليف الأمريكي لتحل محل السعودية، وتستضيف مركز العمليات القتالية الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، والمقر الميداني للقيادة المركزية الأمريكية على أراضيها.

وعليه اعتبرت السعودية المشروع القطري تهديدًا حقيقيًا لوجودها، وفي حين تتغاضى عن المشروع الإماراتي المخالف لها في العديد من الملفات، في ليبيا واليمن وسوريا فإنها تكيل في المقابل للحكومة القطرية كل الحقد، وهو ما يتوّج في كل مناسبة يبدو الخلاف بين الطرفين فيها علنيًا، كما حدث في 2014 ويتكرر الآن بشكل أكثر منهجية.


الجزيرة: صوت من لا صوت له

إن شئنا المقارنة، يندرج المشروع الإعلامي للأمير ضمن اتجاه عالمي لافت يحبذ الزواج بين ملكية وسائل الإعلام والسياسة. على سبيل المثال، يُعد رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني رائدًا للتلفزة والنشر التجاريين في إيطاليا. وفي الشرق الأوسط هناك رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وهو رجل أعمال بالغ الثراء وله إمبراطورية إعلامية. ويمكن القول بأن الجزيرة ترمز لهذا الاتجاه الجديد المتسم بتسييس ملكية وسائل الإعلام.

الكاتب التونسي محمد زياني، صاحب كتاب «ظاهرة الجزيرة»

أتى الأمير حمد بن خليفة متأخرًا في هذا المجال، لكنه سرعان ما أسس إمبراطوريةً إعلامية، ضمّت أهم قناة إخبارية ناطقة بالعربية على مدى نحو عقدين، وبرز أثرها في الانتفاضة الثانية عام 2000، وغزو العراق 2003، وحرب لبنان 2006، وغزة 2008، وصولًا إلى الربيع العربي 2011، وهو الدور الأهم والأكثر إيجابيةً وتأثيرًا في المشهد العربي. ففي حين امتنعت القنوات المحلية في البلدان العربية عن تغطية أحداث الانتفاضة والحروب مع أمريكا وإسرائيل والثورات، كانت الجزيرة هي النافذة التي لا تغلق عينها ولا يغلق متابعها عينه عن الأحداث.

تفوقت الجزيرة على الإمبراطورية الإعلامية السعودية التي كانت أغلب مقارها في لندن، واهتمت بالترفيه بعيدًا عن الواقع المُعاش في السعودية وبلدان العالم العربي. وأعطت الجزيرة النافذة للمعارضين العرب باختلاف ألوانهم، وخاصة المعارضة الإسلامية بشتى ألوانها، حتى وصلت للقاعدة وبثت رسائلها بشكل حصري في الكثير من المناسبات، كذلك القوميين العربي وجدوا نافذة من خلالها. وكانت هذه نقلة تاريخية في مساحات الإعلام العربي الذي ما كان يتدخل قبل هذا التوقيت في شئون الجوار مهما بلغ العداء معه، الجزيرة كسرت هذه القيود جميعها، وتربعت على عرش الإعلام العربي.


تطاير الصحف

خالد مشعل، حماس
خالد مشعل، حماس

كانت الخلافات الخليجية، وبالأخص بين السعودية والإمارات وقطر، الدول الثلاث الفاعلة إقليميًا، قابلة للاحتواء، حتى كان الربيع العربي، إذ اختلفت الأجندات بين الدول الثلاث بشكل مبالغ فيه، فدعمت قطر التغيير، بينما حاولت السعودية والإمارات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العروش المتساقطة.

فآوت المملكة الرئيس التونسي الهارب، زين العابدين بن علي، وحاولت إنقاذ مبارك، وعلي عبدالله صالح، ودعمت الارتدادة التي بدأت عام 2013 بانقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب، والمنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، وتزايدت حدة الخلاف بين الفرقاء الخليجيين حين دعمت قطر تمرد الإخوان المسلمين على سلطة الانقلاب العسكري يوليو/تموز 2013 دعمًا كاملا.

وإبان الخلاف سحبت السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة في مارس/آذار 2014 في تطور خطير للتباين. عُزِلت قطر خليجيًا نتيجة لذلك، ولم تستطع الخروج من المأزق إلا بعد تقديم تنازلاتٍ واضحة؛ تمثَّلت أهمها في تعديل خطَّها السياسي، وعلاقاتها مع الإخوان وإخراج البعض منهم من أراضيها وإسكات البعض الآخر، وتغيير السياسة التحريرية لفضائيتها، الجزيرة، لتكون أقل حدة في التناول للشأن المصري.

هادنت الدوحة أشقاءها الخليجيين بالمزيد من التهدئة في الملفات الشائكة، لكنها لا تزال تغرد بعيدًا في علاقتها بالحكومة التركية «حكومة العدالة والتنمية»، وكانت أكبر المناهضين لمحاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016، بينما كان الموقف العربي الرسمي غامضًا في لحظات الانقلاب الأولى. وكان الأمير تميم أول المهنئين للرئيس أردوغان على فشل المحاولة الانقلابية.

قبل أيام، استضافت المملكة قمة إسلاميةً أمريكية رغبةً في تطبيع العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وتمخضت القمة عما هو مخالف للسياسة القطرية كليةً، إذ وصف ترامب حماس بالإرهابية، وحشدت السعودية الجميع في معركتها مع طهران، بينما أُحيل ملف الحرب على الإرهاب للملك سلمان والرئيس المصري، المعادي لقطر. في المقابل، ذهبت الدوحة بعيدًا في علاقتها بأنقرة، خاصة بالإعلان عن النية لبناء قاعدة عسكرية تركية في قطر، ما يقلق أبوظبي كثيرًا.

وكانت الهجمة الأخيرة على شبه الجزيرة القطرية من أشقائها الخليجيين واحدة من نتائج القمة الإسلامية على الأغلب، وكأن الرئيس الأمريكي أعطى إشارةً للسعودية بفكه الارتباط التاريخي بالدولة القطرية وحلفائها، من الإخوان المسلمين، في محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة بشراكة أمريكية عربية تتزعمها القاهرة والرياض وأبوظبي.

المراجع
  1. الشعب يريد، جلبير الأشقر، دار الساقي، بيروت – ط1 لسنة 2013 (مصدر رئيسي)
  2. ويكيليكس – وثيقة مسربة