حكم قراقوش: حقيقة «المستبد الغبي» الذي حكم مصر
ما سبق هو استهلال «ابن مماتي» لكتابه «الفاشوش في حكم قراقوش»، واصفاً الحكم الجائر الظالم للتركي «بهاء الدين قراقوش» وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، ونائبه في حكم مصر.
وكان الأسعد بن المهذب بن مماتي (توفي 606هـ – 1209م) مسؤولاً في الدولة الأيوبية، حيث كان رئيساً لديوان الجيش وديوان المال، تحت حكم صلاح الدين.
وهو مصري قبطي، من عائلة مسيحية تنتمي لمحافظة أسيوط، إلا أن أباه الذي كان مسؤولاً عن ديوان الجيش في عهد الدولة الفاطمية أسلم، وبالتبعية نشأ ابنه «ابن مماتي» مؤلف الكتاب الذي نتناوله مسلماً.
رغم أنه كان مسؤولاً في الدولة، ويفترض أنه خاضع لقراقوش ويستطيع الأخير أن يبطش به، ألّف ابن مماتي كتاباً مليئاً بالنقد اللاذع لنائب صلاح الدين، أظهره جاهلاً غبياً، والأهم ظالماً مستبداً.
الكتاب جزء من سلسلة أدب ساخر ممتدة في تاريخ مصر الإسلامية، ويعطينا دلالة قوية على أن فكرة الاعتراض على الحكم بالسخرية قديمة ومتجذرة في الشعب المصري.
فالسخرية من السلطة بوجه عام تمثل معارضة ناعمة غير دموية، وتحتوي كثيراً على كلام رمزي يحمل تأويلات مختلفة، مما يعطي المعترض فرصة للمراوغة والهروب من المسؤولية أمام الحاكم المستبد.
إلا أن ابن مماتي في أغلب الحكايات الساخرة التي ساقها في الكتاب لا يبدو رمزياً، بل مباشراً، غير مكترث بقراقوش أهم شخص في الدولة بعد السلطان صلاح الدين.
وشيوع الكتاب وتداوله بين المصريين على مدار عصور مختلفة يثير التأمل، حيث لم يكترثوا بالإنجازات المعمارية التي بناها قراقوش، كقلعة الجبل (صلاح الدين) واستكمال وتوسيع سور القاهرة، وقلعة المقس، ولم يذكروا للرجل إلا ظلمه وقسوته التي وثقها كتاب ابن مماتي، وصارت عبارة «حكم قراقوش» تساق كدليل على الظلم والقسوة حتى يومنا هذا.
ما أهم الحكايات التي ساقها ابن مماتي عن بهاء الدين قراقوش، وماذا نفهم منها، وما مدى تعبيرها عن الواقع المصري في تلك الفترة؟ هذا ما نوضحه في سطورنا التالية.
عنصري أبيض يكره السود
كان قراقوش تركيا أبيض اللون ويكره السود، وفي مرة جاءته امرأة من أصل حجازي لونها أسود، تشتكي له جاريتها التركية بيضاء البشرة، فقالت له المرأة الحجازية:
نظر قراقوش إلى بياض الجارية التركية وسواد الحجازية، فقال للأخيرة:
وبعد شهر من الحبس جاءته المرأة وقررت عتق جاريتها البيضاء التركية، آملة أن يؤدي عتقها إلى عفوه عنها.
فقال لها قراقوش: يا سبحان الله، إنها هي التي تعتقك! فإنك جاريتها، وإن أرادت أن تبيعك فإنها تبيعك، وإن أرادت عتقك فإنها تعتقك!
فقال المرأة الحجازية لجاريتها التركية: اعملي معي مثل ما عملت معك. وانتهى الأمر بشكل عجيب، حيث أعتقت الجارية التركية البيضاء سيدتها الحجازية السوداء!
والحكاية، من حيث ظاهرها تعكس بوضوح عنصرية قراقوش، وتمييزه للعنصر الأبيض التركي على غيره، وفي خلف ذلك يبدو متوارياً شعور ابن مماتي كمصري جنوبي «صعيدي» وطني يشعر باستعلاء التركي الأبيض على عامة المصريين.
