قيس الخزعلي: حسن نصر الله في نسخته العراقية
وسط ضحكات لا تتوقف، وبنبرة استهزائية بها قدر كبير من السخرية، خرج قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة «عصائب أهل الحق» بالعراق، بهذه الكلمات للرد على إدراج وزارة الخزانة الأمريكية له وثلاثة آخرين من قادة الميليشيات العراقية على قائمة عقوباتها المالية في السادس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
جاء قرار مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بواشنطن بإدراج «عصائب أهل الحق» على لائحة عقوباتها، بعد اتهام الخزعلي وميليشياته «عصائب أهل الحق» بالضلوع في قضايا فساد وانتهاكات لحقوق الإنسان، كان آخرها إطلاق النار على المحتجين في التظاهرات العراقية المستمرة منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أسفر عنه ذلك من مقتل نحو 460 من المدنيين وإصابة آلاف آخرين.
الخزعلي: السجين قائد الميليشيا
كما ذكر الخزعلي في حديثه، كانت بداية انطلاقه وتأسيسه لعصائب أهل الحق كحركة عسكرية مقاومة عام 2003 إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، لكن الحقيقة لم تكن كما يروي. فذلك العام كان الخزعلي مقاتلًا في صفوف جيش المهدي، الذي أسسه الزعيم الشيعي مقتدى الصدر لمحاربة الاحتلال الأمريكي.
حينها لم تكن العصائب حركة مختلفة عن جيش المهدي، ولم يتم الحديث عنها كحركة مسلحة منفصلة إلا عام 2006. وهو أمر لم يكن يحدث لولا تطلعات الخزعلي التي جعلته يترقَّى سريعًا، ويصل إلى الحلقة الضيقة للصدر، ليرافقه في كل جولاته بصفته قياديًّا.
هذه التطلعات كانت أكبر وأبعد من البقاء في جيش المهدي، فلم يتردد الخزعلي في استخدام صلات الصدر بإيران ليعرض نفسه عليها، وتكتشف الأخيرة فيه حليفًا مستقبليًّا. وجد الخزعلي من يشاركه تطلعاته، وفي مقدمهم أكرم الكعبي، الذي كان يتولى الإشراف على الشؤون العسكرية لـجيش المهدي، فانطلق مشروع عصائب أهل الحق، في أول ملامح انشقاق صريح عن الصدر.
ومع هذا فالانشقاق لم يكن أمرًا مفاجئًا، إذ حدث لأول مرة عام 2004 بعد توقيع جيش المهدي اتفاقًا لوقف إطلاق النار مع الحكومة العراقية والجيش الأمريكي، حينها استمر الخزعلي في إعطاء أوامره بالقتال دون الرجوع إلى الصدر.
وبينما عادت الأمور إلى مجاريها بين الخزعلي والصدر في مصالحة جرت بينهما منتصف عام 2005، ظهرت بعد أقل من عام عصائب أهل الحق مستقلةً عن جيش المهدي، بعدما أعلن الصدر حله واستبدال لواء اليوم الموعود به، وطالب العصائب بالانضمام إليه، لكنها رفضت.
على هذا النحو خرجت العصائب، أو كما يطلق عليها مؤيدوها «المقاومة الإسلامية في العراق»، من العباءة الصدرية، وشكلت أربعة فروع عسكرية رئيسية؛ كتائب الإمام علي، كتائب الإمام الكاظم، كتائب الإمام الهادي، وكتائب الإمام العسكري، بقوام تراوح بين 7 آلاف و10 آلاف عضو.
بدأت بقيادة الخزعلي في توسيع نفوذها وجذب المجندين، عبر تقديم نفسها كحامية للشيعة داخل العراق وخارجه. استخدمت الإعلانات الملصقة. تصدرت دعواتها للمجندين محطات التلفزيون العراقي. أنشأت خطًّا ساخنًا للاتصال بها، ومراكز التجنيد حيث يمكن للمتطوعين الانضمام إلى الشيعة الذين يقاتلون في العراق وسوريا كذلك.
بالتوازي مع هذا، قامت بمحاكاة حزب الله في لبنان من خلال إطلاق برامج خدمات اجتماعية للأرامل والأيتام. لجأت إلى إنشاء شبكة من المدارس الدينية المعروفة باسم خاتم الرسل. كمرافق للدعاية والتجنيد. من خلال هذه المدارس أطلقت شعاراتها عن الإصلاح الديني والاجتماعي في محاولة لإغراء الحاضرين بالانضمام أو التمويل أو المساهمة بطريقة أخرى في مهامها وعملياتها.