وتعززها تلك الفكرة حكاية أخرى أوردها ابن مماتي، مفادها أن رجلاً مسيحياً أتى قراقوش يبدو أنه يعمل كاتباً، وكان معه محبرته ذات اللون الأسود، فخاف أن يقول له قراقوش: «صبَّحتَنا بالسواد»، فلفَّ المحبرة في خرقة قماش، فسال الحبر من المحبرة على ساق الرجل المسيحي.
نظر قراقوش إلى الحبر الذي سال على ساق المسيحي، واعتقد أن هذا الحبر ناتج عن مسح المسيحي للحبر من دفاتر الحكومة، فأمر بحبسه حتى تبيَضَّ ملابسه!
والحكاية توضح كيف أن قراقوش كان مشهوراً عنه كرهه للون الأسود، وكانت الناس تخشى أن تبديه له.
مستبد غبي يدعي الحكمة
سابق قراقوش رجلاً بفرسه، فسبقه الرجل بفرسه، فأقسم على الرجل ألا يعلِف فرسه لمدة ثلاثة أيام، فرد الرجل: يا مولاي أخشى أن يموت الفرس.
فقال قراقوش: احلف لي أنك إذا عَلَفته لا تعلّمه أنني دَريت بذلك! فحلف له الرجل، ثم علَفَ الفرس.
الحكاية توضح كيف أن قراقوش غبي يسهل خداعه، وفي الوقت ذاته حريص على أن يبدو دائماً بمظهر القائد القوي الذي لا يقبل أن يشعر أحدٌ بأنه انتصر عليه، بل الكل منهزمون أمامه.
ومن الحكايات التي ساقها ابن مماتي ويبدو فيها غباء قراقوش المقترن بحرصه على الظهور بمظهر القائد المتحكم في كل شيء، العليم ببواطن الأمور رغم عدم قدرته على فهم البديهيات، حكاية تتعلق بفيضان النيل.
فالنيل كان قد توقف فيضانه لمدة أيام، فنظر قراقوش إلى جِمال السقايين التي تذهب إلى النيل لتحمل المياه وتنقلها للسكان، فوجدها تمشي عشرين وراءها عشرين، ففكر قراقوش طويلاً وقال: لو أخَذَت كل هذه الجمال من البحر (النيل) لنفد البحر أو كاد! فطلب من غلمانه أن يأمروا السقايين بأن يقتصر ملء كل سقا على جمل واحد فقط، وليس 20 كما كان يحدث.
نفذ السقايون طلبه، وللصدفة فاض بعدها النيل وبلغت زيادة الماء فيه حداً عظيماً، فقال قراقوش لغلمانه:
أي أن قراقوش اعتقد أن خطته في عدم السماح للسقايين بالتزود بالماء، وتعطيش الناس الذين يعتمدون كلياً عليهم في الحصول على المياه، أحدث وفرة في مياه النيل!
جنود قراقوش يستحلون أعراض المصريين
أحد جنود قراقوش ركب مركباً وكان به فلاح وزوجته، وكانت الزوجة حاملاً في سبعة أشهر، ووقعت مشادة بينهما فضربها الجندي وأدى ضربها إلى إجهاض حملها.
ذهب الفلاح المصري يشتكي لقراقوش من الجندي، فكان حكمه أن يأخذ الجندي زوجة الفلاح يُسكِنها في بيته، وأن يردها إلى الفلاح وهي حامل في الشهر السابع، عوضاً عن حملها الذي سقط!
وهنا تراجع الفلاح عن شكواه وأخذ زوجته وذهب، وهو يقول «تركت أجري على الله».
أي أن قراقوش هدد الفلاح بشكل مُقَنَّع، بأن يأخذ الجندي زوجته ويزني بها، أي إنه كان يرى أن لجنوده الحق في استحلال أعراض الفلاحين البسطاء، هكذا بدت الحكاية.
وبما أنه استحل أعراض النساء، فلا مانع أبداً من أن يستحل أموال الرجال، وهو ما يبدو في قصة أخرى ذكرها ابن مماتي، مفادها أن جماعة من الفلاحين جاءوه يشتكون ضعف محصول القطن، ويطلبون منه إعفاءهم من الخراج (ضريبة مالية يسددونها).
قال الفلاحون: «البرد شوَّش على القطن هذه السنة، وأنت تفرج عنا وتسامحنا من بعض المال».
فكان جوابه عليهم:
ثم أمر بضرب أعناق الفلاحين. هذه الحكاية تشير إلى استبداد واستخفاف بالناس وبأرواحهم وأموالهم، والتعامل معهم بتجبر لأجل شيء واحد وهو جباية أموالهم، ومن يفكر في تخفيف هذه الأموال يُقتَل.
حكم قراقوش أقرب للحقيقة
هل كان قراقوش رجلاً سيئاً كما سرد ابن مماتي؟ ولماذا لم يبطش بابن مماتي بعد السخرية منه؟ ومن حيث المضمون، هل كان هذا المحتوى الساخر معبراً عن الواقع المصري؟
هناك ما يشبه اتفاق بين المؤرخين حول أن بهاء الدين قراقوش كان رجلاً قوياً ومن أعمدة الدولة الأيوبية، ولم يكن غبياً، وأسهم في بناء الدولة وله إنجازات عظيمة، وبالتالي يشككون في ما ورد في كتاب ابن مماتي.
هذه نظرة عامة على قراقوش، ولكن الأدق أن الرجل تولى في فترة من الفترات حكم مصر نيابة عن صلاح الدين الذي كان في الشام وقتها، وفي هذه الفترة كان قراقوش خشن المعاملة، شرس الطباع، قاسي القلب، وكي يحافظ على استقرار الدولة في غياب صلاح الدين، ويضمن عدم الفشل في مهمته اتبع نهجه الخشن الصارم ضد المصريين، وكانت هذه الفترة هي موضوع كتاب ابن مماتي.
ولكن هناك ما يطعن في صحة الكتاب نفسه من حيث نسبه إلى ابن مماتي، ومنها أن بالكتاب قصصاً –لم نذكرها- عن فحش قراقوش مع النساء، رغم أن الثابت أن قراقوش كان خَصِيَّاً، لا يستطيع ممارسة الجنس. كذلك فإن للكتاب نسخاً مختلفة، يُنتَقَص من بعضها ويضاف إلى الأخرى، وهو ما يؤكد أن النساخ حرَّفوا فيه.
ربما نسلم بالتحريف من جانب النساخ، وهي ظاهرة معروفة ومن المشاكل التي تواجه الباحثين في التراث عموماً، لكن هذا التحريف لا ينفي وجود الكتاب نفسه، ولا ينفي السخرية من قراقوش وانتقاده.
والمعروف أن كتاب «الفاشوش» شاع وانتشر في عهد المنصور بن العزيز بن صلاح الدين، خلال فتنة الحكم التي حدثت عند توليته.
فقبل موت صلاح الدين كان قد وزع ملكه بين أبنائه، حيث ولَّى العزيز عثمان على مصر، وولى الأفضل على دمشق وفلسطين، وولى الظاهر على حلب، وولى العادل على الكرك والشوبك، وولى توران شاه على الحجاز واليمن.
وبعد موت العزيز عثمان حاكم مصر نصبوا ابنه المنصور حاكماً، وكان صبياً صغيراً، وكان الوصي عليه هو بهاء الدين قراقوش، وهنا حدث انقسام بين رجال الدولة، فريق يرى أن الشرعية مع «المنصور»، وفريق رأى تولية الأفضل بن صلاح الدين والي دمشق وفلسطين حكم مصر، وكان من الفريق الأخير الأسعد بن مماتي، وهو الفريق الذي انتصر في النهاية بتولية الأفضل.
وفي خلال هذا الانقسام راجَ كتاب ابن مماتي المليء بالتشنيع على قراقوش، وجرى تداوله بقوة بين الناس. ولذلك فهناك احتمال أن يكون الكتاب قد جرى تأليفه في هذا التوقيت، وليس كما يدعي ابن مماتي بأنه أعده في زمن صلاح الدين.