من ضمن هذه العمليات وأشهرها هجومها في يناير/كانون الثاني 2007 على مركز التنسيق المشترك بين المحافظات العراقية الأمريكية في كربلاء، ما أسفر عن مقتل 5 أمريكيين من جانب، وإلقاء واشنطن القبض على الخزعلي من جانب آخر.
استمر الخزعلي في قبضة الأمريكيين حتى أوائل عام 2010 حينما أُطلق سراحه بعد أن اختطفت العصائب 5 خبراء بريطانيين أثناء وجودهم داخل وزارة المالية في بغداد حيث بادلتهم بزعيمها الخزعلي.
رجل الميليشيات: من القتل إلى السياسة
مثَّل إطلاق سراح الرجل، ومن بعده الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011 نقطة جديدة في مساره. توجه قائد الميليشيا إلى السياسة. فأصبحت العصائب ذات اتجاهين، أحدهما عسكري والآخر سياسي. أعاد تسميتها من مقاومة إسلامية معادية للغرب إلى كتلة الصادقون السياسية، وأمينها العام الخزعلي.
جاء التحول أيضًا على مستوى الأهداف، فتحولت من مهاجمة منشآت القوات الأمريكية إلى الحفاظ على دولة عراقية يسيطر عليها الشيعة، ليتجاوز الصدريين باعتبارهم أكثر الجماعات الشيعية نفوذًا بالداخل العراقي.
ومنذ تأسيس الصادقون عام 2014 شاركت، الكتلة في إطار ائتلاف دولة القانون الذي يرأسه زعيم حزب الدعوة نوري المالكي في الانتخابات البرلمانية ذلك العام. حصلت حينذاك على مقعد واحد في مجلس النواب العراقي، لكنها تمكنت خلال السنوات التالية من زيادة عدد مقاعدها إلى 15 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا في انتخابات عام 2018.
جاء ذلك بالطبع عقب افتتاح الخزعلي عددًا من المكاتب السياسية للكتلة بمختلف مدن العراق مثل البصرة والنجف والحلة والكلس وتلعفر. وإرسال ممثلين سياسيين إلى محافظات ذي قار والمثنى وميسان في الجنوب للقاء زعماء القبائل والأقليات.
والحقيقة أن الخزعلي لم يكن الأول الذي يسلك هذا المسار، فمنذ عام 2003، انتقل عدد من الجهات الفاعلة العراقية تدريجيًّا من الميليشيات إلى الكتل السياسية. وكان مقتدى الصدر والتيار الصدري من خلفه بالإضافة إلى جماعة منشقة تدعى الفضيلة، أولى الحركات المنتقلة.
احتفظت هذه الحركات بعدد كبير من الميليشيات في الفترة بين عامي 2004-2008 ولكنها اختارت نزع سلاح معظم قواتها نتيجة مجموعة متضافرة من الضغوط العسكرية والسياسية من جانب الحكومة العراقية، والولايات المتحدة.
وحاليًّا، يشكل تكتل سائرون من أجل الإصلاح بقيادة الصدر أكبر كتلة في البرلمان، بنحو 54 مقعدًا، وفي الوقت ذاته، لا تزال الحركة تقود ميليشيا قوية قوامها 12 ألف فرد تحت اسم سرايا السلام. كذلك تبعها في المسار ذاته منظمة بدر، وهي جماعة معارضة شبه عسكرية تدعمها إيران، إذ تقود ثاني أكبر كتلة في البرلمان. وتعتبر أيضًا المزود الرئيسي للعناصر في قوات الحشد الشعبي، حيث يبلغ قوامها ضعف عدد ميليشيا «سرايا السلام».
واليوم تنضم إليهم العصائب، بقيادة الخزعلي، الذي تمكن عام 2017 من تحويل الجماعة إلى حزب عصائب أهل الحق، ليحل محل الصادقون الجناح السياسي السابق لها. وعاد في العام التالي ليبدي استعداده لتسليم أسلحة الجماعة إلى الدولة ودمج ميليشياتها في قوات الأمن العراقية.
حوافز عدة: هل يصبح الخزعلي رجل السياسة؟
هكذا قدم الخزعلي مجموعة من الحوافز للدولة العراقية مقابل انضمامه إلى التيارات السياسية الرئيسية بها، وردد العديد من الشعارات المنادية بتقوية الدولة أمام التدخلات الخارجية سواء كانت من الولايات المتحدة أو إيران أو حتى دول الخليج. فتراه تارة ينفي التبعية لإيران وينأى عنها فيؤكد أنه:
وتارة أخرى يتهم الإمارات والسعودية برسم المخططات للتغلغل بالعراق، ويلقي عليهما تهمة قتل المتظاهرين متوعدًا إياهما بدفع ثمن دماء العراقيين.