ويجوز أن الكتاب كان ابن مماتي قد أعده في عهد صلاح الدين فعلاً للدعابة والتسلية في مجالس القاضي الفاضل، أو ربما لتسلية السلطان صلاح الدين نفسه، ولم يطلع عليه قراقوش – نحن في عهد ما قبل الطباعة- ولذلك لم يبطش بابن مماتي.
وحين جاءت الفرصة لشيوع الكتاب وتداوله وقت فتنة الأفضل والعزيز خرج الكتاب لعوام الناس، وبدأ نسخه وبيعه من قبل النساخ والوراقين.
وكان القاضي الفاضل رجل صلاح الدين المقرب، وربما الأقرب له، يحب الأسعد بن مماتي ويطلق عليه «بلبل المجلس» لصنعته الأدبية من ناحية، ولحكاياته ونوادره وفكاهته من ناحية أخرى، والقاضي الفاضل كان منافساً لقراقوش في الأهمية لدى صلاح الدين، وبالتالي فمن الوارد أنه كان يحب التسلية بهذه الحكايات.
والأهم مما سبق أن موقف ابن مماتي من فساد الحكم الذي سرده بسخرية في «الفاشوش» هو موقف معروف عنه وأورده في كتابه «قوانين الدواوين»، وهو كتاب جاد غير ساخر، وليس هناك شك في صحة نسبه لابن مماتي.
ففي «قوانين الدواوين» يتحدث ابن مماتي بوضوح عن الرشوة وضعف الكفاءة لدى مسؤولي الدولة، وعن الظلم والقسوة في معاملة المصريين، وبالتالي فإن «الفاشوش» بصرف النظر عن شخص قراقوش كان تعبيراً عاماً عن سياسات وممارسات الحكم.
أما من حيث الأسلوب، فإن السخرية من الحاكم والواقع العام عند المصريين في العصور الإسلامية مسألة شائعة جدا، إذ كان الحكام يتناوبون عليهم من هنا وهناك، وهم لا حول لهم ولا قوة في الغالب إلا بالضحك والهزل والسخرية من هؤلاء الحكام، ونتيجة لذلك ظهر الأدباء الساخرون على مر العصور الإسلامية.
ففي العصر الإخشيدي مثلا اشتهر «سيبويه المصري»، وكان يدَّعي الجنون، وخلف هذا الادعاء يسخر من الحكام والشيوخ والمسؤولين. وفي العصر المملوكي اشتهر ابن سودون صاحب كتاب «نزهة النفوس ومضحك العبوس»، الذي ملأ كتابه بالأشعار والحكايات الثائرة على الواقع ولكن بسخرية. وفي العصر العثماني اشتهر يوسف الشربيني صاحب «هز القحوف» الذي يتناول نقدا لاذا للواقع المصري، ولاسيما الريفي في عصره، ولكن بسخرية.
وبجانب ابن مماتي شهد العصر الأيوبي انتشاراً كبيراً للأدب والأدباء الساخرين، ومنهم الشاعر البهاء زهير، وابن محرز الوهراني صاحب كتاب «جليس كل ظريف».
وبالتالي لم يكن كتاب «الفاشوش في حكم قراقوش» من حيث أسلوبه حالة شاذة عن الواقع العام المصري، وإنما كان معبراً عن حالة ممتدة وراسخة ومتجذرة.
- «الفاشوش في حكم قراقوش» لابن مماتي، تحقيق عبد اللطيف حمزة
- «قوانين الدواوين» لابن مماتي، تحقيق عزيز سوريال عطية
- «وفيات الأعيان»، لابن خلكان
- «منامات الوهراني ومقاماته ورسائله»، تحقيق إبراهيم شعلان، محمد غنش
- «أخبار سيبويه المصري»، لابن زولاق
- «نزهة النفوس ومضحك العبوس»، ابن سودون
- «هز القحوف»، يوسف الشربيني
- «الفاشوش في حكم قراقوش: الدوافع والأغراض»، رياض عبد الحسين
- «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، شوقي ضيف
- «How comics can make the Arab world a better place» لـ Jacob Høigilt