ورغم هذا، فالعقبة الرئيسية أمام الخزعلي ذلك التناقض الواضح بين الشعارات والدور الذي تقوم به عصائبه على أرض الواقع. فطيلة تاريخها، قامت العصائب بجرائم طائفية وجرائم حرب بحق العراقيين حتى الشيعة منهم ممن وفقوا في طريقها أو عارضوها. كما ارتكبت العديد من العمليات الإرهابية ما تسبب في تدهور الأوضاع الأمنية عمومًا وخلْق مناخ من انعدام سيادة الدولة والقانون. فضلًا عن تكريس التوغل الإيراني بالعراق بشكل كبير بحكم تبعيتها لها.
ارتبطت مشاركة العصائب في الحرب ضد التنظيم، بجرائم حرب ضد العراقيين السنة حيث قتلت الآلاف من سكان محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وكركوك، ونفذت عمليات إعدام جماعية لم تُستثنَ الأطفال والنساء منها.
ظهر الأمر بشكل أكثر وضوحًا عام 2014 مع تأسيس الحشد الشعبي لمحاربة تنظيم داعش، وإدماجه بالمنظومة الأمنية العراقية في يونيو/حزيران 2015، فأصبح الحشد الغطاء القانوني الذي تعمل تحت رعايته تلك العصائب وغيرها.
وفي أواخر عام 2015، قادت عمليات تهجير السنة في محافظة ديالى، عن طريق قتلهم وتفجير بيوتهم ومساجدهم، فضلًا عن عمليات الخطف التي كانت إحدى طرقهم للحصول على الإيرادات المالية.
بالطبع فالمنشآت الحكومية لم تسلم من جرائمها، إذ فككت مصفى بيجي في محافظة صلاح الدين أكبر مصافي النفط في العراق ونقلتها أجزاء مجزأة إلى إيران. كما استولت على أسلحة من مخزونات الجيش العراقي، المقدمة من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وإيران، لاستخدامها في عملياتها.
أيضًا انتقلت جرائمها إلى سوريا، حينما شاركت في الدفاع عن نظام بشار الأسد وحصار حلب عام 2016 إلى جانب حزب الله اللبناني، ومنظمة بدر، وكتائب حزب الله العراقي. فأثناء تواجدها هناك ارتكبت جرائم طائفية ضد السوريين من بينها اختطاف مئات من السوريين السنة وتعذيبهم.
كل هذه الجرائم تم توثيقها رسميًّا في تقرير منظمة العفو الدولية عام 2017، الذي ركز على جرائم العصائب إلى جانب منظمة بدر، وكتائب حزب الله، وسرايا السلام.
حتى العصائب الجديدة وخلال مشاركتها في العملية الانتخابية بالعراق، لم تتخلَّ عن سلوكها العدواني بحق العراقيين. ففي انتخابات مايو/أيار 2018، وقف أعضاء العصائب خارج مراكز الاقتراع في المناطق السنية في شمال وشرقي بغداد، وقادوا مئات الناخبين إلى صناديق الاقتراع لانتخاب مرشحيهم باستخدام التهديد الجسدي.
أمام هذه الانتهاكات والجرائم بقيت مختلف الميليشيات وفي مقدمتها عصائب أهل الحق وزعيمها الخزعلي دون عقاب. حتى بعد مختلف تأكيدهم في أحيان كثيرة التبعية لإيران، وبعد مختلف التقارير الدولية التي رصدت حجم التمويل الإيراني لهم الذي وصل إلى 20 مليون دولار شهريًّا عام 2007، ونحو 5 ملايين دولار عام 2012، و1.5 مليون دولار في 2014. فضلًا عن المساعدات اللوجستية والتدريب على يد الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس.
أما اليوم، فبعد اتهامهم بقتل المتظاهرين بالعراق يبدو أن هناك بصيص أمل في تحجيم العصائب ومختلف ميليشات الحشد الشعبي، وهو ما ظهرت بوادره في توجيه رئيس مجلس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، في 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري بعدم تدخل الحشد في قضايا الأمن واقتصار مهامه بالقوات المسلحة.
في النهاية، يجب الإشارة إلى أن محاولات التحجيم هذه سواء من الداخل العراقي أو الولايات المتحدة هي نتيجة المخاوف المتزايدة من مسار حزب الله اللبناني الذي بدأت تسلكه ميليشيا العصائب وغيرها عبر الاستعانة بجناح سياسي للتغطية على الجانب العسكري وكسب شرعية عبر البرلمان والحصول على حقائب وزارية على قدر تمثيلهم، ما يعيق مستقبلًا اتخاذ أي إجراء ضدهم، كما يجري الآن مع حزب الله الذي كسب غطاءً سياسيًّا بفضل وجوده في البرلمان.